ما الإيمان ؟
بحسب الإسلام ليكون الإنسان مسلماً عليه أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي عرفها الإسلام.
ورد في سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285﴾}
ولما سئل النبي عن معنى الإيمان قال: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره}(رواه مسلم والبخاري)..
و بحسب المسيحية و في يوحنا 3 : 16-18
{ لانه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية. لانه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان و الذي لا يؤمن قد دين لانه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. }
كما هو واضح يختلف الإيمان بطبيعة الحال بين المسيحية و الإسلام, فالإسلام لديه قائمة بالعقائد المطلوب تصديقها و المسيحية لديها حزمة أخرى من العقائد الملزمة. في الإسلام يتم تلخيص الإيمان بكل شيء في الشهادتين بينما يحتاج المسيحي إلي قانون كامل للإيمان المسيحي لتلخيص عقائد المسيحية المطلوب الإيمان بها.
أول عيوب الإسلام أنه يخلط بين الإيمان و الشهادة, فمن يؤمن في الإسلام كمن يرى بعينيه و لذلك يقول المسلمون أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله مع أن كل المسلمين في زمننا الحاضر لم يروا الله و لا قاموا بعد الآلهة مثلا و لا تيقنوا بأي وسيلة مادية من رسالة محمد. كان من الأجدر بالمسلمون القول : أؤمن أن لا إله إلا الله و أؤمن أن محمدا رسول الله لأن المسألة ليست شهادة كرؤى العين بل هو إيمان شخصي, بهذا المنطق فكل المسلمون يعتبروا شهود زور بسبب شهادتهم تلك غير أن المسلم العادي لا يهتم طبعا بالفارق بين الإيمان و الشهادة لأنه تربى على دين سطحي يكرس الطاعة و التبعية و إلغاء العقل.
في المسيحية لا يخطئون هذا الخطأ .. لان لديهم أخطاء من نوع آخر. نعم المسيحيون لا يقولون أشهد أن المسيح هو الله لانهم يعترفون بأن المسألة ليست مادية عقلانية بل هي تحتاج لوثبة إيمان و لكن مشكلة المسيحية الأولى هي أن عقائدها معقدة و مركبة و كثيرة. يعني الإسلام بسيط, أشهد و أشهد أما المسيحية فهي أؤمن بإله واحد, الله الآب, ضابط الكل, خالق السماوات و الأرض .. ألخ. عقائد كثيرة ملزمة, ثم أنها عقائد معقدة مثل الثالوث الإلهي الذي يحتاج إلي شرح و تطويل عن كيفية أن الثلاثة لا تساوي ثلاثة بل تساوي واحد. بل و يختلف المسيحيون على التوافه و توافه التوافه مثل هل الروح القدس منبثق من الآب أم من الآب و الإبن.
عبر تاريخ المسيحية الطويل واجهت الكنيسة التي كانت واحدة كل من يجتهد في الدين و العقيدة من خلال محن شبيهة بمحنة “خلق القرآن” عند المسلمين و لكنها كثيرة, فمن آريوس لمقدونيوس لآبوليناريوس لنسطور لسابيليوس لديودور لثيؤدور لأوطاخي و حتى إنفضت وحدة الكنيسة في مجمع خلقيدونية. كل واحد من هؤلاء القساوسة يقرأ آية في الإنجيل فيعتقد أن لها معنى لاهوتي معين و حين يبدأ في الوعظ مروجا للمعنى اللاهوتي الذي إكتشفه, ينبري قس آخر معارض له معتمدا على آيات أخرى و في النهاية من يفوز يعتبر بطل من أبطال الإيمان و من يخسر يعتبر عميل للشيطان.
في المسيحية كان الجدل اللاهوتي عقيما لأن المسيحيون إختلفوا في التفاهات و إلا فمن يستطيع أن يفتي لنا بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة هي الإله المتجسد أم طبيعتين متصاحبتين هما إله و إنسان, بل من يقول لنا ما الفرق أصلا بين العقيدتين اللتين فرقتا الكنيسة إلي كنيستين. أما في الإسلام فكانت محنة خلق القرآن جوهرية لأنها إعتمدت على صراع بين العقلانية متمثلة في المعتزلة و الغباء المتمثل في السلفيين فلو كان المعتزلة من فازوا لربما كان العالم الإسلامي كله أكثر عقلانية و حداثة اليوم.
أهمية الإيمان في المسيحية
و مع إن الإيمان في المسيحية معقد و عقيم إلا انه أهم الشروط اللازمة للخلاص :
{ بدون إيمان, لا يمكن إرضاؤه } (عب 11 : 6 )
{ من آمن و إعتمد خلص } (مر 16 : 16)
{ إن لم تؤمنوا إني انا هو, تموتون في خطاياكم } (يو 8 : 24)
بل إن الإيمان هو العنصر الأساسي لصنع المعجزات أيضا :
{ فقال لهم يسوع لعدم ايمانكم فالحق اقول لكم لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل و لا يكون شيء غير ممكن لديكم } (مت 17 : 20)
{ فقال الرب لو كان لكم ايمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي و انغرسي في البحر فتطيعكم } (لو 17 : 6)
و مع أن المحبة أعظم من الإيمان في المسيحية :
{ و ان كانت لي نبوة و اعلم جميع الاسرار و كل علم و ان كان لي كل الايمان حتى انقل الجبال و لكن ليس لي محبة فلست شيئا } (1كو 13 : 2)
و مع أن الإيمان بدون عمل الخير لا يعتد به :
{ ان الايمان بدون اعمال ميت } (يع 2 : 20)
إلا أنه لا يمكن لاحد في النهاية ان ينجو بدون إيمان :
{ الذي يؤمن به لا يدان, و الذي لا يؤمن به قد دين … } (يو 3 : 18)
الإيمان هو أول و أهم شرط للخلاص في المسيحية بجانب المحبة و الأعمال الخيّرة, و برغم هذا الإنتقاص من قدر الإيمان في المسيحية إلا أن الكاثوليك (و هم نصف المسيحيين في العالم) يعتقدون ان الإيمان لوحده كافي لإدخال المرء المكان الرائع بعد الموت و أن هناك جهنم صغيرة مؤقتة تسمى “المطهر” لمن فعل الخطايا من المسيحيين بحيث يدخلها المسيحي الخاطيء ليتطهر من خطاياه بصورة مؤقتة ثم بعد ذلك يدخل إلي الملكوت الإلهي.
عموما فرعب جهنم (أو الجحيم) كان يجتاح مارتن لوثر مؤسس البروتستانتية و صاحب الإصلاح الديني في أوربا و هو ما جعله يبتدع عقيدة “الخلاص في لحظة” و هي أن المرء يستطيع أن يأمن شر الجحيم لو آمن فقط بان المسيح هو الله المخلص. و مع أن بقية المسيحيين (الأرثوذكس) في العالم لا يؤمنون لا بالمطهر و لا بالخلاص في لحظة بل يعتقدون أن المسيحي من الممكن أن يدخل جهنم إلي الأبد لو لم يكن محبا و أن يعمل أعمالا خيرة إلا أننا لا نجد هذا المسيحي مميز في أخلاقه عن بقية أهل الأرض لأن في الأغلب هناك طقوس و أوهام تبرر للمسيحي دخوله الملكوت بدون تعب أخلاقي.
رغم ذلك فالمسيحي المؤمن حقا بنصوص الإنجيل يجب أن يعيش حالة صراع نفسي ضارية عن كيف يأمن غدر الله الذي من الممكن أن يخطف روحه في ثانية بعد خطأ يكون قد إرتكبه و لم يكفر عنه بأي طقس. ربما لو كان كاثوليكيا لأمن شر التأبيدة في جهنم عن طريق “المطهر” المؤقت و لو كان بروتستانتيا فعقيدة “الخلاص في لحظة” ستكون معينا له و لكن الأرثوذكس يبدو أنهم محتاجين لإختراع عقيدة تقيهم القلق من العذاب الأبدي في الجحيم و بئس المصير.
المحصلة ان الإيمان في المسيحية هو شرط أساسي لدخول الملكوت و لكنه ليس الوحيد بل إن المحبة و عمل الخير هما شرطان آخران و هذا إن بدا شيئا جيدا و لكنه مما يشتت المرء و يلهيه عن أن يسال أسئلة عن اهمية الإيمان أصلا و عن السبب في أن حب الناس و عمل الخير ليسوا كافيين وحدهما لدخول الملكوت, ربما كان الإيمان له أهمية أقل من الحب و عمل الخير في المسيحية و هو مما يحسب لها و لكن مازالت له أهمية كبيرة في خلاص الناس و هو مما يحسب عليها.
أهمية الإيمان في الإسلام
في الإسلام يبدو دخول الجنة أسهل :
عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ) . رواه البخاري ( 3252 ) ومسلم ( 28 )
و في مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ” من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر يصيبه قبل ذلك ما أصابه “
في الصحيحين: ” إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله “
وهذا الحديث: ” إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله “، أخرجه الإمام أحمد [ ج- 2][ص-531] بإسناد منقطع عن معاذ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا سألك أهل عن مفتاح الجنة فقل: لا إله إلا الله “
بل إن الإيمان قد يعفي الإنسان من أن يكون على خلق :
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض ، وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فقال : ( ما من عبد قال : لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر ) . وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر .
الراوي: أبو ذر الغفاري, خلاصة الدرجة: [صحيح [, المحدث: البخاري, المصدر: الجامع الصحيح, الصفحة أو الرقم: 5827
و مع ذلك فهناك أقوال و أحاديث قد تقصي بعض المسلمين من الجنة :
قيل للحسن : إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة .
وقال وهب بن منبه لمن سأله: ” أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ” .
في الصحيحين عن أبي أيوب أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة. قال: ” تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم “.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، دلنى على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: ” تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان “، فقال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا “.
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة وأحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله، أما اثنتين فوالله ما أطيقهما؛ الجهاد والصدقة. فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده ثم حركها وقال: ” فلا جهاد ولا صدقة! فبم تدخل الجنة إذا؟ ” قلت: أبايعك، فبايعته عليهن كلهن “
يبدو أن هناك تناقض بين الأحاديث و لكن فقهاء الإسلام يرون شيئا آخر. يعني يقولون أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينها وبين أحاديث الوعيد التي فيها: من فعل ذنب كذا فالجنة عليه حرام، أو لا يدخل الجنة من فعل كذا، لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي محمد، وبأن أهل الجنة أيضا متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل ، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي أعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب.
و يقولون كذلك أنه لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل الشهادتين على النار وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمما؛ لإمكان الجمع بأن تحريم من يدخل بذنبه من أهل التوحيد بأن تحريمه عليها يكون بعد خروجه منها برحمة الله ثم بشفاعة الشافعين، ثم يغتسلون في نهر الحياة ويدخلون الجنة، فحينئذ قد حرموا عليها فلا تمسهم بعد ذلك، أو أن يكون المراد أنهم يحرمون مطلقا على النار التي أعدت للكافرين التي لا يخرج منها من دخلها، وهي ما عدا الطبقة العليا من النار التي يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله تعالى عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد.
الخلاصة إذن أن من يقول لا إله إلا الله و محمد رسول الله مؤمنا بها سيدخل الجنة إن آجلا أو عاجلا و أيا كانت مرتبته في الجنة, و هذا يعني ان هناك ممن سيدخل الجنة من يكون قد زنى و قد سرق و قد فعل حتى ما هو أكثر و لكنه يؤمن بالله و رسوله. طبعا هذا يعفي المسلمين من قلق ما بعد الموت بل و يعفيهم من تعب ممارسة الأخلاق و فعل الخير فهم ضامنين في نهاية المطاف أنهم داخلين الجنة لا محالة.
ثم إن حتى الأحاديث التي تلزمهم بأشياء أخرى غير الإيمان بالله و رسوله فهي تلزمهم بأشياء تافهه مثل الصلاة و الصوم أو تلزمهم بسلوك غير أخلاقي مثل الجهاد المسلح ضد الكفار و المشركين و بالتالي فالدين الإسلامي لا يؤكد على عمل الخير أو محبة الناس ولا يربط هذا بالجنة الموعودة كما فعلت المسيحية, بل على العكس أنه يربط الجنة بالقتال في سبيل إله مزعوم و نبي مزعوم بالإضافة للإيمان طبعا.
هل الإيمان فضيلة ؟
إذن يؤكد كلا الدينين (المسيحية و الإسلام) على أهمية الإيمان و إن تفاوتت أهميته بينهما من شرط أول فقط لدخول الملكوت إلي مفتاح الجنة و تذكرة دخولها. و لكن ما هو الإيمان أصلا ؟
الإيمان هو التصديق الأعمى لعقائد خارقة للطبيعة بدون إعمال العقل فيها أو إيجاد أدلة على صدق تلك العقائد, و مع أن هناك الكثير من المؤمنين يحاولون بشتى الطرق إقناع الناس بدينهم بطرق تبدو عقلانية او فيها إعتماد على أدلة إلا أن هذا يناقض مبدأ الإيمان و هو أنه يفوق العقل و المنطق و الأدلة. الإيمان أساسا يحتاج لوثبة فوق العقل و فوق العلم إعتمادا على أن العقل محدود و العلم قاصر و الإيمان بهذا الفهم يقوم على إحتقار الوعي البشري الطبيعي المادي و يسعى من أجل تكريس وعي آخر لا يعتمد على العقل او العلم او الأساليب المادية و يسمى الروحانية.
تلك الروحانية المزعومة هي نقيض العقلانية المادية و هي السبب في إنحطاط المؤمنين بها و تردي مستوى معيشتهم و ضعف مساهمتهم في الحضارة الإنسانية. فالحضارة تقوم أساسا على الفهم العقلاني المادي للعالم و أي تقدم في المخترعات أو العلوم النظرية يقوم على فهم عميق للمادة و تراكيبها بينما الروحانية تقوم على إحتقار كل هذا و البحث عن حل سريع و طريق مختصر للسعادة و يتمثل هذا الحل في التعالي على المادة و كبت الحاجات الإنسانية المادية. و إعتمادا على تلك الروحانية يتخيل المرء ان الإيمان المجرد هو أمر مهم و أن بالإيمان وحده يستطيع الإنسان أن ينقل الجبال أو حتى ان يدخل الجنة بعد الموت.
لكن في الواقع الإيمان هو مجرد التصديق, فلو صدق الإنسان أنه كائن يطير لن تنبت له جناحات روحية تنقله من مكان إلي مكان لكنه لو فهم الواقع المادي بعقلانية و قبل حقيقة أنه كائن لا يطير يستطيع أن يبني طائرة مثلا. الفارق ضخم بين السلوكين المادي و الروحاني فالأول فعال و الآخر يكرس الوهم و يضعف الفهم الحقيقي للعالم و بالتالي يؤبد الأوضاع السيئة على الإنسان. لهذا تفوق الغرب لانه عقلاني مادي يفهم العالم على حقيقته و يسعى لتغييره بالطرق الطبيعية المادية أما الشرق فغرق في قصص الجن و العفاريت و الآلهة و أعمال السحر و المعجزات ..
و مع ذلك يمكن القول أن للإيمان وجه آخر ..
فمثلا من يؤمن أنه إنسان ناجح في حين أنه ليس ناجحا بالفعل بالمقاييس الموضوعية ربما يساعده هذا الوهم على تخطي فشله و النجاح فعلا. الإيمان بوهم في تلك الحالة لا يبدو سيئا بل هو يعمل كدافع لتقدم الإنسان, و إن كان هذا لا يمنع ان الإنسان الواقعي الذي يعترف بإمكانياته الحقيقية و لكن لديه إرادة النجاح و الطموح الكافي يستطيع أيضا ان يحقق نجاحات ربما أكبر من نجاحات الشخص الموهوم بنجاحه سلفا.
على كل حال فإيمان المرء بنفسه أنها رائعة و ثقته بقدراته أنها كبيرة يختلف عن إيمانه بأنه خارق الذكاء مثلا أو خارق القوة, إيمان المرء بذاته يحتاج إلي الواقعية لكي يرشد و يهذب فلا يقع المرء في الغرور او جنون العظمة. بل إن الواقعية قد تنقذ المرء من الشعور بالدونية و الضآلة فبدلا من أن يظن أنه شخص حقير أو لا يستحق الحياة مثلا يستطيع ان يفكر بواقعية ليعرف أنه في حال أفضل مما يظن كثيرا.
لكن عموما أيا كان فضل الإيمان على نفسية المرء و مساعدته للإنسان على تخطي الصعاب و قهر المعوقات فإن الإيمان يجب أن يكون له حدود معقولة هي الحدود المادية الطبيعية. يعني لا يظن احد أنه يستطيع نقل الجبال بمجرد الثقة العمياء بأي شيء أيا كان أو يعتقد أنه سيحيا بعد الموت و يدخل مكانا رائعا بمجرد التصديق الأهبل بأيا كان سواء إله و لا حتى ملك الآلهة. ربما يكون الإيمان مفيدا و لكن بشرط ألا يتحول إلي وهم بما يفوق الطبيعة يغني المرء عن العيش في عالم الواقع بل يجب أن يكون الإيمان محدود بأقصى حدود الواقع المعاش, إيمان يجعل المرء يتصرف وفقا لتبعات الحوادث المادية التي تحدث و ليس وفقا لخيالاته و أوهامه.
سذاجة الإيمان الديني
لكن الإيمان الديني لا يمكن أن يحسب كشيء مفيد أو دافع جيد للإنسان بأي حال. فمثلا المسيحية و الإسلام كلاهما يعانيان من مشكلة كبيرة في مسألة الإيمان تلك, لأن كلا الدينين لديهما كتاب مليء عن آخره بالقصص الكثيرة المغرقة في الخيال و التي تلزم كل مؤمن بها كلها. هناك نقطة مهمة و هي أن المؤمنين لا يعرفون ما يؤمنون به, يعني كم من المسلمين او المسيحيين قد قرأ كتابه المقدس (أو قرآنه) كله و فهم معانيه كله لكي يقرر ما إذا كان سيؤمن بكل قصة أو عقيدة قرأها في هذا الكتاب أم لا, أو ما نسبة هؤلاء في كل دين الذين قرأوا و فهموا كل شيء يؤمنون به. فمن أكثر الأشياء حماقة هو أن تجد أحد المؤمنين يدافع بحرارة عن كتابه دون أن يكون قد قرأه و لو حتى مرة واحدة, و الكثير من الذين آمنوا هم كذلك في كلا الدينين و ربما في بقية الأديان أيضا.
و مع ذلك فالمسالة تحصيل حاصل لأن من يريد الإيمان لديه الإستعداد من الأصل لأن يصدق أي شيء و بالتالي فقراءته لكتابه المقدس لن تزيد أو تنقص من إيمانه, حتى لو قرأ عن حوت بلع إنسان و عاش بداخله ثلاثة أيام ثم لفظه حيا, و حتى لو قرا عن أهل الكهف الذين ناموا لمدة 309 سنة ثم صحوا بكامل هيئتهم و سنهم قبل النوم, أو النمل المتكلم أو الحمار المتكلم أو الحيات المتكلمة .. ألخ, ما هي أكثر القصص إغراقا في الخيال و إثارة للتكذيب يمكن أن نقراها و ليست موجودة في الكتب المقدسة : مغامرات السندباد البحري ؟ مملكة الخواتم ؟ قصص سوبرمان و أعداؤه الفضائيين ؟ كل هذا و أكثر موجود في الكتب المقدسة و لكن بإسم الإله أو ابن الإله أو النبي لكي يكون قابلا للتصديق. ما هي الكذبة التي لو سمعها المرء لن يصدقها مهما كان مستوى ذكاؤه ؟, نفس تلك الكذبة لو قرأها في كتاب أصفر قديم يسجد له الناس سيصدقها فورا و مهما بلغ مستوى ذكاؤه ..
الفكرة إذن لا تعتمد على الذكاء لان هناك من الأذكياء الكثير الذين قد يؤمنوا بعقائد مضحكة, هي سذاجة أن يصدق إنسان ان محمد طار إلي السماء راكبا دابة أو أن المسيح أقام نفسه من الموت و لكنها ليست غباء و الفارق يبدو أنه كبير.
فيبدو أن هناك من الناس من لديه القدرة على قفز قفزة الإيمان تلك بحيث يصنف معتقداته على أنها تفوق العقل و تفوق المنطق الذين يعمل بهم هو شخصيا في حياته. يعني صحيح أن 93 % من العلماء لا يؤمنون بوجود إله (الإحصائية تجدها
هنا) إلا أن احد العلماء المشهورين مثل فرانسيس كولينز (مدير مشروع الجينوم البشري) يجمع ما بين الذكاء من ناحية و السذاجة الدينية المسيحية المسماة إيمان من ناحية أخرى. كيف يجتمع هذا و ذاك ؟!!
الإجابة هي انه لا يوجد نظام كامل و حتى الذكاء من الممكن ان يصدر عنه تصرفات غبية لأن الذكاء هو ملكات عدة و بالتالي فقد يكون المرء ذكي علميا و غبي إجتماعيا مثلا أو العكس, و قد يكون كولينز لديه ملكة الذكاء العلمي و لكن ليس لديه ملكة القدرة على التمييز أو ربما ليس جريئا كفاية او تم تخويفه من جهنم و هو صغير. المسألة تدخل فيها إعتبارات نفسية كثيرة و لكنها لا تخل بالمعادلة, الذكاء و العلم مرتبطان بالإلحاد و العكس صحيح.
الشك أساس العلم
هناك من يؤمن .. و هناك من يعلم. الإيمان يعني ان المرء لا يعلم علم اليقين بأن الشيء واقع و لذلك يحتاج إلي التصديق غيبا و لكن العلم هو معرفة الواقع كما هو دون تدخل من الهوى او الرأي او حتى الإيمان. بهذا المعنى فالعلم اعلى من الإيمان و أكثر تأكيدا بنفس الدرجة التي يكون بها رؤى العين أقوى من مجرد الظن. و بهذا الفهم فالإيمان مكافئ للجهل لانه حالة من لا يعلم و لكنه يصدق ما لا يعلمه بغير دليل أو منطق.
و العلم يقوم على الشك في فرضيات ممكنة و إختبارها حتى يمكن التثبت من انها حقيقية فعلا اما الإيمان فيمنع الشك و التجريب من أجل التأكد مثلما يقول الكتاب المقدس : {لا تجرب الرب الهك} (مت 4 : 7), الإيمان هو إذن عكس العلم من حيث الموقف الإفتراضي فمن يعلم ليس كمن يؤمن, كما أن أسلوب العالم في المعرفة هو ضد أسلوب المؤمن في التصديق. هذا يفترض و يشك و يجرب و يقيس و في النهاية يتأكد تماما و يعلم علم اليقين أما ذاك فيؤمن و يكتفي بإيمانه لا يجربه و لا يغيره و لا يقيسه فيظل على حاله و لا يتقدم لانه لم يشك في الأصل.
لكن مادام العلم أقوى من الإيمان, كيف يتأكد المرء مما يفوق العلم ؟ أليس الأشياء التي تعلمناها اليوم كنا نجهلها بالأمس ؟ ما المانع إذن من أن يكون هناك الكثير من الأشياء التي لا نعلمها اليوم و قد نصل إليها غدا ؟
أولا : من العدل ان نقول أن المرء ليس مطالبا بما لا يستطيعه. يعني إذا كان هناك شيء لا نستطيع الوصول إليه أو التيقن من وجوده بأي وسيلة فنحن غير مطالبين بمعرفة هذا الشيء او حساب حسابه. فمثلا لو كان هناك طفل في المرحلة الإبتدائية يتعلم الجمع و الطرح فقط فهو غير مطالب بإجابة أسئلة عن الضرب و القسمة و ليس من العدل محاسبته على ما لم يتعلمه أو يفوق مستوى عقله. نفس الكلام ينطبق على الآلهة و التصورات الفائقة للطبيعة فلو كانت موجودة فعلا و كانت تفوق تصوراتنا و عقولنا و منطقنا الآن فهي غير ملزمة لنا بأي حال بل هي تخص من يستطيع ان يفهم ماهية الإله و طبيعته و يعلم علم اليقين بوجوده. اما ان يفوق الأمر إدراكنا و لكن نكون مطالبين به فهذا قمة الظلم. هذا الكلام ينطبق على الأفراد و على الجماعات يعني لو أظهر أحد الآلهة نفسه لواحد من البشر فهذا لا يمكن أن يكون ملزما أو له أي معنى إلا لهذا البشري فقط و ليس لاي بشر آخرون.
ثانيا : إذا كان العلم بكل جبروته قد فشل في التأكد من التصورات الفوق طبيعية أو من وجود آلهة فمن يستطيع أن يؤكد ان هناك شيء موجود و العلم لا يعرفه. يعني مثلا إذا كان أحد أقوياء البصر قد عجز عن رؤية شيء بعيد فكيف يمكن لمن ليس له بصره أن يؤكد وجود هذا الشيء. المسألة ليست بكثرة الناس المؤمنة أو قلة الناس الملحدة فهي ليست بالكم بل بالكيف او بمعنى أصح على أي أساس تصدق الكثرة و على أي أساس تنكر القلة. الكثرة تعتمد على إيمان بأشياء حدثت من مئات السنين قبل إختراع العلم أصلا و قبل وجود وسائل الإعلام و القدرة على حسم صحة الوقائع, يعني هناك أشياء تحدث في عالمنا الحاضر يظنها عامة الناس شيئا ثم يظهر فيما بعد انه كذب و تزييف مثل حب الناس لديكتاتور او إنتصار دولة ضعيفة في الحرب على دولة قوية و هكذا, فما بالنا بأشياء حدثت قديما, ما هي إحتمالات كذبها و زيفها. يعني العبرة ليست بكثرة أعداد المؤمنين لأن المؤمنين عقائدهم متضاربة أساسا و لكن العبرة بالمنهج المتبع في فهم العالم و الحياة من حولنا.
عموما فهناك من يقول : لا يهمني إن عبدت الحجر و لكن لا تضربني به ..
فربما يختلف الناس في عقائدهم و هناك من يؤمن باشياء غريبة و هناك من لا يؤمن بأي شيء و لكن في النهاية نحن كلنا بشر يجب أن نتكاتف و نتصاحب و نضع أيدينا معا لكي نحقق عالما أفضل يقوم على العلم و ليس على الإيمان لأن الإيمان مسالة شخصية قد تصح و قد لا تصح أما العلم فهو أقصى ما وصلت إليه البشرية من معارف.