طريف سردست
فقط بعد انقضاء حوالي العشرة سنوات على النجاح في فك الخارطة الجينية للانسان انتشرت المختبرات في العالم لوضع الخرائط التفصيلية لمختلف الشعوب. حتى الان (نهاية عام 2010) جرى وضع حوالي 2700 خارطة جينية وحسب المجلة العلمية " الطبيعة" فإن الهدف هو تجاوز 30000 خارطة في نهاية العام الحالي. خلف هذا النجاح يقف التطور التكنيكي لتحليل الجينات، بحيث ان وضع الخريطة اليوم ارخص 100 الف مرة من تكاليف الخريطة الاولى. إضافة الى ذلك يحتاج الامر الى بضعة ايام فقط.
الان اصبحنا على ابواب وضع خرائط للاختلافات الجينية بين الشعوب والافراد لكشف التغييرات الجينية التي تقف خلف الامراض الوراثية والتشوهات الخلقية، مثل السرطان والسكري. بواسطة المقارنة مع الخرائط يمكن دراسة التفاعل بين الجينات وتأثيرهم على الامراض. ذلك يعني انه سيأتي وفت يكفي للطبيب ان ينظر الى خريطتك الجينية ليعرف المرض المصاب به او الذي ستصاب به قريبا. بذلك يصبح من السهل على الطبيب ان يشفيك " قبل الاصابة بالمرض".
منذ فترة قريبة انتهى مشروع " الالف جينوم" 1000 Genomes Project, وهو المرحلة الاولى من اطلس التنوع الجيني للانسانية. هذا المشروع يتضمن عرض لقوة التكنيك حيث يحتوي على توثيق 4،9 بليون حمض نووي قاعدي مأخوذة من 800 انسان ويغطي المشروع 95% من التنوع البشري.
يقول مدير المشروع Richard Durbin, " لقد ضاعفنا من اعداد التنوع الجيني المعلوم لنا وعثرنا على 15 مليون تنوع جديد".
ويسعى الباحثون الان لوضع خريطة ومقارنة 2500 جينوم بشري من مختلف بقاع الارض لوضع كتالوج قادر على كشف جذور الامراض الجينية وتفريق الاضافة الجينية عن عوامل البيئة والسلوك والحالات الطارئة، وفي ذات الوقت اكتشاف خارطة تفصيلية لجذورنا الجينية والاسباب التي تجعلنا بشر وافراد. يقول عالم الجينات Chris Tyler-Smith " لقد حققنا حلمنا بالحصول على خارطة جينية كاملة لدراسة الفروقات في التطور ولرؤية اصل الانسان).
مفاجآت
مشروع الالف جينوم يتم بمعدل جينومين في اليوم وتمكن من اصابة الباحثون بالدهشة. من خلال وضع جينوم لعائلتين ، اب وام والاولاد، تمكن العلماء من اثبات ان خطوات التطور عند الاولاد تصل الى حوالي 60 طفرة اورجينال ليست موجودة لدى الام ولا لدى الاب على السواء. هذا يعبر عن الامكانيات الكامنة الهائلة لعملية الطفرة لم يكن الباحثون يتوقعونها.
وعند وضع خارطة تخص القسم الكود البروتيني وحده من الحمض النووي لمجموع 700 انسان من مختلف الاثنيات يظهر لنا ان الجميع يمتلكون حوالي 250 -300 جين مشوه منهم حوالي 50-100 معلوم دورها في نشوء الامراض.
غير ان القوة الحقيقية لهذا الاطلس هو عرض التنوع الجيني. لذلك فهذا المشروع هو استمرارية لمشروع سابق HapMap والذي بدأ عام 2002 وتمكن من توثيق نقاط في الجينات الاوروبية والاسيوية والافريقية يسمى SNP (Single Nucleotide Polymorphisms), وبواسطته يمكن ايجاد الامراض. افضل الطرق للتعريف بهذا المشروع من خلال الاشارة الى انه في ثلاثة ملايين موضع في مورثات الفرد يوجد ازواج د ن آ قاعدية تكون مختلفة عن مثيلتها لدى والده ووالدته. والمفيد في هذا الاطلس ان هذه التغييرات يمكن استغلالها كمعالم وبالتالي يمكن الاكتفاء بتحقيق توثيق مليون منهم وليس كامل الثلاثة مليارات من الـ د ن آ القاعدية الموجودة في كامل جينوم كل فرد. ان الذكاء في هذه العملية هي إمكانية استخدام هذه النقاط المعالمية كنقاط تعريفية يمكن العودة اليها والانطلاق منها وبالتالي الاكتفاء بتوثيق مليون فقط.
Genomic distribution of SNP density on human chromosomes 1 to 22. The colours show the SNP density, with red indicating higher densities and blue indicating lower densities. Note high rates of SNP variation near the ends of the chromosomes.
عند مقارنة مدى تكرار النقاط الاكثر شيوعا من SNP لدى المرضى فإن النقاط المتكررة لدى المرضى وليس لدى فريق المقارنة تكشف ضرورة وجود عامل مرضي بالقرب من منطقة النقطة التعريفية. هذا النوع من التحقيق يسمى GWA (Genom-Wide Association) ويساعد الباحثون على التدقيق في النقطة الصحيحة في الحمض النووي. الطريقة برهنت على انها ناجحة وحتى عام 2009 جرى توثيق مايقرب 400 دراسة بنتيجتها جرى التعرف على 1000 جين يلعبوا ادوارا مهمة في مجموعة من الامراض الصعبة مثل امراض القلب والاوردة الدموية والسرطان.
تطبيقات عملية
Chuck Wallace, 55 عام من تكساس مدين بالشكر لهذه الطريقة ولشركة deCODEme لتمكنها من اكتشاف سرطان البروستات لديه في الوقت المناسب. عام 1998 حصل على إمكانية تحليل دم مجانية للبحث عن سرطان البروستات. التحليل اظهر تغيرات قليلة في القيم وطبيب الاورولوجي وجد ان البروستات كبيرة قليلا، وجرى نصحه بإجراء تحليل جيني تقوم به العديد من الشركات مقابل 1000دولار. المعني اعلاه ارسل قشور من جلده الى الشركة اعلاه التي قامت بوضع خريطة جينية لمليون نقطة تعريفية تقريبا. تحليل هذه الخريطة اظهر ان لديه المعالم نفسها كالتي توجد عند المصابين بمرض سرطان البروستات وانه متعرض لمخاطر الاصابة ضعف المتوسط الامر الذي اقنع الطبيب المعالج بأخذ عينة من نسيج البروستات للتحليل الامر الذي سمح بإكتشاف السرطان لديه في مرحلة مبكرة وامكن علاجه.
الامراض الوراثية والتطور
وعلى الرغم من النجاحات التاريخية الا ان العلماء اكتشفوا ان التعقيد في بيلوجيا الجينوم اكثر بكثير من التوقعات الاولية، من حيث ان دراسات GWA تمكنت من كشف من خمسة الى عشرة بالمئة فقط من العوامل الوراثية التي تقف خلف الامراض. هذا يتوافق مع كون كتالوج HapMap يغطي النقاط التعريفية الاكثر شيوعا فقط والموجودة عند عشرة بالمئة من الناس. ومن حيث ان الامراض غالبا تظهر للعلن في الاعمار المتاخرة بعد ان يكون المرء قد حصل على الاولاد وحتى الاحفاد ، فإن الفرضية ان الجينات السيئة كانت واسعة الانتشار لعدم خضوع هذا النوع من الجينات لعامل الاصطفاء الطبيعي. غير ان ذلك ليس صحيح تماما.
اليوم يعتقد الباحثون ان خلف الامراض تقف نسخ نادرة دراسات GWA لم تتمكن من اكتشافها بمساعدة الكتالوج. الوضع الامثل بالطبع هو وضع خارطة للجينوم بكاملها ومقارنته لمعرفة اماكن الاختلاف مع جينوم اشخاص المقارنة ، غير ان كل واحدة من دراسة GWA من الناحية الاحصائية، تتطلب عشرات الاف الاشخاص، فإن هذه الاستراتيجية ستكون باهظة التكاليف للغاية. من هنا اهمية مشروع الالف جينوم، الذي اشرنا اليه سابقا إذ انه توسيع لمشروع الجينوم الانساني الاصلي HapMap ويجعل بالامكان استخدام التناظر الجيني. ذلك يعني ان كل شخص سيحصل بعد ذلك على خريطة جيناته فإن هناك مابين الواحد والاثنين بالمئة من النسخ الجينية تخصه وحده. بذلك يحصل الاطباء على كتالوج يقوم بتعريف اغلب نسخ الجينات النادرة التي تقف خلف نشوءالامراض، وفقط من خلال بضعة ملايين من النقاط التعريفية.
تطبيقات عملية مرة اخرى
بفضل تحليل الجينوم لاختين امريكتين Loise Bege and Paula Allen, واللتان كانتا تعانيان من نوع نادر من تكلس الاوردة الدموية يصيب فقط الايدي والاقدام وعجز الاطباء عن فهم اسبابه، كشف التحليل عن طفرة في جين NT5E يسبب المرض. وعلى الرغم من انه لايوجد دواء لهذا المرض اصبحت الاختان تعلمان الاسباب التي تقف خلف آلامهن واصبح بالامكان تقديم تشخيص عوضا عن البقاء في المجهول.
قصة الطفل الامريكي Nic Volker تبين لنا الآفاق التي نتجه نحوها. قبل ان يتم عامه الثاني اصيب بآلام في المعدة واصبح من الصعب عليه ان يمشي. توقع الاطباء انه يعاني من التهابات في جهاز الهضم ولكن مع المعالجة زادت الامور سوء. لقد ظهر لديه ثقب في بطنه واصبحت سوائل الامعاء تخرج منه. وعلى الرغم من العمليات الجراحية لم يتمكن الاطباء من معرفة الاسباب واصبحت حياة الطفل في خطر. في عام 2009 كان وضعه الصحي سئ للغاية مما دفع الاطباء الى اتخاذ قرار بوضع خريطة جينية له على امل اكتشاف طفرة جينية تكون السبب. ذلك يعادل البحث عن ابرة في مستودع من القش. ولكن الاطباء نجحوا في العثور على تغييرات طرأت على جين XIAP والذي لم يكن معروفا سابقا علاقته بأمراض الامعاء. في عام 2010 جرى زرع عظم نخاعي جديد للطفل لتعويض جهاز المناعة والان الطفل متعافي تماما. لقد تمكن الاطباء من معالجة اخطاء الخلق.
الكتالوج يساعد ايضا على المقارنة بين الجينوم الانساني يعود الى ماقبل التاريخ وبين الانسان الحالي. وايضا ساعد على المقارنة بين جينوم الانسان وجينوم الشمبانزي، مما يعطينا الفرصة لنعلم لماذا نحن بشر. في دراسة جرت على 159 شخص لمعرفة الفوراق بيننا وبين الشمبانزي، قام بها الباحث الامريكي Evan Eichler, وهوالباحث الذي وضع اول جينوم انساني اساسي، تمكن من اكتشاف مجموعة من الجينات ( منعزلة عن بعضها) وعوائل من الجينات ( متتالية) تطور فيها لدى الانسان اختلافات كمعالم عن لحظة الانفصال بين الاصل المشترك لكلا النوعين وبالتالي تقدم لنا تعريفا عن اسباب خصوصيتنا كبشر. على الاخص اشار الى عائلة من الجينات مهمة لتطور الدماغ وتملك اهمية لنمو الخلايا العصبية وتفرعها. الجينات امتلكت اهمية حاسمة في نشوء الدماغ الانساني وتطوره بالمقارنة مع دماغ الشمبانزي.