في 19 أبريل نيسان عام 1929 خرج شمس الدين بدران إلى الوجود طفلاً بريئاً.. وباكياً لأول مرة في حياته.
وما بين بكائه لحظة مولده وبكائه يوم 5 يونيو حزيران عام 1967 وهو وزير للحربية في مصر، لحظة مواجهة الحقيقة المريرة التي حاول تجاهلها بحربٍ كلامية لا طائل من ورائها، مسافةٌ زمنية طويلة نما فيها الطفل الصغير وأصبح شاباً.. ليتخرج في أغسطس 1948 في الكلية الحربية وليحصل على البكالوريوس في العلوم العسكرية ثم شارك في حرب فلسطين، وحوصر في الفالوجا مع زميله جمال عبد الناصر الذى أصبح فيما بعد رئيساً لمصر بعد أن شارك مع رفاقه الضباط الأحرار ومن بينهم شمس بدران في ثورة 23 يوليو تموز عام 1952.
بعدها لعب شمس بدران دوراً مهماً في معركة 1956 قبل أن يصبح عضواً لمجلس إدارة مؤسسة النقل العام لمدينة القاهرة، فمديراً لمكتب المشير عبد الحكيم عامر وهو في السابعة والثلاثين ثم وزيراً للحربية "معروفٌ بالاستقامة والنزاهة والصدق والعمل المستمر ليل نهار ومحبوبٌ من جميع زملائه"، كما نشرت جريدة "الأخبار" في 11 سبتمبر أيلول عام 1966.
مشوارٌ عجيب وغريب قطعه شمس بدران دعونا نتجاوزه لنركز على حكايته مع وزارة الحربية هذه التي شهدت الكثير من "الكلام" والأقاويل التي لا تستند إلى أرقام أو حقائق، قبل أن تنتهي بجملةٍ شهيرة نقلها د. ثروت عكاشة وزير الثقافة سابقاً عن شمس بدران مساء الخميس 8 يونيو حزيران عام 1967عندما قال وزير الحربية: "أما اتخمينا حتة خمة".
لم يجد أحدٌ من الموجودين طبعاً ما يعلق به..لكن بالقطع فإن أغلبهم تذكروا جلسة مجلس الوزراء يوم 31 مايو أيار عام 1967عندما وصل شمس بدران بصحبة ضابطين كل منهما يحمل خرائط، ثم بدأ يشرح لأعضاء المجلس خطته للقضاء على إسرائيل وهو يبتسم ابتسامةً لا تتفق مع خطورة الأوضاع.
وكان بيانه يؤكد الثقة المتزايدة في قدراتنا العالية واستعداداتنا الكاملة حتى أن أمين هويدي وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء كما أورد في كتابه "الفرص الضائعة" أبدى قلقه من الأوضاع المحلية والعربية ومن احتمال تدخل الولايات المتحدة بأساطيلها على الأقل. وعندما سأل أنور سلامة وزير العمل آنذاك عن استعدادات مصر لمواجهة الأسطول الأميركي السادس، كان رد شمس بدران بالحرف الواحد "عندنا اللي يبططه"!
الجانب المأساوي حقاً في الموضوع أن طائرات الأسطول السادس ضربت قواتنا البرية وكبدتنا خسائر فادحة خلال حرب 5 يونيو حزيران عام 1967.. ولا داعي لنكأ الجراح.
هكذا كان يفكر شمس الدين بدران وهكذا كانت مفرداته العسكرية والسياسية كوزيرٍ لحربية مصر. وكأن مهمة الرجل في هذا المنصب الخطير كانت الكلام فقط.
فها هو الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة يقول في نص شهادته أمام لجنة تسجيل تاريخ ثورة يوليو التي أوردها سليمان مظهر في كتابه "اعترافات قادة حرب يونيو" إن "من ضمن الأسباب في تعيين شمس بدران وزير حربية (باختصاصات موسعة جداً) أن يعطى مركز القمة التنفيذي في القوات المسلحة أمام السلطة التشريعية؛ لأن شخص المشير لا يمكن أن يجلس على كرسي في مجلس الأمة ويرد على سؤال أو استجواب".
وخلال زيارته لموسكو في الفترة من 25 – 28 مايو أيار 1967 عقد شمس بدران اجتماعين مع القادة السوفييت..وفي جلسة 26 مايو أيار، صورَّ وزير الحربية الموقف للسوفييت كما تقول المحاضر الرسمية كالتالي: "أود أن أبلغكم والرفاق أننا غاية في القوة وقادرون على الموقف الحالي تماماً، ولا تخشوا علينا شيئاً، والروح المعنوية عاليةٌ في قواتنا لدرجة أننا كنا كمن "نلجم الحصان" مع قواتنا التي تريد أن تنطلق لمواجهة العدو".
ويمضى شمس بدران إلى القول في ثلث الجلسة "إن قواتنا موزعة في عدة محاور لدرجة أن إسرائيل لا تعرف من أين سيأتيها الهجوم..ولذلك سحبت قواتٍ كبيرة من الجبهة السورية إلى سيناء ومركزتها هناك..وأصبحت حرية الحركة أمامها محدودة جداً.. وواضح من توزيع قوات اسرائيل وبعثرتها أنها في حيرة".
ويُلاحَظُ أن وزير الحربية شمس بدران كان مرتاحاً تماماً لحشد القوات الإسرائيلية أمام الجبهة المصرية!
وبكل الغرور الذي اجتاح القادة العسكريين في تلك الفترة، نجد شمس بدران يؤكد أن قواتنا في شرم الشيخ قادرةٌ على منع الملاحة الاسرائيلية في خليج العقبة.. وأننا حوّلنا قطاع غرة إلى جزرٍ دفاعية بحيث يستحيل على إسرائيل احتلال أي مدينة.
بل إنه يؤكد أن: إسرائيل بعد أسبوعٍ من الاستعداد لن يمكنها عمل شيء ضد قواتنا، وإلا فستنال ضربةً قاصمة..وحتى إذا وجهت جميع قواتها إلى جبهتنا وتركت باقي الجبهات خالية، فنحن مستعدون لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل..فلا يهمنا أميركا ولا غير أميركا!
وفي شهادته على تلك الزيارة يقول د. مراد غالب الذي كان سفيراً لمصر في الاتحاد السوفيتي لمدة أحد عشر عاماً إنه عندما اجتمع شمس بدران مع وزير الدفاع السوفييتي أندريه غريتشكو دار الحوار بينهما على النحو التالي:"غريتشكو: نحن نرى أن الأوضاع خطيرة جداً وأنك ستقابل كوسيغين رئيس الوزراء، فما هو فحوى الرسالة؟
فيرد بدران بأسلوبٍ متعال: وإذا ما قلت لك الرسالة فماذا سأقول لكوسيغين؟!، فتململ غريتشكو وسأله: هل أغلقتم مضيق ثيران؟ فرد بدران قائلا: آه، فسأله غريتشكو: وإذا أرادت سفينةٌ إسرائيلية عبور المضيق ماذا ستفعلون؟ رد بدران: سنمنعها.. فسأله غريتشكو، وإذا ما جاءت سفينة أخرى من أى بلد في العالم ماذا ستفعلون؟ فرد بدران: سنمنعها..فسأله غريتشكو: وإذا ما جاءت مجموعة أساطيل تحت قيادة الأسطول الأميركي وأرادت دخول المضيق ماذا ستفعلون؟ فرد بدران: إذاً العالم كله يشهد أن أميركا دخلت الحرب ضد دولة صغيرة من العالم الثالث. فتململ غريتشكو بشدة لهذه الإجابات غير المسؤولة وغير المقبولة.
"وانتهت المقابلة التي أظهرت أن وزير دفاعنا بهذا الحجم من المعرفة العسكرية البسيطة.
"ثم قابل رئيس الوزراء السوفييتي أليكس كوسيغين وزير الحربية شمس بدران الذي قال له إنه يحمل رسالة من القيادة المصرية ويريد أن يعرف رأي الاتحاد السوفييتي. وأكد له أن الحشود المصرية لها ثلاثة أهداف وهي وصول جزء من القوات المصرية إلى إيلات جنوباً والجزء الثاني إلى وسط إسرائيل، أما الثالث فسيصل إلى تل أبيب والقدس.
كان بدران يقول هذا الكلام بينما طليعة القوات المسلحة المصرية وأكثرها تدريباً وتسليحاً موجودة في اليمن والقوات التي حشدوها كانت قوات احتياطي وكان الجنود يركبون الدبابات بالجلاليب وساروا أمام السفارة الأميركية بالقاهرة لاستعراض قوتهم الجبارة وقاموا بتعيين الفريق عبدالمحسن مرتجى قائداً للجبهة ومحمد فوزي رئيساً للأركان وكان سليمان عزت رئيسا للقوات البحرية وصدقي محمود قائداً لسلاح الطيران.
وبعد أن كشفت المحادثات عن موقف موسكو الواضح الذي يتحفظ على دعم القاهرة عسكرياً إن هي بدأت بالحرب، ودعوة مصر إلى الانسحاب وعدم توتير الموقف على الحدود مع إسرائيل..انتهت زيارة شمس بدران للاتحاد السوفييتي. وعلى سلم الطائرة سلم غريتشكو على شمس بدران وقال له: "لا تنزعجوا نحن معكم"، وهي مجرد كلمة مجاملة لا أكثر ولا أقل..لكن بدران نحى كل الأسئلة والمناقشات التي دارت معه حول قدرة الجيش المصري واحتمالات الحرب ودخول الولايات المتحدة طرفاً فيها.. إلخ وتمسك بهذه الكلمة فقط.
وشمس بدران لم يكن مع هذه الثقة الزائدة في النفس من النوع الذي ينقل الرسائل والانطباعات بشكلٍ دقيق. ويكفي أن نشير إلى أنه نقل للرئيس جمال عبد الناصر انطباعاته عن رحلته للاتحاد السوفيتي السابق نقلاً محرَّفاً تماماً.
وادعى بدران في مذكرة قدمها، بعد عودته، إلى عبد الناصر، بأن المارشال غريتشكو قد أبلغه وهو يودعه أمام سلم الطائرة: "أريد أن أؤكد لكم أنه إذا حدث شيء واحتجتم لنا فمجرد إرسال إشارة نحضر لكم فوراً في بور سعيد أو في أي مكان". وعندما عاد شمس بدران من رحلته صرح في اجتماع لمجلس الوزراء المصري بأن الاتحاد السوفييتي معنا، وأنهم مستعدون لضرب الأسطول السادس الأميركي. وطبقا لتعبير شمس بدران، فإنهم "سيشفونه عظم ولحم" أي: سيمزقونه. ولكن السفير أحمد حسن الفقي (وكان عضواً في الوفد المصري خلال رحلة موسكو) كذَّب ـ بعد أن وقعت الكارثة ـ هذا القول، وقال إن الاتحاد السوفييتي لم يعد بشيء من هذا القبيل، وإن شمس بدران كان مشغولاً بشراء أثاث ولوازم لمنزله!
وتصريحات بدران أخلت بحسن تقدير القيادة المصرية للموقف من المعركة الوشيكة. وقد أثير بعد انتهاء الحرب لغطٌ وشكوك حول مصداقية شمس بدران في نقل هذا التأكيد.
إنها مأساةٌ إغريقية كان شمس بدران أحد ابطالها، لدرجة أن الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل يشير في كتابه "حرب الثلاثين سنة: 1967 الانفجار" إلى أنه عندما أضيف إلى مجموعة القادة العسكريين المحيطين بالمشير عبد الحكيم عامر منذ سنواتٍ طويلة شمس بدران كوزيرٍ للحربية.. فإن صورة الإدارة اختلطت بصورة الأمن.
وحين يكون الأمن أحد المكونات الرئيسية في طبق الإدارة.. تأكل الشعوب الحِصْرِم.
http://yasser-best.blogspot.com/2007/08/1_26.html
شمس بدران (2): وزير الحربية..يتاجر في الجُبن
الحرب مثل الشمس، حارةٌ بما يكفي لإزالة الأصباغ والمساحيق.
إنها أكثر الطرق إيلاماً لاكتشاف الحقيقة والكشف عن الأكاذيب.
في مذكرات عبداللطيف بغدادي عضو مجلس قيادة الثورة يقول: طوال أيام المعركة كان شمس بدران وزير الحربية موجوداً مع المشير عبد الحكيم عامر بالمكتب، وينام معه في الغرفة الملحقة بمكتبه. وكان واضحاً جهله بإدارة العمليات الحربية ويظهر أنه يعلم هذا عن نفسه ولذا لم يكن يعمل شيئاً طوال هذه الأزمة إلا تقديم بعض الأوراق لعبد الحكيم الواردة إلى مكتبه.
وعندما اندلعت حرب يونيو حزيران 1967 كان المشير عامر معلقاً داخل طائرة كانت في طريقها إلي قاعدة المليز الجوية بسيناء, وكان القادة الكبار هناك بانتظاره، أي أن الحرب بدأت وليس هناك قائد في مقر قيادته.
وبالنسبة للثقافة العسكرية للمشير عامر, فقد توقف به العلم عند رتبة الصاغ (الرائد), أما وزير الحربية شمس بدران فقد توقفت به رحلة العلم وخبرة القتال عند رتبة الملازم أول.
وفي مذكراته التي تحمل عنوان "حرب أكتوبر 1973"، يقول محمد عبد الغني الجمسي: "وجاء الدور على شمس بدران وزير الحربية بتقديمه للمحاكمة، وأثناء هذه المحاكمة في فبراير 1968 سأله رئيس المحكمة عن رأيه فيما حدث، وترتب عليه هزيمة يونيو، رد قائلاً: "لما تطور الموقف، ورأينا أننا لازم نسحب البوليس الدولي ـ قوات الطواريء الدولية ـ علشان نبين إن إحنا جاهزين للهجوم، لأن وجود البوليس الدولي يمنع أي عملية دخول لقواتنا، وانسحب البوليس الدولي، استتبع ذلك احتلال شرم الشيخ الذي استتبع قفل خليج العقبة.
"وكان الرأي أن جيشنا جاهزٌ للقيام بعمليات ضد إسرائيل، وكنا متأكدين 100% إن إسرائيل لا تجرؤ على الهجوم أو اخذ الخطوة الأولى أو المبادرة بالضربة الأولى، وأن دخول إسرائيل أي عملية معناها عملية انتحارية لأنها قطعاً ستهزم في هذه العملية".
"ولما سألته المحكمة مستفسرةً عن رأيه في أن الرئيس عبد الناصر قرر قفل خليج العقبة بعد أن أخذ تمام من القائد المسؤول، رد شمس بدران قائلاً: " القائد العام ـ المشير عامر ـ أعطى تمام وقال أقدر أنفذ، وبعدين من جهة التنفيذ كان صعب عليه".
"علق رئيس المحكمة على كلام شمس بدران بقوله: "والله إذا كانت الأمور تسير بهذا الشكل وتحسب على هذا الأساس، ولا تكون فيه مسؤولية الكلمة ومسؤولية التصرف، يبقى مش كثير اللي حصل لنا".
وطبعاً هناك فارقٌ كبير بين غرور شمس بدران قبل حرب يونيو حزيران عام 1967وحاله بعد الهزيمة.. إذ نجده يسارع إلى الاتصال هاتفياً بعبد الناصر يوم 8 يونيو حزيران من ذلك العام قائلاً له: "إن المشير مصممٌ على الانتحار". فها هو شمس بدران وقائده المشير عبد الحكيم عامر في مأزقٍ نفسي شديد بعد الانهيار.
وفي 10 يونيو حزيران عام 1967 قدم كلٌ من المشير عبد الحكيم عامر، ووزير الحربية شمس بدران، استقالتيهما.
الغريب فعلاً أن نجد عبد الناصر أثناء اجتماعٍ له بعد هزيمة يونيو حزيران مع المشير عامر، يفكر في الاستقالة مع قبول اقتراح المشير عامر بأن يكون شمس بدران رئيساً مؤقتاً للجمهورية ريثما يتم ترتيب الأمور. لكن هيكل يسارع إلى تبرير ذلك بالقول إن عبد الناصر كان ظنه في هذا الوقت أن وجود شمس بدران على رأس الدولة وهو وزيرٌ للحربية قد يكون عاملاً قادراً على تفادي احتمال الصدام بين الجيش والجماهير.
والشاهد أن مصر كلها ممتنة للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في ذلك الدور الذي لعبه خلال الساعات الحاسمة التي تلت هزيمة يونيو حزيران عام 1967 عندما أقنع الرئيس جمال عبد الناصر بالتخلي عن فكرة تعيين شمس بدران رئيساً للجمهورية، الأمر الذي لو حدث لتغير تاريخ مصر كلها في اتجاهات عنيفة.
ولنا ملاحظةٌ مهمة في هذا الصدد..وهي ولاء شمس بدران..وهل كان هذا الولاء للرئيس عبد الناصر أم للمشير عامر. سؤالٌ صعبٌ وحساس، لكن الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجى قائد القوات البرية آنذاك حسم هذه المسألة في شهادته أمام لجنة تسجيل تاريخ الثورة عندما سُئِلَ في هذا الشأن فقال بالحرف الواحد: "الواقع أنه كانت توجد مجموعة شبكات..كلها تتجسس على بعضها في القوات المسلحة..شبكةٌ تتبع المخابرات العامة..وشبكةٌ تتبع المخابرات الحربية..وشبكات تتبع شمس بدران..وشبكات تتبع سامي شرف..وهناك استقطاب لبعض القادة على المستوى الأكبر".
ثم يقول الفريق أول مرتجى في شهادته: "في تصوري أن شمس بدران في البداية كان ولاؤه للرئيس الراحل..وكان الرئيس بيطمئن لوجوده في القوات المسلحة على اعتبار أنه يكون عينه هناك. بعد فترة من الزمن شعر أن ولاء شمس بدران بدأ يتحول نحو المشير..وطبعاً كان شمس يلعب على الحبلين، خصوصاً بعد أن تواجدت الحساسية بين عبد الناصر والمشير في 1962 بعد الانفصال، فاستغلها على الجانبين".
وبعد اعتزال شمس بدران منصبه والتحفظ عليه، بدأ مؤشر الكلام يهبط عنده تدريجياً، بالتوازي مع مؤشر النفوذ، في حين زادت المشكلات والشكاوى ضده. وبعد سنواتٍ قلائل وبالتحديد في يوليو تموز عام 1977 طعنت النيابة بالنقض في حكم تعذيب جماعة "الإخوان المسلمين" وطالبت بإعدام شمس بدران.. ثم قدم النائب المستقل ممتاز نصار سؤالاً في الشهر التالي لوزير الداخلية عما إذا كان وزير الحربية سابقاً قد غادر البلاد بجواز سفرٍ دبلوماسي متوجهاً إلى لندن، وكيف تم التصريح له بذلك..مطالباً الحكومة المصرية بمخاطبة السلطات البريطانية لتسليم شمس بدران.
لكن الحكاية نامت كغيرها من حكايات "الأيام دول" التي عشناها أو حتى سمعنا عنها، إلى أن سمعنا في نهاية يناير كانون أول عام 1989 عن طلاق منى مصطفي رشدي زوجة شمس بدران –وكانا قد عقدا قرانهما في 7 يونيو حزيران عام 1963 في نادي القوات المسلحة بالزمالك- بموجب حكمٍ قضائي من المحكمة الكلية للأحوال الشخصية؛ لغيابه عنها ثلاث سنوات. وأكدت المحكمة تغيبه دون معرفة محل إقامته.
وقبل ذلك وفي فبراير شباط عام 1987، أعيدت محاكمته غيابياً مع اللواء محمد الجنزوري والمقدم حسن كفافي وآخرين، بتهمة اشتراكهم في تعذيب جماعة "الإخوان المسلمين".
غير أن شمس بدران بعد الهروب إلى لندن، لم يمنع نفسه من أن يحاول غسل يديه من الكثير من الأحداث التي ارتبطت باسمه، مثل اعتقالات جماعة "الإخوان المسلمين" وتعذيبهم وإعدام عدد من قادتهم. وقد أقر في حديث للصحفي جلال كشك بمجلة "الحوادث" اللبنانية أنه تصرف في عملية اعتقال "الإخوان المسلمين" عام 1965 حسب الموقف ولم يحصل على أوامر من أحد..ولكن لأنه وزير الحربية كان في سباق مع الزمن وكان لابد أن ينتزع اعترافات المتهمين وعددهم 300 بأي صورة حتى وإن كانت القسوة هي الحل.
ولتبرئة نفسه، يقول بدران لمجلة "الحوادث" اللبنانية: "اتفقت مع الرئيس عبد الناصر على أنه بعد صدور الأحكام في القضية يخفِّف أحكام الإعدام، ثم سافرتُ إلى لندن للعلاج، وهناك علمتُ أنه تم تنفيذ الإعدام في ثلاثة، ولما عدت سألت فعلمت أن الرئيس صدَّق على هؤلاء الثلاثة؛ لأنه سبق الحكم عليهم في 1954.. وقد تألمت جداً لإعدام هوَّاش؛ لأنه من واقع التحقيقات لم يشترك في أي اجتماع للقيادة، وأقصى ما يمكن أن يُتَّهم به هو أنه علِم ولم يبلِّغ، وقلت للمشير: أنا لازم أكلم الرئيس في موضوع هواش؛ لأنه لا يستحق الإعدام.. فقال لي المشير: بلاش لحسن الرئيس ضميره يتعبه" ("مذابح الإخوان في سجون ناصر"- جابر رزق- ص 125).
وهواش الذي يقصده بدران هو الناشط الإخواني محمد يوسف هواش، الذي أعدِمَ مع المفكر الإسلامي سيد قطب في 29 أغسطس آب عام 1966.
وفي لندن، أصبح شمس بدران تاجراً في كل شيء، وأصبحت له في فترةٍ من الفترات تجارته في صناعة الجُبن. وفي "المحيط" نقرأ هذه المفارقة في معنى كلمة الجُبن:
"الجُبْنُ : تهيُّبُ الإقدامِ على ما لا ينبغي أن يُخاف؛ لن ينقذك الجبنُ من المهالك.-: مادّة غذائيّة تُصنع من اللّبن".
وكان شمس بدران صديقاً شخصياً للموسيقار محمد عبد الوهاب، وعنده استوديو تسجيل خاص به.. فكان يدعو عبد الوهاب ويحضر له الأشعار المنتقاة ويطلب منه تلحينها وغناءها، وكان عبد الوهاب يقوم بذلك ولحن وسجل حوالي عشرين لحناً وهي الآن في عهدة شمس بدران الذي يرفض الإفراج عنها..وحدث أن قابلته نهلة القدسي بعد وفاة زوجها عبد الوهاب، وقدمت له شيكاً على بياض مقابل تسليمها التسجيلات، لكنه طلب إنتاجها بشركة يؤسسها معهم، فأجابته نهلة: "كيف نؤسس شركة ولنا شركتنا؟!"..فرفض تسليمها الألحان.
ألم نقل من البداية أنها مشكلة رجلٍ تكلم كثيراً..إلى أن التهمت الهزائم الفادحة لسانه
http://yasser-best.blogspot.com/2007/08/2_26.html