أسرى التاريخ
كنت بدأت أخلع عني ثوبي الجنائزي عندما فرضت علي اﻷمور أن أستدعي تاريخي ...
تاريخي كسوري وكابن منطقة عُرف أهلها بالمواجهة والتحدي عبر تاريخهم الطويل حتى أصبحوا يورثوا جين المحارب من اﻵباء للأبناء عبر تاريخهم وجغرافيتهم التي فرضت عليهم ذلك منذ أمد طويل .
لا أخفيكم أني كنت غافلاً عن قصة هذا الجين حتى اكتشفتها منذ أكثر من عشرة أعوام ... عندما هبت انتفاضة شعبية في منطقتي ضد الظلم والفساد ابتدأت بشرارة شجار جماعي ...
ولا أخفيكم أني عرفت أيضاً أني أمتلك فرادة معينة تعطيني جرأة الابتعاد عن الغوغائية والانقياد لعقلية القطيع في ذلك الوقت تحديداً عندما وجدت أن اﻷمور تنحرف عن مسارها الصحيح (من وجهة نظري) نحو الغوغائية .
عرفت أموراً كثيرة في وقتها ومن وقتها حتى جعلتني "ختياراً" وكنت لا أزال شاباً ... لا أعرف إذا كانت معرفة الحقيقة مفيدة ، ولكننا لا نعرف الحقائق إلا بالتجارب . وما لم تصقلنا تجربة فلا قيمة لرأي فيما لم نجربه فعلاً ...
الحقيقة اﻷولى التي عرفتها ، أنني لا أملك الحقيقة كاملة بالضرورة ...
الحقيقة الثانية ، أن لا عقل ساعة الغضب عند المتواجهين ...
الحقيقة الثالثة ، غياب الدولة هو من أسوأ اﻷمور ...
الحقيقة الرابعة ، فساد السلطة يوازي غياب الدولة سوءاً ...
الحقيقة الخامسة ، لا مشكلة في الخوف فالخوف ينزع في لحظات ، والمشكلة تتلخص في سيادة اللاعقلانية .
الحقيقة السادسة ، لا نستطيع أن نلوم الشعب على ردة فعله عندما يُظلم .
الحقيقة السابعة ، لا نستطيع طلب الحلول العاجلة من الدولة في الظروف الحالكة وأثناء المشكلة ، فاﻷفراد الذين يعالجون اﻷزمات غالباً هم ناس دون المستوى المطلوب أثناء الظروف العادية فما بالنا باﻷزمات .
وتطول قائمة الحقائق "النسبية" التي أدركتها والتي لا يتسع المجال لذكرها اﻵن من مثل أن مسؤول قد يحرق مدينة ووطن كي ينجو بمنصبه ويعمل على نقل صورة خاطئة لمن هم أعلى منه تورط الجميع في مواجهة لا لزوم لها أو حتمية لا مفر منها ...
وقبل أن أشرع في الكلام هناك سؤال يطرح نفسه وهو لماذا أتكلم ؟ . وأنا مجرد فرد لم يسألني أحد رأيي ، ولا أعتقد أن أحد سيستمع لرأي شخص مجهول على النت يعمل على تحييد شخصيته الواقعية عن العالم الافتراضي بسبب خصوصية يعتقدها في حياته .
لا أخفيكم أنه منذ أن قامت ثورة تونس وأنا أفكر في سوريا ... أفكر كيف سيكون مستقبل هذا البلد الذي أنتمي له وأعيش فيه والذي لم ولن أفكر يوماً في استبداله .
أفكر كيف سيكون حال سوريا فيما لو قامت فيها انتفاضة شعبية نحو الحرية .
سوريا ليست تونس .. سوريا ليست مصر .. سوريا ليست ليبيا .
إذاً ماذا سوريا ؟
سوريا ببساطة شديدة هي التاريخ . فبقدر ما يعمل التاريخ على مساعدة بعض اﻷمم على اجتياز الأزمات بسلام ... يعمل تاريخ سوريا القديم منه والمعاصر على توليد اﻷزمات لها ، ونفس هذا التاريخ يجبرها على اجتيازه بانتظار أزمة لاحقة .
تاريخ يمشي على حافة الهاوية لا هو يعبر بالسوريين إلى بر اﻷمان ولا هو يسقطهم في الهاوية .
تاريخ نستطيع تلخيصه في الجامع اﻷموي ولا نستطيع اختصاره هناك .
ويبدو أننا سنضطر إلى استحضار هذا التاريخ مرة أخرى ، علماً أننا اليوم أبعد ما نكون بحاجة إلى استحضار هذا التاريخ بما يحمله من ثقل وحساسيات وحزازات .
ودائماً ما تخطر اﻷسئلة التي لا نجد لها أجوبة في بالنا وأهمها على الاطلاق في المرحلة الراهنة ... هل أدرك من استحضر -من السوريين خصوصاً- تاريخ الجامع "اﻷموي" ، أنه يستحضر تاريخ اﻷمويين المرير في بلد لم يعد أموياً بل أصبح سورياً ؟
ألم يكن من اﻷجدى استحضار السوريين بدل اﻷمويين وقصص التاريخ البائد التي لا تبني مستقبلاً ولا تصنع دولاً ؟
ألم يدرك البعض أننا على طريق المستقبل بحاجة إلى التصالح مع أنفسنا بدلاً من استحضار صراعات من زمن اﻷمويين مع علي بن أبي طالب وحتى اﻹخوان المسلمين مع البعث ؟
وهل قدر سوريا أن تظل أسيرة لطموحات السلطة بين هذين الفريقين وللتاريخ الدامي الذي نتج عن هذه الطموحات ؟
نعم ... إن مدينة درعا السورية تدفع اليوم ثمن بطئ السوريين في تصالحهم مع ذواتهم كما دفعت مدينتي هذا الثمن منذ أكثر من عشر سنوات .
ويبقى السؤال اﻷهم ولا أملك على المستوى الشخصي إلا التساؤل :
هل سيتصالح السوريون مع أنفسهم كي يقرروا موقفهم من مدينة درعا ، أم أنهم سيقررون موقفهم من هذه المدينة كي يتصالحوا مع أنفسهم ؟
كثيرة هي اﻷسئلة والهواجس التي تعتمل في نفسي وأنا أرتدي ثياب المواجهة للمرحلة القادمة ، والتي لا أعرف ضد من ومن أجل ماذا ستكون ؟
ضد تغول المستبدين واستفرادهم بنا ، أم ضد خطر الحرب الطائفية التي قد تشتعل ، أم من أجل الحرية ؟!
مواطن سوري