المسألة مسألة فساد المقاولين، ثم كان أحد أسباب مأساة جدة العام المنصرم هو بناء بيوت في مجرى السيول. إليكم هذا المقال القديم حول القضية:
أربع أساطير حول كارثة جدة
في هذه الذكرى المؤلمة أود أن أناقش أربع أساطير متعلقة بالكارثة يجب علينا نقضها من جذورها وطردها من وعينا كي نفهم ما حصل وما يجب أن يحصل..
الأسطورة الأولى: الكارثة كانت كارثة طبيعية
نعم الأمطار شيء طبيعي، والسيول ظاهرة طبيعية، هذا صحيح.
ولكن بناء بيوت المساكين والضعفاء في مجاري السيول ليس طبيعياً، إنه جريمة. وجود مدينة كاملة بدون شبكة صرف صحي ليس من أفاعيل الطبيعة، إنه من أفاعيل المجرمين واللصوص. التعاقد مع مقاولين فشلوا مراراً وتكراراً في إتقان مشاريعهم ليس أمراً يحصل رغما عن أنف المسؤولين مثلما تحصل الأمطار والرياح والغيوم. عدم صرف الاعتمادات المالية بالسرعة المطلوبة ليس ظاهرة طبيعية، وكذلك سوء التخطيط وسوء الإدارة والإهمال، إلخ.
إنها أفعال بشرية.
الأمطار والسيول بريئة.. فهي تسقط على العديد من الدول حول العالم وبغزارة تفوق بمراحل غزارة أمطار جدة، وبعض هذه الدول أقل منا بكثير في الامكانيات، ومع ذلك لا تحصل لهم اي مشكلة: لا أحد يموت، لا نفق يغلق، لا شوارع تنهار، لا ممتلكات تتهدم، ولا مؤسسات حكومية ومستشفيات وجامعات ومطارات تغرق وتتعطل وتخسر الملايين. المطر نعمة، ولكن الإجرام حوّله لـ”قطرات رحمة من السماء لم نحسن استقبالها” كما قال جميل فارسي في
مقاله الممتاز أثناء الكارثة.
الأسطورة الثانية: أمانة جدة هي المسؤولة
تصوير الأمانة على أنها المسؤولة الوحيدة و/أو الأساسية عن الكارثة هو كارثة بحد عينه. فالبعض يتصور أن الأمانة عضو فاسد في جسد صالح. كتبت د.فوزية البكر
مقالاً وقت الكارثة ذكرت فيه أن “تركيز الغضب الشعبي على الأمانة سيجعل الأمانة تظهر وكأنها نقطة فاسدة في محيط من الصلاح، والحقيقة أنها جزء من نظام أكبر وجزء من فساد عظيم يعم غيرها من المؤسسات”. الأمانة لها أجهزة أعلى منها سلطة (مثل وزارة الشؤون البلدية والقروية) ولها جهة موازية لها (المجلس البلدي) ولها جهات أدنى منها ومقاولون وشركات تتعاقد معها، ولها مؤسسات حكومية تعمل بشكل مستمر معها مثل الأمارة والمحافظة وإدارات الشرط والمرور والدفاع المدني والأرصاد وحماية البيئة وهيئة المساحة الجيولوجية وغير ذلك. نحن لا نقول أن كل هذه الجهات مذنبة بالضرورة ولكننا نقول أنها متهمة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا يمكن أن تثبت إدانته إلا بقطع الشك باليقين.
وأحب أن أعيد هنا ما قلته في مقال سابق لي بعنوان (
كارثة جدة تجعلنا نسأل: هل هو فساد موضعي أم بنيوي؟) : “إ
ذا تركنا الناحية البلدية من الكارثة وجئنا للناحية الإغاثية فنتساءل أين خطط الطواريء لدى الدفاع المدني والجهات المختصة؟ أين التعاون مع فرق الغواصين والمهندسين في القطاعات العسكرية المختفلة؟ هل قامت الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة بالتحذير من الكارثة أم لا؟ وإذا أخذنا الناحية المالية ستقابلنا أسئلة رئيسية أخرى مثل: هل المبالغ المعتمدة كافية؟ وهل تصرف بالسرعة المطلوبة؟ وهل تصل هذه المبالغ إلى المراد منها؟ وهل يراجع أعضاء مجلس الشورى وزارة المالية وميزانيتها السنوية؟ وكم كان مقدار عنايتنا بتقارير ديوان المراقبة العامة الذي قال رئيسه قبل نصف عام تقريباً إن «
ديوان المراقبة لا يراجع الحساب الختامي للدولة على الرغم من أن النظام كفل له ذلك» مطالباً سرعة إصدار النظام الجديد الذي رُفع من ١٢ عاماً، إذ أن الديوان يعمل بلوائح صادرة قبل نحو ٣٠ عام؟! وإذا تجاوزنا ذلك إلى الناحية الصحية يحق لنا أن نتساءل عن دور وزارة الصحة في خطط الكوارث،
وعن سوء توزيع الخدمات الصحية في جدة بل ومناطق المملكة كلها، فتجد الآلاف من سكان الأحياء المتضررة لم يكن لهم قبل الكارثة إلا مستشفى واحدة وليست حكومية، وبعد الكارثة غرقت وصاروا بلا مستشفى! ما الذي فعلناه حين رفعت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان عدة موضوعات لوزير الصحة كان على رأسها «عدم توزيع الخدمات بشكل متوازن على مناطق المملكة» أو حين أوصت «بضرورة قيام وزارة المالية بدورها في هذا الشأن من خلال تخصيص الدعم المالي اللازم لتنفيذ هذه المشاريع أو استكمالها في مختلف مناطق المملكة من أجل حصول جميع المواطنين في مختلف مناطق المملكة على العناية الطبية اللازمة» أو حين ذكرت هذا وغيره في تقريرها الثاني عن حالة حقوق الإنسان في السعودية وأكدت فيه أنه «ينبغي الأخذ في الاعتبار عند التوجه نحو تعميم التأمين الصحي على المواطنين والمقيمين ضرورة التأكد أولاً من توافر المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية الكافية والمؤهلة لتقديم الخدمة الصحية في كافة مناطق المملكة»؟”
الأسطورة الثالثة: لم يكن هناك أي طريقة لتوقع ما حصل
بل كانت هناك عدة طرق،
وأقل هذه الطرق تعقيدا وأقلها تكلفة هي: ألا تبني للناس في مجاري السيول أصلاً! فبمجرد أن ردمت مجاري السيول وتحولت لمخططات صارت في موقع الخطر ويمكن لأي معماري أن يتوقع فوراً أن هذا المكان مهدد بالغرق. مجاري الأودية مناطق لا يُبنى فيها، بل ولا يبيت المرء فيها كما قرأنا النهي النبوي صريحاً في ذلك.
كان يمكن تجنب الكارثة لو كانت حياتنا “طبيعية”. فمن الطبيعي أن يكون هناك تصريف لمياه الأمطار، ومن الطبيعي ان يكون هناك تصريف لمياه الصرف الصحي ومن الطبيعي أن نبني للناس بيوتاً ومستشفيات وجامعات في اماكن آمنة.
ليس من الطبيعي – مثلاً – ان نغلق منافذ مياه الأمطار إلى الدرجة التي جعلت التربة رخوة ومتشبعة بمياه الامطار (والمجاري) فتنهار عند تعرضها لأي ضغط.
ليس من الطبيعي – مثلاً- ان نصنع بحيرة صناعية عملاقة ونلقي فيها فضلات السكان على مدى سنوات ونسميها “بحيرة المسك”! وأتمنى من القاريء أن يراجع تصريح د. علي عشقي : “
شركة المياه تخلصت من “المسك” في البحر “.
قمتُ مع صديق لي بتوثيق لون هذه المنطقة من كورنيش جدة بعد الاعلان عن بدء تفريغ بحيرة الصرف الصحي والذي تنفي الأمانة أن يكون حصل أي تفريغ لها في البحر.
وقد نشرت صحيفة عكاظ
تحقيقا على صفحاتها قبل ١٥ سنة تحذر من مخاطر هذه الأودية وهذه السيول وعن تشكيل لجنة حكومية لبحث الموضوع، فما الذي تم في ١٥ سنة؟ ١٥ عام تحولت فيها الدول من حولنا وتغيرت ولم نستطع نحن أن نتحرك لحقن دماء الأبرياء.
وهناك طرق أخرى كان يمكن أن نلجأ إليها لتجنب الكارثة، فأين كانت الأرصاد على سبيل المثال؟ ولماذا لم نسمع أي تحذيرات؟ أين كان الدفاع المدني؟ ولماذا لم يعلن حالة استنفار أو طواريء؟ رغم أن
رئيس طيران الدفاع المدني صرح بأنهم شاهدوا السيل بأعينهم متجهاً لجدة من نافذة طائراتهم و”كانوا يترقبون الأسوأ” لجدة!
الأسطورة الرابعة: مطلبنا الوحيد هو محاسبة المتسببين في الكارثة وتعويض المتضررين
وهذه أسطورة كبيرة. فمحاسبة المتسببين في الكارثة وتعويض المتضررين لا تكفي لحماية أهلنا في جدة أو في أي مدينة أو قرية سعودية أخرى. مطالبنا تتضمن بالضرورة – بالإضافة للمحاسبة والتعويض – إصلاح البنى التحتية لجدة وللمملكة ككل، فمن دون ذلك ستكون هناك كارثة ثانية وثالثة ورابعة.. حيث “
يجب ألا يتوقف الناس عن المساءلة حتى يتم فعلاً أخذ مشاكل المدينة بشكل جاد وإيجاد حلول جذرية لأوضاع ستتفاقم سوءاً مع الزمن” كما قالت د.فوزية البكر في مقالها السابق ذكره.
ومطالبنا تتضمن – بالضرورة – المطالبة باستقلال المجتمع المدني. فقد اثبتت تجربة كارثة جدة أن هذا الاستقلال ضروري خصوصاً في ظل فشل وزارة الشؤون الاجتماعية في تكوين مجتمع مدني فعال. المجتمع المدني المستقل يمكنه أن يتحرك دون قيود من جهات أعلى منه، ويشعر بالتمكين وبأنه كامل الأهلية وبأن أفراده لهم مكانة وصوت وتقدير في مجتمعاتهم، وسينطلق دون أن يحصر نفسه في تصورات معينة.
ومطالبنا تتضمن – بالضرورة – المطالبة بالمزيد من المشاركة الشعبية.
فالمشاركة من اهم سبل ردع وتخويف المفسدين، وهي أهم سبل إيصال الرأي والشكوى للجهات المختصة. المشاركة الشعبية تفضح أوكار الفساد وأوكار سرقة المال العام، وتمكن المواطن والمواطنة من أخذ زمام المبادرة. من دون قنوات مشاركة واضحة ومن دون تعزيز لثقافة الانتخابات ولدور المؤسسات الرقابية لا يوجد ضمان حقيقي لعدم تكرر الكوارث بما فيها كوارث سرقة المال العام وكوارث استغلال الضعفاء وكوارث انتهاك حقوق الإنسان.
وسيكون من المفيد قبل أن نتحدث عن أهمية زيادة المشاركة أن نرصد ما فعلته جهة المشاركة الوحيدة الموجودة في جدة: المجلس البلدي.
هذا المجلس الذي نصف أعضائه منتخبون لم يعقد أي اجتماع من اجتماعاته الشهرية مع اهالي جدة بعد الكارثة! لم يلتق بنا ولا مرة واحدة رغم أن دوره الواجب عليه هو أن يكون صوتنا وأن يكون أداتنا في مراقبة أداء الأمانة. هذا ليس فشلاً فقط، هذا أيضاً إنتهاك لحق من حقوق الإنسان وهو حقه في المشاركة. فـ”ما النفع العائد على أهالي جدة بمختلف أطيافهم من انتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية إذا لم يتفاعل المجلس معهم؟! وإذا كان مجرد رؤية أعضائه والاجتماع بهم حلما صعب التحقيق على الرجال؛ وعصيا على المرأة” كما تقول
مقالة أمل زاهد. وليس كل العتب على المجلس البلدي هنا وإنما ايضاً يقع على ركاكة نظام المجالس البلدية.
وقد لخصت هذه المطالب في
مقابلة إذاعية أذيعت أثناء الكارثة.
هذه هي أهم الأساطير المتعلقة بكارثة جدة، والتي في ذكراها نجدد العهد بأن نسعى وراء الحقوق التي لن تضيع مادام وراءها مطالب.
المصدر:
مدونة أشرف الفقيه.