من بانياس وحمص إلى طرطوس وجبلة
«السفير» على خط القلق من دمشق إلى عشيقتها اللاذقية
القنينص («السفير»)
مرفأ اللاذقية («السفير»)
غدي فرنسيس
اللاذقية :
رحلة الساعات الاربع براً تبدأ بالقلق من محطة الحافلات في حرستا ـ دمشق. عليك ان تقصد مكتب ضابط محطة «البولمن» لتجده صباحاً بلباس الرياضة مع جمع ببزاتهم الرسمية. تناوله هويتك ليختم تذكرة الرحلة بكلمات: «لا مانع» كي تتمكن، ايها اللبناني، من الصعود إلى الحافلة. على المدقق الامني أن يوقف الحافلة على المخرج، ليمر بين المقاعد سائلا عن بطاقات الهوية بصوت مرتفع. لكنه لا يقترب إلا إليك. يطلب هويتك أنت تحديداً من بين كل الناس. تتنقل عيناه من وجهك إلى صورة الهوية إلى مكان ولادتك وكنيتك (التي يعرف منها الطائفة) مرات عدة متسارعة في ثوانٍ قليلة. يخيّل إليك، من خلال نبضات قلبك المتسارعة، انك في جلسة امنية صامتة، سيتقرر فيها مصيرك في المستقبل القريب. بعد ان يتحقق بعينيه من دون أن يسأل أي شيء، يعيد البطاقة بهدوء وتهذيب. لكن هذا لا يزيل القلق ولا الخوف، فمن نافذة الباص ترى سلاحاً روسياً بين يدي امني بلباس مدني يمشي حول القافلة قبل الانطلاق. هذا كله قبل مغادرة المحطة والسبب البسيط: انت لبناني ذاهب إلى المكان الذي يصفه البعض بأنه الأكثر حساسية اليوم: مدينة اللاذقية.
مروراً بالقافلات المتوقفة في المحطة قبل الإقلاع النهائي، يشير السائق إلى إحداها: «ست رصاصات عليها»، شارحاً ما فعله القناصة بالباص المركون. فيعلن ضمناً لكل السامعين أن الرحلة لن تخلو من الخوف عبوراً ببانياس وطرطوس وحمص وجبلة، وصولاً إلى اللؤلؤة البحرية في اللاذقية.
الحمصي: مزحة ثقيلة
ساعات الرحلة الأولى تزيّنها سلسلة جبال على اليسار ومساحات شاسعة من الأراضي التي لم تلمسها يد بشرية إلا لتعلق أسلاك الكهرباء وعلب الإرسال الصفراء التابعة لشركة الخلوي mtn على امتداد الطريق، وتمثال للرئيس الأب فوق الجبل، وبعض المشاريع الزراعية والصناعية في جبرود ويبرود. لا أحد ينطق ببنت شفة، والقافلة ممتلئة بعمال ونساء وفتيات وشيوخ يتوجهون إلى بيوتهم النائية عن دمشق لمناسبة عيد العمال. الصوت الوحيد في المذياع يغني احياناً للشام بأصوات مطرب أو مطربة لبنانية، لينتقل بعدها إلى نقاشٍ صباحي مفاده «ماذا نسمّي التحرّك؟» وجوابه الدائم: «هذه ليست ثورة». ويقرأ موجز الاخبار سريعاً بين الفينة والفينة ليبث مزيدا من القلق: عصابة مسلحة هنا، إرهابي هناك، شاحنة أسلحة من هنا.
ساعتان وتصل إلى محطة حمص. يترجل المسافرون للاكل والراحة. يجلس السائق ليتناول فطوره، إذ يقصده بعض الرجال لتبادل الحديث. ويدور عمال الاستراحة الكثر حول الطاولات وخلف براد الأكل، بمختلف الاعمار. يفتعل أحدهم النكتة مع الوجه اللبناني الطارئ على الاستراحة فيقول: انا من «تلبيسة»، فتلتفت كل الوجوه إليه، ليعقّب ضاحكاً: «عم بمزح أنا مو من هنيك».
بان البحر السوري الكبير وبان الأمن
ومن حمص إلى طرطوس يختلف المشهد. اراض تكثر فيها البيوت البلاستيكية الزراعية وخيم لبعض العمال. بيوت فقيرة تسكن الحقول، ومحال ومشاريع تجارية متواضعة تتناثر هنا وهناك، إلى ان يطل بحر طرطوس لترى فيه عشرات السفن الكبيرة الراقدة على كتف المدينة المتنامية على اليسار. عبوراً بجسر بانياس حيث «وقعت الحوادث»، تنطق ميسون عن الفتنة والمؤامرة والسلفيين. ابنة احدى قرى جبلة الموظفة في وزارة الثقافة السورية، من مقعدها: «نحن لا نحب الرئيس فقط، نعبده عبادة، لأنه أعطانا كرامة أن نكون آخر وطن عربي يحارب إسرائيل»... عبوراً بمنطقة عبد الحليم خدّام لا تكتم كرهها له ولجماعته «المخربين» في بانياس.
تنتهي رحلة ميسون في محطة جبلة حيث تقف الحافلة مرة أخرى لدقائق قليلة فتتكلم زحمة الشارع سريعاً عن أحوالها. يمر عمّال بثياب فقيرة وميسورة، متسخة ونظيفة، فتيات محجبات وسافرات، ملوّنات متبرّجات ومهملات، سيارات من كل الأعمار والأحوال، محلات متناثرة الى اليمين واليسار، في سوق ملوّنة كثيفة، ورجال أمن يتوزعون زمراً زمراً، مسلحون وغير مسلّحين، مدنيون وعسكريون في أرجاء جبلة. كل من يتكلّم يقول: أرأيت الفرق بيني وبين دمشق؟ انا فقيرة وعشوائية وقروية ومتنوعة ويخيم فوقي ظل أمني أشدّ ظلامة.
اللاذقية: «لا» طائفية،
لا ـ طائفية، و«لا للطائفية»
هي المرفأ البحري الأكبر وفسيفساء الطوائف. يلقّبها بعض أبناؤها بمدينة «التنابل». وبحسب إحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية، اللاذقية هي الأكثر بطالة في سوريا. في الحديث مع وجوه عشوائية، تلمس فرزاً طائفياً يجمّل صورة الطائفية اللبنانية بالمقارنة. «بصفتي سنيا معتدلا»، «أنا كعلوي»، «انا مسيحية»، كثيرون يستهلون كلامهم هكذا. وفي الشارع أيضاً شائعات عن كنيسة بمحيط حي «الأميركان» طبع عليها «ممنوع الشعانين يا ولاد عم العلوية»، وهتاف انطلق من حي «القنينص» مفاده: العلوية عالتابوت، المسيحية عبيروت».
جيش في دشم من أكياس رمل وخوذ وسلاح على جميع مداخل «الرمل الفلسطيني» و«السكنتوري»، تجمّع كثيف لآليات الجيش في ساحة أوغاريت المتاخمة للجامع الذي تنطلق منه التحركات في «الصليبي». امنيون بالسلاح على خطوط الفصل الكثيرة في المدينة التي تتشابك فيها الطوائف. قلق يضرب المجتمع والاقتصاد والحركة. فالمدينة التي كان يحلو فيها السهر على كتف البحر حتى ساعات الفجر الأولى، تنام الساعة الثامنة مساء هذه الأيام. بعد ساعات الليل الأولى تصبح دروبها كمدينة أشباح. أسياخ الشاورما في المساء لا تزال سمينة ولم تؤكل، المقاهي قليلة الطاولات، والفنادق شبه خالية. وحده المرفأ البحري ينقض المعادلة، فيكاد يضاهي المدينة ازدحاماً بالسفن والمستوعبات والعمّال والشاحنات طوال الوقت.
تعبّر اللاذقية عن نموذج حقيقي لتداخل الطوائف في سوريا. فيها الحارات حيث يغلب اللون الواحد والمشاريع السكنية المتنوّعة. لون علوي في الرمل الشمالي، حي الازهري، والدعتور. ولون سني واحد في الصليبي ومشروع الصليبي، قنينص، بستان حميمي، الرمل الفلسطيني، سكنتوري وغيرها. بينما يتوزع المسيحيون في حي الأميركان والمشاريع المختلطة التي هي الاكثرية ومنها: مشروع الزراعة، مشروع البعث، المشروع الثاني، الريجي، الاوقاف، المشروع العاشر، وغيره.
ايام احداث الثمانينيات في حماه حيث تحرّكت الذراع المسلحة للإخوان المسلمين، وبحسب رواية الأهالي، حاول الرئيس الأب أن يعالج مشكلة التقوقع الديموغرافي الطائفي في الصليبي عبر بناء «مشروع الصليبي» وجعله سكناً للضباط وعائلاتهم، فتمتزج هكذا الطوائف. ثم بعامل الزمن، انشقت وانتقلت كثير من العائلات لتعود الغلبة للون الواحد في المشروع كما في الصليبي الذي هو أحد أساسات اللاذقية المدينة.
ورغم ان التحرّكات انطلقت من جامع الصليبي الذي تنام خلفه آليات الجيش السوري في تجمّع هو الأكبر في المدينة، إلا ان المعتصمين بمعظمهم كانوا من «سكنتوري والرمل الفلسطيني» اللذين يتغير شكل الوجوه عن السماع بهما. فما هي هذه المنطقة؟
السكنتوري والرمل الفلسطيني: حزاما بؤس
تعرفها من الجيش الرابض على كل مفارقها ومداخلها في دوائر لا تظهر منها سوى خوذة الجندي المتمركز فيها. منطقة تنطبق عليها مواصفات احزمة البؤس كما مواصفات مخيم عين الحلوة أو نهر البارد من حيث الشكل و«الصيت». الفرق أن هذه الاحزمة ليست مأهولة بالفلسطينيين كلهم ولا بالفلسطينيين وحدهم. هي اشبه من حيث الشكل بحزام البؤس النموذجي الذي تجده حول معظم المدن: بيوت عشوائية كثيرة لا تتعدى الطابقين ارتفاعاً، ازدحام كثيف، «صيت» عن ايواء بعض المطلوبين وتجار المخدرات والمجرمين والسلفيين. يزيد بؤسها انعدام فرص العمل اللائق أمام ابنائها. يقطن فيها من تسمّيه اللاذقية «شريقي» وهو الوافد إما من محافظة إدلب، وإما من «جسر شغور» او تلك المناطق المحيطة.
كلفة البيت هناك لا تتعدى الستة آلاف دولار اميركي، ما جذب الفقراء واليد العاملة الرخيصة التي تسد حاجات اللاذقية. ففي المقاهي، معظم النادلين من «الشريقيين» وفي البيوت التي لم تستعن بخادمات أجنبيات، تعمل نساء «شريقيات». وفي الوقت نفسه، غسان سلواية الملقّب بأبي نظير، الذي ظهر بصفة «إرهابي منظّم للمخربين» على التلفزيون السوري هو أحد رؤساء حاراتها. وأبو نظير اليوم وعبارته المتكررة «ربي يسّر»، هو الاكثر شعبية في المقاهي والبيوت والشارع. الكل يمازح الكل قائلاً «ربّي يسَّر». ففي «جلسة اعترافه» كان «الإرهابي أبو نظير» المحكوم خمس سنين بتهمة المخدرات وما شابه، يعقّب كل جملة من روايته بعبارة «ربي يسَّر». ولأن شخصيته وصيته، بالاضافة الى هدوئه الذي يسخر منه البعض في الشارع مرجحا انه بسبب «الحشيش والحبوب»، لقيت إعجاب جماهير التلفزيون السوري وموقع «يوتيوب»، أصبح الاكثر شهرة لدرجة انشاء مجموعات «فيسبوكية» على شرفه. وطالبت به إحدى صفحات «الفيسبوك» بعنوانها: «الشعب يريد أبا نظير مرة اخرى على التلفاز»!
بين روايات الإعلام واللافتات التي تقول ان الحرية يجب ان تلتزم القانون، قلق وخوف من التخريب. في ظل «جمر الطائفية الذي كان نائماً تحت الرماد»، تتنوع وجهات النظر والآراء اللاذقانية اليوم. سفكت الدماء في شوارعها في الاسابيع الماضية، كما ظهرت تحرّكات سلمية بعد صلاة الجمعة ولم تقمع لكنّها حوصرت في الصليبي. اعتصم البعض في ساحة تقاطع «أديداس» وقصدهم المحافظ ليسمع ما عندهم. تعرض البعض لأملاك عامة وخاصة مثل مبنى يضم مكتب «سيرياتيل» في ساحة الشيخ ضاهر في وسط البلد، بالاضافة الى حافلتين للجيش. منذ أربعين يوما، والمدينة مربكة وقلقة ويلفّها وجوم. وتستفيق فيها الطائفية بينما يشدد البعض على ميزة تعايشها المشترك. فماذا تقول وجوه اللاذقية؟ وما الحل الذي تطرحه؟
(غداً في «السفير»: حين تتكلم المدينة البحرية)
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionID=1836&ChannelID=43206&ArticleID=103