ِ
الصدمة
كنت قد جلست أشاهد فيلم "طوفان في بلاد البعث" وحرصت قبل أن أشغل الفيلم أن أقفل الأبواب بإحكام كي لا يدخل علي أحد ويمسكني متلبساً أشاهد الفيلم المغضوب عليه ولا الضالين ....
لا أخفيكم أني أطفأت كل الأنوار كي لا تشاهد الجدران ردود فعلي وانفعالاتي الناتجة عن الفيلم ، فالحيطان لها في سوريا آذان وعيون وحتى لسان يخبر عن المواطن السوري كل تصرفاته بعد أن تكون قد أحصت عليه سكناته وانفعالاته ...!!
شغلت الفيلم وأخفضت الصوت إلى أدنى مستوى حتى لا يسمع الخلان والجيران ولا تسمع الفئران ، فالجميع في سوريا يمارس مهنة رأفت الهجان ... وما أدراكم كيف يمارس الهجان مهنة إصاخة السمع والآذان . يستغفلك يتقرب منك تأتمنه تقول له ما لا يجب أن يقال . وفي غفلة من الزمان ، يتحول إلى ذئب كاسر من أوحى لك بأنه من الحملان .. فيخبر عنك ضابط الأمن والسجان ، ويصبح بين ليلة وضحاها هو النموذج البطل وأنت الذي أوهنت عزيمة الأمة .. الخوان !!.
آه من مسلسل رأفت الهجان وجمعة الشوان ، ودموع في عيون وقحة لا تعرف الحنان ...
وليس بعيداً عن حكايا شهرزاد وسيف شهريار ، والكلام المباح والغير مباح ... سأصدقكم القول وأخبركم بأني لا أعرف من أين سأبدأ أو ماذا سأحكي .... فالخوف قد يكون عقد لساني على مر عشرات السنوات ، لكن الصدمة حلت العقدة بحيث بات هناك كلام كثير يقال لكن جله دون فائدة تذكر .
ماذا أقول وأنا من عشت الوضع كاملاً والتفاصيل بحذافيرها ؟
ماذا أقول لمن سيسألني عن ذكريات طفولتي وشبابي ؟
هل سأقول له اذهب إلى بحيرة الأسد لكي تقرأ تاريخي ؟
أما أقول له اذهب إلى قرية الماشي لكي تعرف سيرة حياتي ؟
أم أقول له تفضل هذا قرص مضغوط ملخص عن كل نضالي التقدمي في أقل من خمسين دقيقة . أخرجه شخص ينتمي للرجعية العربية المتحالفة مع الإمبريالية اسمه عمر أميرالاي ؟!!
منذ نشأتي المبكرة ارتبطت فكرة الحرية في اللاوعي لدي بالهررة وبأن الهررة تستحق الحرية ، ولم يساورني شك ولا مرة في مبدئية هذه الفكرة ولم أكن أعرف مصدرها حتى عرفت السبب ... إنها الهرة التي تموء في درس القراءة من أجل حريتها وتطلبها بالمواء . فالهررة تستحق الحياة والحرية !!.
تذكرت أيام الدراسة في الطفولة وعلمت لماذا لم يعلق في ذهني من الموسيقى إلا نشيد البعث ... تصوروا لا زلت أدندنه في نفسي إلى اليوم بعد كل هذه السنوات !!.
تذكرت مدرب مادة العسكرية ... الذي كان يقول لي نفذ العقوبة ثم اعترض ... وما يفيد اعتراضي بعد تنفيذ العقوبة ؟!
تذكرت درس الرياضة الذي لم يكن فيه كرات ... ومخبر العلوم الذي لم يكن فيه تجهيزات أو مستلزمات .
من كل دراستي لم أحفظ إلا دروس القومية ... الطليعة الثورية ، الديمقراطية المركزية ، النقد والنقد الذاتي ، الوحدة ، الحرية ، الاشتراكية ... وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة . ... لم أتذكر سوى المبادئ التي كانت "تغرس" فينا منذ نعومة أظفارنا .
متى سينهار السد ؟
طُرح هذا السؤال على أميرالاي أثناء ندوة في قرية مجدل شمس المحتلة عبر اتصال هاتفي معه ، وقد كان هذا السؤال المجازي ، موازي لفكرته المجازية .
كلنا نعرف أنه لا يوجد سوري واحد يتمنى انهيار سد الفرات أحد منجزات البعث بالمعنى الفعلي مهما عانى من تشققات ؟
لكن السد تشقق ... فهل من حلول كي لا ينهار ؟
ومع ذلك لا زال ذياب الماشي -حتى تاريخ الفيلم 2003- يحمل نفس العقلية معه التي حملها قبل خمسين عام . وعندما تم القرار أنه لا بد من التطوير والتحديث ، عهد إلى ابن أخيه أمين الحلقة الحزبية ومدير المدرسة تنشئة الأجيال وهو لا يعدو عن أن يكون نسخة معدلة عن عمه تلبس قميصاً وبنطلون !
لقد جلست لمدة طويلة أسأل نفسي هذا السؤال ... ما الفرق بين الأب وابنه ؟ ما الفرق بين العم وابن الأخ ؟
ما الفرق بين جيل يستند إلى الولاء القبلي ، وجيل اشتراكي يستند إلى الولاء القبلي ؟
لا زال مشهد المدير وهو يذرع غرفة "الكمبيوتر" جيئة وذهاباً وينبه بأن الأجهزة الموجودة فيها إحدى عطاءات الرئيس من أجل التطوير والتحديث ، يذكرني بمحاضرة المعلم لنا في درس "الكمبيوتر" الأول حول المكرمة والعطاء المقدم من الراحل ابن الرئيس الراحل باسل الأسد قائد عملية التطوير والتحديث في سوريا آنذاك قبل أن يتوفى .
ما أشبه الأمس باليوم في سوريا . منذ أكثر من أربعين عام لم يتغير شيء ، فالتقدمية حافظت على تقدميتها ، والرجعية العربية ما فتئت ترجع للوراء ، والامبريالية تعنتت في الأمبرة .
الصمود والتصدي لم يتغير رغم السنون -ما رأيكم بكلمة سنون أليست جميلة- التي مرت .
الوحدة لم تتغير ، الاشتراكية الحرية والرسالة كذلك بقيت خالدة بقاء السموات السبع والأرضين السبع و"الله" معهم بالطبع .
عندما كان قد انتهى الفيلم انتبهت لنفسي وتذكرت ... ربما تكون الحيطان قد فهمتني خطئاً على أني تعاطفت أو تأثرت بأفكار مخرج الفيلم الرجعي المدعوم من قبل الإمبريالية .
ولا أخفيكم خشيت أن يفسر موقفي على أنه يندرج ضمن خانة المعارضة السلبية أو الايجابية لا سمح "الله" .
فقمت وحطمت قرص الفيلم المضغوط تحت قدمي كما حطمت التقدمية في بلدنا تحت أقدامها الرجعية وأذناب الإمبريالية منذ زمن . وطفقت أردد النشيد المحبب إلى قلبي ... يا شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي ، وارفع الصوت قويا عاش بعث العربي .
انتهى
ملاحظة : قد يفهم من كلمة هنا أو هناك شبهة تذمر معاذ "الله" ، وبناء عليه أعلن من هذا المنبر استعدادي الكامل للتراجع عن كل النص المكتوب . كوني لا أهدف إلا لإبراز أساليب الرجعية وأدواتها في توهين نفسية الأمة و"الله" من وراء القصد .