{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
هاله غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,810
الانضمام: Jun 2006
مشاركة: #11
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
[مرة كنا نتغذى عند بول تيغيان، وكان جينيه هائجا ومنفعلا مثل طفل. كان يحمل راديو ترانزستور، ويتابع في كل موجزات الأنباء أخبار المجموعة الفدائية التي اقتحمت إحدى السفارات، وأخذت بعض الرهائن من أجل الإفراج عن أحد المعتقلين. غادرت الطائرة باريس.. وصلت إلى القاهرة.. تركت مطار القاهرة.. إلى أين يمكن أن تتجه الآن؟ كان سعيدا ومتحمسا. لاحظ فتوري فاندفع يقنعني بأن الفدائيين يصبحون أذكى وأدق في عملياتهم. وحين ألمحت إلى الرأي العام، غضب وقال لي، وكأنه ينهرني: - هذا الرأي العام عرقي. وهو ضد العرب سواء كانت هناك أسباب أم لا. لا تضيعوا وقتكم في تملقه، ومهمتكم تاريخيا هي أن تقلقوه لا أن تسترضوه..] ونتابع الحديث، بعد صمت قصير، استطرد يقول:

شعار "فلسطين علمانية ديمقراطية". هذا الشعار لا معنى له، وهو مستحيل أيضا. إنه يفترض قيام دولة تتأسس على وجود ثلاث مجموعات دينية إسلامية، مسيحية، يهودية، ولكل واحدة من هذه المجموعات حقوق متساوية لحقوق المجموعتين الأخريين. إن هذه العلمانية هي ميثاق تعايش أو تسامح بين الأديان الثلاثة، وليست بناء سياسيا يتجاوز الدين بغية تنظيم المجتمع على أساس مادي وعلمي. هل لاحظت التناقض؟ العلمانية تبرز بعد أن يقصى الدين نهائيا عن السلطة. أما في هذا الشعار فإن الدولة العلمانية تحدد علمانيتها على أساس ديني، ومن منطلق أن التشكيلة البنيوية للمجتمع هي تآلف ثلاث طوائف دينية. من هنا التناقض، والاستحالة أيضا. وأنا متأكد أن أحد دوافع صياغة هذا الشعار هو إرضاء الغرب - إبراز حسن النية، والتأكيد على أنكم لا تريدون رمي اليهود إلى البحر - إنكم ما تزالون تواجهون العدو على الأرض التي يختارها لكم، ووفق منطق المواجهة الذي يفرضه. في البداية جركم إلى نقاشات عقيمة حول "الحق التاريخي"، واضطركم لأن تدخلوا في دوامة تاريخ يعود إلى ما قبل ألفي عام. والآن، حتى مع الثورة الفلسطينية، فرض عليكم أن تواجهوا المستقبل ببرنامج قاصر يعالج المسألة من خلال ظاهرها الديني فقط. إنكم تقبلون حجة وجود الدولة الإسرائيلية (توحيد اليهود في دولة أساسها المعلن هو الدين)، لكن مع التوسع في صياغتها حتى تشمل المسلمين والمسيحيين أيضا
- لا.. لا - أن يعيش المسلمون والمسيحيون واليهود كمجموعات دينية في دولة واحدة، ذلك مستحيل ولا معنى له.
يومها لم أناقش جينيه في صحة الشعار، ودقة كلامه عن مضمون البرنامج الفلسطيني، وإنما قفزت إلى هذا السؤال:
- وإذن.. هل تعتقد أن القضية لا يمكن أن تحل إلا بزوال إحدى هذه المجموعات. والأمر يعني هنا، إما أن يزول يهود إسرائيل، أو نزول نحن العرب مسلمين ومسيحيين.
- حتما. ألقى الكلمة حادة باترة.. ثم غرق في صمت متأمل تموج فيه سحب الدخان. بعد قليل نفض ملامحه وقال:
- أو هناك حل واحد هو الاشتراكية حين تصوغ المقاومة الفلسطينية برنامجها على أساس الاشتراكية، ويكون قتالها لتدمير بؤرة الرأسمالية-الغربية إسرائيل توضع القضية على مستوى أوضح، وتزول كل هذه الالتباسات التي تدوخكم. على أن مثل هذا البرنامج لا يمكن أن ينتصر إلا إذا أصبحت الأنظمة العربية اشتراكية بالفعل.

هززت رأسي، وآثرت ألا أعقب بشيء. شربنا مزيدا من القهوة، وتشعب بنا الحديث. * * *

فواصيل فلسطينية سأنقل في نهاية هذه الفقرة بعض الحكايات الصغيرة التي رواها لي جينيه وهو ينبش ذكرياته عن الفترة التي قضاها مع المقاومة الفلسطينية.

* في إحدى قرى الجولان الحدودية، دخلنا عند عائلة ريفية. استقبلنا الرجل وزوجته بحفاوة وبساطة نبيلتين. كنا نتناول الشاي حين لاحظت أن صوت المرأة يعلو غاضبا، وأن الزوج يبدو متضايقا ومرتبكا. سألت مرافقي ماذا يجري، فقال لي: إن المرأة تعنف زوجها لأنه لم ينخرط بعد في صفوف المقاومة. تقول له: انظر.. هوذا رجل أجنبي يأتي مجتازا آلاف الكيلومترات ليساند الثورة، في حين ما تزال أنت الفلسطيني تتردد في حمل السلاح، والانضمام إلى الفدائينن. في كل ثورة، المرأة هي دائما الأكثر جذرية. وفي الثورة الفلسطينية يبدو ذلك بصورة أجلى. عندما كنت في جرش، دعتني مجموعة من النساء لزيارة بيوتهن. كن هادئات، تكسو وجوههن رصانة شجاعة. سرت معهن حتى وصلنا أكواما من الأنقاض والخرائب. قالت لي واحدة بصيغة مؤثرة: "تفضل.. ادخل وتصرف على راحتك"، ثم اعتلت كومة أنقاض، وأضافت مشيرة بيدها: "هنا كنا نستقبل الضيوف.. وهنا كنا نفرش وننام." لا أدري.. اقشعر بدني، وهن يتحدثن بهدوء، ودون أي ميلودرامية، عن بيوتهن التي حولتها قذائف المدفعية إلى أنقاض. أحسست أنهن ينبثقن من حكمة شعبية موغلة في القدم، أو من تاريخ خطير وفاجع. ببضع كلمات وإشارات رمزية قدمن لي سفر القضية الفلسطينية كاملا. إن المرأة أكثر ارتباطا بكل م هو حي وملموس. وهي تجد في عدم التوازن الذي تخلقه الثورة، توازنا وجوديا أعمق. لهذا أقول إنها أكثر ثورية من الرجل. آخر مرة زرت فيها الأردن كدت أسجن. عند الحدود الأردنية-السورية، استدعاني ضابط الأمن الأردني إلى مكتبه، وبدأ يستجوبني، لماذا جئت إلى الأردن، وبمن اتصلت، وما هي علاقتي بالفلسطينيين.. وفي النهاية سألني: "ما رأيك بالنظام الأردني؟". أجبته: "سأرد عليك السؤال، وأرجو أن تصدقني الجواب." عندها تهلهلت ملامحه، وأخذ ينشج باكيا. * وصلت إلى بيروت، كان ينتظرني في المطار داوود تلحمي ومعه أحد المسؤولين. ركبنا سيارة، وذهبنا إلى بيت هذا المسؤول، أثناء السهرة قادنا النقاش إلى موضوع حرية المرأة، أينبغي أن تعطى حرية كاملة، أم أن شروطها البيولوجية والتاريخية لا تسمح إلا بحرية جزئية. كان المسؤول يدافع بحماسة عن الرأي الثاني، وكانت زوجته تجلس معنا، إلا أنها لم تفه بكلمة، ولم يسألها أحد رأيها. تدخلت في الحديث، وطلبت من داوود أن يترجم كلامي حرفيا. قلت "أنا شاذ جنسيا، ولا أحب النساء، لكني أتساءل أليس غريبا وشاذا أن نناقش مصير المرأة، ونقرر نوع وكمية الحرية التي ينبغي أن تعطى لها، ومعنا امرأة لم يحاول أحد أن يسألها رأيها في هذا الموضوع." يا للفضيحة! انزعج المسؤول، وتقنع وجهه بالعبوس. بعد تلك السهرة لم يحاول أو يشأ أن يلتقي بي. * ذات مساء، وفي قاعدة للفدائيين، اندفع أحد الرفاق يغني، ثم انضم إليه الآخرون. آه.. أذكر جيدا. كان غناء مفعما بالحرارة والقوة. بين كل الأغاني والأناشيد التي سمعت تسجيلاتها، لم يكن هناك ما يضاهي غناءهم. بعد أن انتهوا سألتهم ماذا كانوا يغنون؟ فضحكوا، وأجابوني.. "إنها أغنية مرتجلة.. هنا في القاعدة تعودنا أن نرتجل الأغاني.".. أتعلم.. تلك الأغنية المرتجلة هي الإبداع الحقيقي، إنها تكنس بأصالتها كل ذلك الفن المتكلف الذي يدعي أنه فن المقاومة. القواعد تجيش بالصحة والإبداع، أما حين تصعد السلالم، وتدخل المكاتب، فإن نبض الثورة يخفت، وشرايينها تتكلس. * كتبت مقالا لمجلة "شؤون فلسطينية"، لكنهم توجسوا منه. هناك فقرات تمس الدين، لا.. لم أهاجم الدين؛ بل حاولت أن أبين كيف يكون الدين عاملا معوقا للثورة والتغيير. هنا أيضا يكمن تناقض كبير، لا أفهم كيف تفسر ذلك! ها هم رجال يريدون تغيير أسس مجتمع قائم، لكنهم في الوقت نفسه يتجنبون مس الدين، ألا ترى في ذلك تناقضا لا يفهم! بعد جدل طويل، قبلت أن يحذفوا من المقال ما يشاؤون. وبالفعل فقد اقتطعوا منه عدة فقرات.

يتبع
01-01-2011, 10:01 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #12
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
لا نزال بانتظار هالة

مشكورة على هذا الجهد الكبير في التوثيق الضوئي

جان جينيه رغم قربه إلى القضايا المصيرية العربية
يفتقر إلى الكثير من الترجمة والدراسة والإهتمام العربي

هو النموذج الذي نحن بأمس الحاجة للإنصات إليه

إنه النوع الحقيقي الصادق لما يسمى : الإستشراق



شكرا للمتابعين
01-14-2011, 06:12 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
هاله غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,810
الانضمام: Jun 2006
مشاركة: #13
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
-٣-

عام ١٩٦٤، وفي الحديث الصحفي الوحيد الذي قبل جينيه أن يعطيه طرحت عليه مجلة "بلاي بوي" هذا السؤال" "- إلى أين تقود حياتك؟.." فأجاب:
"- إلى النسيان. إن معظم نشاطاتنا تتصف بالإبهام البلادة اللذين يميزان حالة المتشرد. ومن النادر أن نبذل جهدا واعيا كي نتجاوز حالة البلادة تلك. أما أنا، فأتجاوزها بالكتابة."

آنذاك، كان قد تخطى، ولو جزئيا، "المحنة" التي سببتها له دراسة سارتر العملاقة "القديس جينيه، ممثلا وشهيدا". فبعد ظهور هذا الكتاب الذي نبش أخفى خفاياه، وسمره عاريا تحت أضواء فوسفورية باردة، صمت جينيه وتملكه يقين بأنه لن يستطيع الكتابة بعد ذلك أبدا. ويصف جان كوكتو أطروحة سارتر بعبارات لا تخفي نفوره، وقلقه على مستقبل جينيه الأدبي. "خلال خمسمائة وثلاث وسبعين صفحة، يشق سارتر، الذي كمم وجهه، وارتدى ثياب الجراح البيضاء، جينيه المخدر والممدد على طاولة العمليات. إنه يفك الجهاز، يعيد تركيبه، ثم يخيط الشق. وها هو جينيه يتنفس حرا، لن يتألم حين يصحو من البنج، ولكن عندما يغادر طاولة العمليات، فإن جينيه آخر يظل على الطاولة، وينهض بدوره على واحد منهما أن يتطابق مع الآخر، أو أن يهرب." ولم يكن الصمت الذي امتد أكثر من ست سنوات إلا هذا التهرب الذي توقعه كوكتو، أما جينيه نفسه فيعلق على كتاب سارتر قائلا: "في كل كتبي كنت أتعرى، وفي الوقت نفسه كنت أتنكر بالكلمات، بالخيارات، بالوضعيات، وبمشاهد السحر. كنت أرتب أموري بحيث لا أؤذي نفسي كثيرا. أما مع سارتر، فقد عريت دون أي لطف (...) أمضيت زمنا حتى استرددت عافيتي، تقريبا كنت غير قادر على مواصلة الكتابة. إن كتاب سارتر خلق - في داخلي - فراغا سمح بنوع من التلف النفسي وهذا التلف هو الذ أتاح لي التأملات التي قادتني إلى مسرحي."

حاولت مرارا أن أستدرجه للحديث عن كتاب سارتر وهذه الأزمة، لكنه كان يتملص مغيرا مجرى الحديث. مرة وجم بضع لحظات، ثم قال:

- ولكن سارتر انتهى منذ عشرين عاما. غرق في لعبته الشمولية، وضيعته رغبته الشبقة في أن يصبح كاتبا "شاملا" وعالميا. قبل أيام زرتهما، هو وسيمون دي بوفوار. حدثتني سيمون أن سارتر شرب سبعة عشر كأسا من الويسكي، وأنه أعلن في نهاية السهرة "أنه الله". أتدري ماذا كان تعقيب سارتر! قال لي: "فعلا لقد اعتقدت أني الله، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يسيطر علي مثل هذا الاعتقاد."

وبدءا من هذه الحكاية كنا ننتقل إلى موقف سارتر المتردد إزاء القضية الفلسطينية، والعداء المخزي الذي تظهره سيمون دي بوفوار للعرب. ويمند الحديث بعيدا عن دراسة سارتر، وأزمة الصمت التي تلته.

أكان الجرح هش الالتئام، ويخشى أن ينكأه الحديث؟ ربما.. إلا أنني سأجازف وأقول إن مسألة التوقف عن الكتابة، رغم اعتراف جينيه نفسه بالتلف النفسي الذي سببه له كتاب سارتر، تجد جذورها العميقة في التناقض الداخلي، الذي أشرت إليه في المقطع الأول. النوسان بين الرفض-الكلمة، والرفض-الفعل. ويبدو أن جينيه سيظل يتمزق حتى مماته، لأنه لم يواجه أبدا إمكانية أن يعد جسرا بين هذين المستويين من الرفض. بالنسبة له، الكلمة والفعالية مجالان متنافران يمكن أن يتناوب المرء بينهما، ولكن يتسحيل أن يدمجهما في سياق واحد. وهذا وثيق الصلة بمفهومه الخاص عن الكتابة. فالكتابة ليست لها أية وظيفة اجتماعية أو سياسية، وهي في كل الأحوال ليست فعالية يمكن أن تؤثر في الواقع، وتفعل التاريخ.

- يحار المرء إذا كنت في مسرحيتك "الخادمات" تدافع عن الخدم ضد سادتهم، وفيما إذا كنت تقف في مسرحية "الزنوج" إلى جانب السود في صراعهم مع البيض أم العكس؟ ما أحسسناه هو الشعور بالضيق.
- أردت فقط أن أكتب مسرحيات، وأن أبلور انفعالا مسرحيا ودراميا، فإذا كانت مسرحياتي تخدم السود فإن ذلك لا يهمني. وعلى أي حال فإني لا أظن ذلك. أعتقد أن الفعل، والصراع المباشر ضد الاستعمار يخدم السود أكثر مما تفيدهم مسرحية (...) يجوز أني كتبت هذه المسرحيات ضد ذاتي، يجوز أن أكون البيض، ورب العمل، وفرنسا في مسرحية "الحواجز" وأني حاولت الكشف عما هو عبي في هذه الصفات... لكن وظيفة - العمل الأدبي - لا تهمني.

ولهذا فإن جينيه ينوس بين أن يقاتل مع الفلسطينيين والفهود السود، أو أن يكتب. أما أن يساوق بين النشاطين فذلك متعثر. ومن هنا فإن الكتابة عند جينيه تظل مشروعا قلقا وممزقا بالانقطاعات.

لقد أجاب بلاي بوي عام ١٩٦٤ بأنه يتجاوز البلادة اليومية بالكتابة، ولكنه عمليا، لم ينشر منذ عام ١٩٦١ حين ظهرت آخر مسرحياته "الحواجز" سوى بضع مقالات صغيرة، وملاحظات حول كيفية تقديم مسرحياته، فهل هي أزمة أخرى، أم أنه توقف عن الكتابة؟ كنا في أواسط السبعينات، وكان السؤال يلح علي كلما ألتقيه.

* * *

أخذنا نتحدث عن الحلاج، وكان لا يمل ذكره.

- كل متاعي حقيبة صغيرة فيها بعض الملابس الضرورية، أوراق، وترجمة ماسينيون لطواسين الحلاج. (وأضيف إليها بعد ذلك أل ليلة وليلة بالعربية - طبعة بولاق. أهديتها له فتلقاها كأنها كنز، وصارت جزءا ثمينا من متاعه القليل.) إني لا أشبع من قراءته. وبعض المقاطع أجرب قراءتها بالعربية.
سألت بدهشة: أتقرأ العربية؟
ابتسم وأجاب: -شوية
أضاف: إني أحاول أن أتعلم العربية. آه كم يشغفني أن أقرأ الحلاج بلغته! (هز رأسه وبدا على وجهه الأسف) ولكن لا أعتقد أن ذلك سيتحقق. لقد تعمقت اللغة الفرنسية كثيرا، وهذا ما يجعل تعلم لغة أخرى عسيرا علي. من قبل حاولت أن أتعلم اليونانية، ولكن لم أستطع أن أقطع شوطا كبيرا.. والآن أحاول تعلم العربة، إلا أني أعرف أن فرنسيتي تقف حاجزا بيني وبين أي لغة أخرى..
حديثه عن تعمقه في اللغة الفرنسية وضح في ذهني ملاحظة كانت مبهمة:
- على ذكر اللغة، أود أن أستفسر عن نقطة. هل أخطئ إذا قلت إنك تنقد اللغة وأنت تكتب بها؟
- هذا صحيح. وكل كاتب يجب أن يكون موقفه من اللغة نقديا. (لم يشأ أن ينعطف به هذا الاستطراد بعيدا عن الحلاج.. أضاف فجأة) هل قرأت ترجمة ماسينيون للطواسين؟..
- لم أستطع قراءتها.
- إنها نص بديع، لكنها لا تغني عن الأصل. لا شك أن نصا كنص الحلاج يفقد الكثير حين يترجم، لكن من الواضح أن الحلاج يدفن اللغة وهو يبدعها. إنه يدفن الدلالة المتداولة، ثم يحييها دلالة جديدة ومدهشة.
- هذه الملاحظة يمكن أن تنطبق على النصوص المتصوفة بعامة.

وكانت هذه العبارة بداية لحديث عن التصوف يتوهج بالحرارة والإعجاب. أخذ يتحدث عن اللغة الشفافة، وأنساق الرموز، والاستعارات التي تدمج المتصوف بلا نهائية الكون، والماوراء.. حاول أن يحلل دلالة الوجد، وعشق الهو-الذكر، وهذا الفضاء السري من الشعر والسحر والشبق المتأجج.

عقبت بعد أن فرغ من كلامه:
- هل أقول إنك تبحث في التجربة الصوفية عن ملاذ، وإنك تكتشف عند المتصوفين القرابة الروحية التي افتقدتها طوال حياة من النفي والفضيحة؟
- التجربة الصوفية غنية جدا، ولا أخفي اهتمامي بها.
- ما عنيته أبعد من ذلك. يبدو لي أن اهتمامك بالصوفيين وآثارهم يضمر بحثا عن ملاذ روحي، ويتوخى استعادة دينية مفقودة.
احتضن ذقنه براحة يده اليمنى، وغاب في تأمل طويل. حين تكلم، بدا وكأنه حسم ترددا مربكا:
- سأخبرك شيئا لا يعرفه إلا نفر قليل من الأصدقاء. إني أكتب عمل عمري، يبدأ الكتاب من رحلة إلى اليابان. عندما اجتازت الطائرة القطب الشمالي، وانحدرت متجهة نحو اليابان، تأججت مشاعري، وأحسست أني أدخل إلى عالم جديد. كنت أغتسل متخلصا من تراكمات الديانة والثقافة "اليهو-مسيحية". طبعا لم تكن هذه التراكمات صلبة، ولذا انجرفت بسهولة كقشور من الوسخ السطحي. من هذه التجربة أبدأ كتابي، لكن صيغة العمل مركبة ومعقدة. هناك نص مركزي متتابع، وحوله متون تتضمن نصوصا أخرى تتقاطع مع النص المركزي، أو تتوازى معه، إنها تأملات وشروح يتكامل بها النص المركزي، وتغني امتداده ودلالته (بعد فترة أطلعني على البروفات التي حملها من دار غاليمار. هو الذي يصحح تجارب الصف، لا حرصا على دقة التصحيح فقط، وإنما لأنه يرفض أن يطلع أحد على كتابه. قطع الورق كبير، وطريقة الإخراج تذكر بالطريقة المتبعة في طباعة "تفسير الجلالين"، ففي وسط الصفحة وضمن إطار مستطيل ثمة نص، وحول المستطيل نصوص أخرى صفت بحرف مختلف).. إن الغاية الأساسية التي أتوخاها من هذا الكتاب هي نقد الديانة "اليهو-مسيحية" ورفضها. وفي السياق أتحدث عن تجارب الشعوب الأخرى، والثراء الذي يمكن أن يكتشفه المرء في استجاباتها الروحية والسلوكية. كذلك ثمة فصول عديدة عن الفلسطينيين، والفهود السود، وحركات التمرد التي تهز وتخلخل العالم اليهو-مسيحي. إني أجد متعة كبيرة في كتابة هذا العمل. إنها متعة ذاتية، ولهذا أريد أن يعمني الصمت وألا يتداول أحد اسمي، حتى أنتهي من هذا الكتاب.
- ومتى يمكن أن تفرغ منه؟
انسدلت على وجهه غلالة من أسى شفاف.
- لن أنتهي منه قبل موتي، أعتقد أنه سيظل ناقصا، وعلى كل لا يهمني الأمر. فأنا أكتب من أجل متعتي الشخصية.. منذ فترة سألني غاليمار الأب: ألن أقرأ كتابك قبل وفاتي؟.. فأجبته: لا أظن؛ إلا إذا حاباني الموت، واصطحبني قبلك.

تأملت شيخوخته الوديعة، وأثقلني حزن خانق.

* * *

فاصل قصير

روى لي، وكنا نتحدث عن كتابه، هذه الأسطورة الفارسية القديمة:
"- كان في بلاد فارس ملك، له ولد سيرث العرش بعده. وحين وافت الملك المنية، وتأهب الغلام وسط الحزن والحيرة للجلوس على عرش أبيه، جاءه ملاك وسأله:
- هل تعرف هذه البلاد التي ستحكمها؟
أجاب الغلام مذهولا:
- لا.. لا أعرفها جيدا. ولا أعرف كيف أمارس الحكم؟
فابتسم الملاك وقال له:
- إذن تعال معي.
نهض الغلام، مضى مع الملاك الذي قاده إلى الجحيم.. وهناك بدأ يعرض عليه صنوف العذاب التي يمتحن بها الناس.
- بدأ الشاب يرتعش، وسأل خائفا:
- ولكن من هؤلاء؟.. وكيف يتحملون هذا العذاب كله؟..
فأجاب الملاك:
- إنك الآن ترى شعبك. هذا هو حال الناس الذين ستكون ملكا عليهم.
سأل الشاب وهو يحس بالهول:
- وكيف يمكن أن أخلص شعبي من هذا الشقاء؟
قال له الملاك:
- السبيل الوحيد هو أن تتحمل وحدك كل هذه العذابات.
تردد الغلام قليلا، ثم قبل أن يتحمل كل الآلام وحده. عندئذ رحل الشقاء عن بلاد فارس، وعاش الناس في عهد ملكهم الجديد عيش رغد وفرح."

بعد أن أنهى قص الحكاية سألني:
- بمن يذكرك الغلام؟
- لا أدري.. ولكن القصة تبدو مألوفة بالنسبة لي.
قال:
- ألا ترى أن الغلام هو صيغة المسيح. إن الأسطورة الفارسية تصوغ المسيح، قبل المسيحية بقرون!!

* * *

ص٣٥

01-24-2011, 07:30 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
تموز المديني غير متصل
عضو جديد دائما
*****

المشاركات: 1,165
الانضمام: Jun 2004
مشاركة: #14
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
رائع هالة ... هل انتهى النص أم هناك المزيد؟؟؟

هل يمكن لي أن أعرف في أي أعداد من الكرمل توجد؟؟؟

شكرا

كم نحن بحاجة إلى جينيه في ظروف الثورة المصرية هذه

تحيا الثورة المصرية
02-02-2011, 09:07 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
الحوت الأبيض غير متصل
Party Pooper
*****

المشاركات: 2,292
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #15
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
يا تموز النص منشور في مجلة الكرمل العدد ٥ ص٨-٤٤. يمكن الحصول على نسخة مصورة من هذا العدد (بصيغة بي دي إف) فالأعداد 1-15 منتشرة على النت....

النص قمت أنا بالحصول عليه وطبعت جزءا منه لكن لانشغالي طلبت متطوعين لإكماله وقامت هالة مشكورة بذلك فزودتها بالنص الذي طبعته وبالمقابلة المصورة (بعض ما نشرته هالة طبعته أنا)... لم ينته النص بعد.
02-05-2011, 01:52 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
تموز المديني غير متصل
عضو جديد دائما
*****

المشاركات: 1,165
الانضمام: Jun 2004
مشاركة: #16
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
شكرا حوت

عندي الأعداد كلها وسأحاول فقط الوصول إليها في هذه البداوة التي أعيشها..

شكرا لك ولهالة

بانتظار التتمة
02-06-2011, 01:54 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS