سورية: الانتفاضة المستحيلة
غسان الإمام
الثلاثـاء 17 ربيـع الثانـى 1432 هـ 22 مارس 2011 العدد 11802
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
سبق أن قلت إن سلاح الانتفاضة هو الحشد الضخم. هو القدرة على نقل جمهور الاحتجاج «الافتراضي» من شاشة الإنترنت، إلى الشارع الحقيقي، شارع الحياة اليومية العربية. بكل عذابها. شقائها. آلامها. وآمالها.
ما لم يحدث هذا الانتقال والحشد، فالنزول إلى الشارع بأنفار قليلة، هو نوع من المغامرة الجريئة، في بلاد بشار الأسد، حيث يتم الحوار المروع، فورا، بالهراوة. والاعتقال.
هذه الجرأة تبقى في دائرة الغباء ذي العواقب اللامأمونة، حتى ولو شارك في النزول مفكر مثقف، كالطيب تيزيني. النظام مستعد لاعتقاله، ولو لساعات قليلة. لأن المثقف عند السلطة هو إبراهيم العلي الذي نُصب «دستويفسكي سورية»، لمجرد أنه كتب رواية، قبل 49 سنة.
إذا تم تأمين نزول شعبي مليوني إلى الشارع، فهل الانتفاضة السلمية في سورية ممكنة؟ أغلب ظني أنها انتفاضة مستحيلة. ليس في قدرة نظام يتحرك على قاعدة شعبية ضيقة، أن يبقى صامتا. وسلميا، وهو يرى مليون إنسان يحتشدون في المرجة (ساحة الشهداء بدمشق)، أو تحت ظلال تمثال يوسف العظمة (سيد الشهداء).
لماذا الانتفاضة السلمية ممكنة في مصر، ومستحيلة في سورية؟! بصراحة، لأن سورية ليست مصر، في سورية 18 طائفة. ومذهبا. ودينا. وعرقا. في مصر، هناك انسجام اجتماعي عريق عمره سبعة آلاف سنة، على الرغم من التوتر الظرفي. والشحن الطائفي. والبؤس المهيمن. والتخلف المعيشي والثقافي.
بعد نحو خمسين سنة، انتهى حكم الحزب العروبي (القائد) إلى حكم العشيرة في العراق، وحكم الطائفة في سورية. لا العشيرة (السنية) في العراق تقبل بحكم الطائفة (الشيعية) الأكبر.
ولا الطائفة الأقل تتنازل عن الحكم للأغلبية (السنية) في سورية.
كم الحديث بالمنطق الطائفي كريه. وثقيل على نفس إنسان آمن بأن العروبة قادرة، بالثقافة الديمقراطية الإنسانية، على تجاوز مآزق الدين. والطائفة. والعرق. غير أن الواقع المضغوط، تحت السطح الفولاذي للسلطة في سورية، يفرض هذا
الحديث الصريح الشاق. والمؤلم.
أزيح جانبا كل ما سمعت شخصيا من الرئيس بشار، وما قرأت من فذلكات ومقولات، عن الإصلاح والديمقراطية، لأقول إن الانتفاضة لن تكون سلمية. ولا السلطة ستكون مهذبة. وسلمية. في درعا (عاصمة محافظة الجنوب) حدث، كما نقل ويقال، فورا تخريب. ودمار. وهتاف ضد أسرة الرئيس (ابن الخال المتمول رامي مخلوف). وفي المقابل، حدث قمع مسلح أدى إلى قتلى وجرحى.
إذا تمكنت الانتفاضة من الاعتصام في الشوارع والساحات، أو إذا تمكنت من شل الإدارة الحكومية، بإقناع الشعب باعتصام مدني شامل، فهل يخلي النظام الطريق، كما فعل مبارك وزين العابدين؟
ليس هناك زين ومبارك في سورية. هناك دبابات الحرس الجمهوري، بقيادة شقيق الرئيس (ماهر الأسد)، على أبواب دمشق. ظل الإعلام السوري يمجد، يوميا، اعتصام ميليشيا حزب الله في ساحة رياض الصلح ببيروت، فهل تقبل ميليشيا النظام، باعتصام مماثل في ساحات دمشق؟
إذا حدث صدام دموي بين الانتفاضة والميليشيا، فهل يتحرك الجيش السوري لفض الانتفاضة، أم لتسريح النظام؟ الجيش المصري فض الانتفاضة والسلطة معا. في سورية، المؤسسة الأمنية المخيفة حيدت الجيش العامل، على الرغم من أن النظام غير البنية العضوية للقوات المسلحة: يجري تجنيد مئات الألوف.
لكن القادة، من صف الضباط، إلى الكبار، باتوا من أبناء الطائفة الحاكمة.
بصراحة أيضا، أعترف بأن هذا التركيب الفئوي للجيش، حقق استقرارا وأمانا لسورية عمره عشرات السنين. لكن هل هذا التركيب العجيب لجيش وطني، مقبول منطقيا ودستوريا، في الدولة المعاصرة؟
منطقيا أيضا، فالجيش الفئوي، مهما شعر بـ «ظلم» التحييد والإقصاء له، فلن يغدر بنظام العائلة، لأن التحرك سيهدد في النهاية استقرار نظام الطائفة، وتركيبها الفئوي في الجيش. من هنا، أستبعد شخصيا حياد الجيش. أتوقع انحيازه إلى نظام هو جزء منه. ومن جنسه وهويته. وبالتالي، لا الجيش. ولا النظام سيحافظان على السلمية، في التعامل مع انتفاضة مليونية.
في المقابل، الانتفاضة لن تكون سلمية، إذا ما قوبلت بقمع جماعي دموي. الأنفار القليلة التي «انتفضت» داخل المسجد الأموي وخارجه، تنتمي غالبا إلى المتدينين، أو الإخوان المسلمين المحظورين. هؤلاء لهم ثأر دموي قديم مع النظام منذ موقعة حماه المفجعة (1982).
لا الإخوان. ولا العلمانيون في المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان، في الداخل والخارج، قادرون على قيادة انتفاضة مليونية، بسبب محدودية انفتاح الإخوان، وبسبب الماضي المخجل للعلمانيين اليساريين الذين انقلبوا ديمقراطيين، بعد سقوط نظام «المايسترو» صلاح جديد «1966/1970».
في غياب شباب الطبقة الوسطى الذين قادوا انتفاضة مصر، تكشف مراجعة مواقع الإنترنت السورية المبتذلة، أن هؤلاء أيضا ليسوا بموجودين.
لأن الطبقة الوسطى السورية تقهقرت إلى قاع المدينة، نتيجة للامبالاة. للمحاباة في التوظيف. وللفساد المروع في نظام يفضح صغار المفسدين. ويعف عن كبارهم.
عرقيا، المشهد مظلم وظالم. معظم الذين اعتقلوا أخيرا أفرج عنهم، فيما أحيل معظم «الانتفاضيين» الأكراد إلى قضاء غير مستقل. وغير عادل. أقول هنا إن الأكراد لم يندمجوا، تاريخيا، بمجتمع عربي، كما اندمجوا مع السوريين. ألوف الأسر السورية تختلط دماؤها بدماء الأكراد. لكن الثقافة القومية هي عربية.
مأزق الأكراد هو في هجرة عشرات الألوف منهم، من تركيا والعراق إلى سورية، منذ ستينات القرن الماضي. معظم هؤلاء لا يتكلم العربية التي يتكلمها أبناء عمومتهم المنتشرون، بكثافة، على طول الحدود السورية/التركية (810 كيلومترات).
هؤلاء الأكراد شكلوا أحزابا تطالب بالتجنيس والمساواة. بعضها للسلطة. وبعضها اندمج في المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان. شبهة النظام في أكراد المعارضة عميقة. ومتوجسة. لأنهم لم يفصحوا، بما فيه الكفاية، عن مشروعهم السياسي: هل هم ملتزمون بسورية عربية ديمقراطية؟ أم يصرون على الانفصال، في بلد عربي شبع انفصالات ترابية قهرية (لبنانية. أردنية. تركية. فلسطينية. إسرائيلية) على مدى مائة عام. وبالتالي، فلن يقبل بانفصال إضافي كردي.
في الشوفينية الكردية الحداثية، تقوم تنظيمات المعارضة الكردية بجهد لإيقاظ الذاكرة العرقية، للأسر الكردية التي تعربت واندمجت، منذ مئات السنين. هذه الأسر لا تتكلم الكردية. لكن الإقطاعية منها، تظلمت من استيلاء الفلاحين العلويين على أراضيها، في أخصب أراضي الدنيا (سهل الغاب). آه ! نسيت الحديث عن الحزب (القائد)، وجبهته (البلغارية) التقدمية. أتفرس في وجوه القادة المخضرمين الذين تصدروا احتفالات ذكرى (ثورة 8 مارس/آذار 1963)، فأقول ماذا ينفع الحديث عن حزب، تجمدت الحياة في جسده، فبات جديرا بالرثاء، أكثر مما هو جدير بنقد، لا يصل إلى سمع الأموات.