حاول ولي الله الدهلوي أن يعيد توازن القوى المتصارعة في عصره لصالح الإسلام، وذلك من خلال كتاباته في المقام الأول وبترجمته للقرآن الكريم ثانيا. كما كان يقصد من وراء حركته التجديدية، الإصلاح بين مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية، لأنه كان يرى في تفرقها سببا في ضعف الإسلام.
وبعد وفاة الشيخ تولى ابنه الشاه عبد العزيز الدهلوي (1746 - 1824م) قيادة الحركة التجديدية التي قادها أبوه إلى جانب مسنده في التدريس. على أن ظروف الابن كانت أكثر صعوبة عن حقبة أبيه، حيث بدأ تأثير كل من السيخ والإنجليز ينمو باضطراد في الحياة السياسية والاجتماعية لشبه القارة الهندية.
ومع تصاعد وتيرة تردي أوضاع المسلمين في شبه القارة الهندية، أعاد الشاه عبد العزيز الدهلوي من جديد طرح المسألة الفقهية التقليدية: هل الهند دار إسلام أو أنها تحولت إلى دار حرب؟ كان ذلك في عام 1803م، منتهيا إلى تقرير أن كتاب «الدر المختار في الفقه الحنفي» يضع لانقلاب دار الإسلام إلى دار حرب ثلاثة شروط، ألا وهي: إحلال أحكام المشركين محل أحكام الإسلام، ومجاورة الدار لدار الحرب، وافتقاد المسلمين والذميين المقيمين للأمان الأول. ويتابع الشاه عبد العزيز: أن كتاب «الكافي في الفقه الحنفي» يقول: إن دار الإسلام هي التي يسيطر عليها مسلم، ودار الحرب هي التي يسيطر فيها وعليها كافر.
ويصل عبد العزيز بمقارباته تلك إلى النتيجة الحاسمة بأن دلهي، موطن الاستفتاء، ليست لإمام المسلمين فيها سلطة، بل السلطة للمسيحيين الذين تتيح لهم سيطرتهم أن يفعلوا ما يشاءون بالمسلمين، وأن مواطن سيطرة البريطانيين تمتد من دلهي إلى كلكوتا، ومن ثم فهي مواطن كفر وحرب، يتوجب على المسلمين فيها مجاهدة البريطانيين، لاستعادة هوية الدار أو الهجرة منها، إن عجزوا عن الجهاد.
وبالفعل سرعان ما ارتفعت راية الجهاد خفاقة تحت قيادة شيخ الطريقة المحمدية سيد أحمد برلوي (1786 - 1831م) الذي حج عام 1824م، ويبدو أنه تأثر كثيرا بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، حيث بدأ الإعداد للجهاد عقب عودته من الحج مباشرة، وذلك بدعوة أتباعه للهجرة إلى شمال غربي الهند على الحدود المتاخمة لأفغانستان، ولكن قتله السيخ في بلاكوت سنة 1831م، بعد أن تخلى عنه زعماء القبائل هناك.
وفي الناحية الغربية من شبه القارة الهندية كان تيتومير (ت 1831م) يقاتل في غرب البنغال ضد ملاك الأراضي الهندوس والبريطانيين معا، غير أنه هزم وقتل هو الآخر عام 1831م. ومع ذلك، استمرت الطريقة المحمدية في قتال البريطانيين بعد مقتل زعيميها في كل من منطقة سيتانا شمال غربي الهند، ومنطقة بتنة شمال شرقي البلاد إلى أن أمكن القضاء عليها نهائيا خلال عام 1883م.
أما الحركة الفرائضية التي أسسها الحاج شريعة الله (1781 - 1840م) في عام 1804م، فقد بدأت هي الأخرى سلفية مهتمة بتنقية التوحيد من الشوائب الكثيرة التي علقت به، ثم سرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا في عهد ابنه الملقب بدودو ميان (1819 - 1861م)، الذي جمع الفلاحين والحرفيين المسلمين في مجموعات ودعاهم لمقاومة ملاك الأراضي الكبار، إلى جانب البريطانيين، عن طريق الإضرابات والمظاهرات والهجرة وعدم إقامة الصلوات العامة كالجمعة والعيدين، ما دامت السلطة في البلاد ليست بيد المسلمين! ولما ضيق الإنجليز على علماء الهند المسلمين، نشأت حركة تعرف باسم «ديوبند»، أي حركة المحافظة على التدين. وقد انخرط أعضاؤها في الكفاح المسلح ضد المحتلين وتعاونوا في هذا الإطار مع الهندوس وانضم بعضهم إلى حزب المؤتمر الهندي، وعلى رأسهم: الإمام المجدد أبو الكلام آزاد، والشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ حسين أحمد المدني وغيرهم.
أما الشيخ أبو الأعلى المودودي (1321هـ/ 1906م - 1368هـ/ 1949م)، فكان والده أحمد حسن المودودي (ولد سنة 1266 هـ/ 1850م) من خريجي كلية عليكرة التي أسسها أحمد خان، وعقب تخرجه عين مدرسا بها، كما اشتغل بمهنة المحاماة. بينما ولد أبو الأعلى المودودي في الثالث من شهر رجب سنة 1321 هـ/ 25 سبتمبر (أيلول) 1903م بمدينة أورنك آباد الواقعة ضمن حدود ولاية حيدر آباد الدكن الشهيرة.
وما إن تخرج المودودي حتى امتهن الصحافة مع أخيه الأكبر، الذي كان يعمل مديرا لتحرير صحيفة محلية كانت تسمى «المدينة»، لكن سرعان ما أغلقتها السلطة، مما اضطره للانتقال للعمل بصحيفة أخرى تدعى «تاج»، إلا أن السلطات قامت بإغلاقها هي الأخرى، مما اضطره للعودة ثانية إلى مدينة دلهي بطلب من الشيخ المفتي كفاية الله، مدير جمعية علماء الهند، للعمل على إصدار مجلة «المسلم»، لتكون لسان حال جمعية علماء الهند، غير أنها أغلقت هي الأخرى! عام 1922م، بعد أن عمل مديرا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات، لكنه لم ييأس، حيث أصدر على نفقته الخاصة في العام التالي جريدة «الجمعية»، التي استمرت في الصدور حتى عام 1928م.
كما أصدر في عام 1932م مجلة أخرى بعنوان «ترجمان القرآن» في حيدر آباد الدكن، ثم استقدمه محمد إقبال عام 1938م إلى لاهور قبل وفاته بأربعة أشهر فقط. وبعد ذلك أسس المودودي «الجماعة الإسلامية» في لاهور وظل أميرا لها حتى الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1972، أي ما يقرب من 32 سنة كاملة! وقد تعرض المودودي بسبب آرائه السياسية وأحكامه الفقهية للاعتقال أكثر من مرة بل وحكم عليه بالإعدام عام 1953 بسبب كتابه «القضية القاديانية»، لولا تراجع حكومة الرئيس الباكستاني غلام محمد، بسبب تزايد الضغوط المحلية والدولية. وفي كل الأحوال، ظل المودودي يمارس جهوده الإصلاحية والتجديدية على صعيدي الفكر والممارسة السياسية، إلى أن توفي عام 1979م، عن عمر يناهز 76 عاما.
ومن ثم؛ يمكن القول إن المودودي، تابع إلى حد كبير نهج سابقه الشاه ولي الله الدهلوي في محاربة الجمود والتخلف وتوجيه النقد لكل التيارات المعاصرة له. غير أنه يمتاز عن سابقه باتساع الاهتمام السياسي لديه بحكم سياقات عصره، فضلا عن تقديمه الإسلام باعتباره نظاما شاملا لكل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ. ولم ينس المودودي بالطبع أن يوجه سهام نقده للحضارة الغربية التي كانت محل إعجاب الكثير من قطاعات الشباب؛ خاصة المنتمين فكريا لمدرسة أحمد خان المتخرجين في جامعة عليكرة.
أما على المستوى الفكري، فقد ترك الشيخ عددا كبيرا من الرسائل والمؤلفات تقارب 160 مؤلفا، في مختلف علوم السيرة والتفسير والتوحيد والدعوة والسياسة الشرعية أو الحكومة الإسلامية؛ إضافة إلى مؤلفاته في الثقافة والتعليم والاقتصاد والملل والنحل والترجمة وقضايا العالم الإسلامي المعاصر... إلخ.
ومن أهم مؤلفاته: الجهاد في الإسلام، ومكانة السنة في التشريع، وتفهيم القرآن (في ستة مجلدات)، والدعوة الإسلامية ومتطلباتها، والأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية، وترجمة القرآن الكريم باللغة الأردية، وسيرة سيد العالم، ومبادئ الإسلام، والحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها، والدين القيم، وتجديد الدين وإحياؤه، والجماعة الإسلامية: هدفها، وتاريخها، وبرنامجها، ومنهاج الانقلاب الإسلامي، ونظرية الإسلام السياسية، وحقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية، والخلافة والملك، ونظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، وأسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، وكتاب الربا، والحجاب، ومنهج التعليم الإسلامي، ومسألة الخلافة.. وغيرها.
ويبدو من خلال استعراض أسماء المؤلفات السابقة حجم الجهد التجديدي الذي بذله الإمام المودودي، خاصة أنه اقترن بنشاط عملي وسياسي مكثف كان له أكبر الأثر في تشكيل وعي الشباب المسلم في العالم أجمع، وليس فقط في شبه القارة الهندية.
وفي تفسير ذلك يذهب محمد عمارة في كتابه عن المودودي إلى القول إنه لما حدث وتوارت قيادة الإمام حسن البنا العاملة في إطار الشرعية القانونية، وسيطرت على أغلب البلاد العربية نظم ثورية وانقلابية ذات طابع شمولي، انفتح الباب على مصراعيه، في طول البلاد الإسلامية وعرضها، لمشروع المودودي - وليس لمشروع البنا - في البعث الإسلامي، بعد أن غاب إطار «الشرعية القانونية» الذي جعل البنا يعمل كجزء من نسيج المجتمع. ومن ثم، غدا أمير «الجماعة الإسلامية» الباكستانية - بعد استشهاد البنا - الملهم الأول لفصائل الشباب الإسلامي، على امتداد عالم الإسلام، وزاد من جاذبية هذا الطريق «الإسلامي - الانقلابي» تصاعد مخاطر التغريب والغزو الصليبي - الصهيوني.. وتلك قضية أخرى!
كتبه/ محمد حلمي عبد الوهاب
* المصدر:
جريدة الشرق الأوسط