طريف سردست، موقع الذاكرة
بالعثور على مستحاثة اردي اصبحنا اليوم اكثر قربا لمعرفة اصل الانسان.
مشروع Middle Awash Project الذي يدرس القضية والذي مضى عليه حوالي العشرين سنة يعمل فيه الباليو انتربولجي paleoantropology Tim White, والذي يقول:" اردي هو اقرب حلقة للاصل المشترك بيننا وبين الشمبانزي عثرنا عليها حتى الان".
مشروع التنقيب في شمال الصحراء الاثيوبية انطلق على يد البريطاني ديسموند كلارك Desmond Clark في بداية السبعينات والذي ظهر انه منجم من ذهب. الدليل الاول على ان المنطقة تحتويي في اعماقها على برهان على نوع انساني مجهول ظهر عام 1992 عندما تم العثور على فك لطفل لايشبه اي مثيل له من اللقى السابقة. الفك وبضعة عظام اخرى كانت الدليل الاول على وجود Ardipithecus ramidus. غير ان المشكلة ان العظام التي جرى العثور عليها كانت قليلة ولاتعطي الفرصة لتحديد خصائص النوع.
بعد عامين تم العثور على عظام اليد وبفترة قصيرة تم جمع اكثر من مئة قطعة من العظام ولكنها كانت بحالة سيئة. لهذا السبب جرى تصويرها وتحويلها الى دجيتال، وتركيبها الى حالتها الاصلية.
مجموع عظام اردي وصلت الى 125 وتتضمن جميع الاقسام الهامة، ومنها الجمجمة والاسنان والحوض والاذرع والساقان. لهذا السبب كان بالامكان القيام بمقارنة مع لوسي التي تعتبر اصغر بحوالي مليون سنة من اردي وتنحدر عن عائلة Australopithecus, والتي جاءت بعد عائلة اردي، وتعتبر الاصل الذي انحدرت عنه الهومو، والذي يشكل الهومو سابينس فرعا عنه.
ان العلماء قاموا بتصنيف اردي في الخط الذي انحدر عنه الانسان وليس في خط الشمبانزي مثلا سببه العديد من المميزات الرئيسية. هذه المميزات نراها لدى الانسانيات اللاحقة مثل لوسي في حين لاتوجد لدى القرود البشرية، البقاقية على قيد الحياة اليوم او التي انقرضت. هذه المميزات مرتبطة بابقدرة على السير المنتصب مثل شكل عظام الحوض وشكل مناطق اتصال العضلات بها وخصوصية العظام في اصابع الاقدام. يضاف الى ذلك صغر الاسنان القواطع وقصرها لدى اردي ، وهي خصوصية موجودة فقط عند الانسانيات، في حين ان البقية لديها قواطع حادة وطويلة.
على خلفية اردي كأحد الحلقات الرئيسية في طريق تطور الانسان يمكن ايضا النظر الى الخلف في إتجاه الجد المشترك مع الشمبانزي، والذي ، حسب التقديرات، كان يعيش قبل مابين ستة الى ثمانية ملايين سنة. ومع ان اردي عمره حوالي 4،4 مليون سنة الا ان خصائصه الانطمالوجية بعيدة عن النقطة المشتركة. اردي يملك نقاط تشابه مع بعض المستحاثات الاقدم عمرا ومنها يصل عمره الى 6-7 مليون سنة مثل Sahelanthropus tchadenis, والذي جرى العثور عليه في تشاد عام 2001، ومستحاثة اخرى عمرها 5،7 مليون سنة Ardipithecus kadabba, والتي ايضا جرى العثور عليها في منطقة مشروع ميدل اواش.
كلا المستحاثتين السابقتين كان اصحابها منتصبي القامة وامتلكوا قواطع قصيرة غير ان هياكلهم ناقصة كثيرا الى درجة من الصعب الحكم على بقية الخصائص. على قاعدة اردي كنقطة مقارنة يمكن ان نفهم انهم كانوا ايضا ينتمون الى الخط الانساني من التطور. من هنا اهمية اردي كممثل عن تلك الحقية التاريخية.
يثير العجب ان اردي القريب للاصل المشترك مع الشمبانزي هو اقرب للانسان الحالي انطمالوجيا منه للشمبانزي مما يدل على ان الشمبانزي هو الذي تغير راديكاليا عن الاصل المشترك وليس الانسان، وهذا على عكس الاعتقاد السابق. ذلك يدلل على الانسان ليس " قرد متطور" كما كان الاعتقاد سابقا وانما لربما على العكس. يقول الانتروبولوج C. Owen Lovejoy :" يبدو ان الانسان هو الذي ظهر متخلف في حين ان الشمبانزي هو الذي تطور كثيرا". ان يكون اردي يشبه الانسان في العديد من النقاط يدلل على ان الانتصاب هو تخصص بذاته في طريق التطور. يقول Donald Johansen:" اردي حلقة مهمة لامتلاكها خصائص لااحد كان قادرا على توقعها".
ماهذا الكائن الذي لخبط كل تصورات الخبراء عن طريق تطور الانسانية؟
اردي كان انثى طولها 120 سم ووزنها 50 كيلوغرام. يعني انها كانت اطول من لوسي وضعف وزنها. ذلك سيعني انه، وعلى العكس مما هو الحال مع لوسي، ليس هناك فرق ذو اهمية بين الذكر والانثى في الحجم. في ذات الوقت لاتتناسب ابعاد طول اذرعها وسيقانها مع مثيلتها عند الغوريللا والشمبانزي التي تملك اذرع طويلة وسيقان قصيرة. انهم يتناسبوا اكثر مع مستحاثات القردة الانسانية المتأخرة او القرود الحالية من نوع macaque. ومع وجود مفصل لليد يمكن ثنيه الى الخلف يدلل ذلك على ان اردي كان قادرا على السير على اربعة على الشجر. الشمبانزي يملك يد طويلة، وعظامها قوية، مؤهلة لمسك الاغصان في حين ان يد اردي تشبه ايدينا.
غير ان اردي كان يملك ايضا ابهام طويل في قدمه لاستخدامه في القبض على الاغصان ولكنه ليس قابل للحركة بالسلاسة التي يملكها مثيله لدى الشمبانزي كما ان قطع العظام خلف الابهام تشهد على تطور بإتجاه قدم اكثر ثباتا وهذا مهم للسير المنتصب.
مفاجاة اخرى كشفها هيكل اردي ان التحليل الكيميائي والاشعاعي للتربة التي عُثر على المستحاثات فيها ولاسنان اردي كشفت ان اردي عاشت في الغابة وعلى منتجات الغابة. المنطقة التي عاشت فيها كانت غنية بمنتجات الغابة الخضراء والكثيفة والرطبة. هذا الامر يحطم الاعتقاد السابق لدى العلماء ان الانسان انتصب بسبب التغييرات التي طرأت على البيئة حيث الغابات تحولت الى سهوب واضطر الانسان للانتصاب من اجل الرؤية فوق مستوى الاعشاب الطويلة.
اردي تُظهر ان الانسان انتصب قبل ترك الحياة في الغابات بقترة طويلة. لذلك لابد ان الانسان انتصب لاسباب اخرى. تساؤلات الباحث Owen Lovejoy تحاولات القاء الضوء على هذا الامر من خلال النظر الى المسألة بطريقة مختلفة. يشير الى ان للبحث عن الاسباب لابد من النظر في البنية الاجتماعية. يقول:" نحن مجبرين على تفسير اسباب نجاح Australopithecu في الانتشار على كل افريقيا في حين ان معاصريهم من الرئيسيات كانوا في الطريق للانقراض".
بمعنى اخر لابد انه حدث شئ اعطى اجدادنا نوع من الافضلية بفترة طويلة قبل ازدياد حجم الدماغ. من اجل الوصول الى تفسير لابد من النظر في الافضليات التي يقدمها السير المنتصب والقواطع القصيرة. عند الشمبانزي والبابيان والغوريللا تلعب القواطع دورا مركزيا في الصراع على الاناث وبالتالي على نقل الجينات. نظرية لوفية تقوم على ان بعض الذكور عوضا عن اهدار الوقت بالصراع مع الذكور الاقوياء على حق النكاح مع الاناث ، او لربما بفضل فشلهم في ذلك، وجدوا انهم قادرين على التقرب من الاناث من خلال مساعدتهم برعاية الصغار من خلال جلب الطعام لهم والاناث كافآتهم على ذلك بتواصل جنسي وهو امر يمكن رؤيته يتكرر حتى اليوم لدى قرود الماكاكا والشمبانزي مثلا.
بإنتشار هذا السلوك بين الذكور أدى بدوره الى التنافس وبالتالي البحث عن افضل انواع الطعام والاكثرهم غنى بالمواد الغذائية والبروتين مثل البيوض والدهون والحيوانات الصغيرة واليرقات. ولكون من الصعب حمل الاشياء بدون ان تكون الاطراف الامامية حرة وغير ضرورية لوظيفة اخرى اصبح السير المنتصب صفة تقدم افضليات تستحق الاصطفاء لكونها جعلت بالامكان حمل الطعام لمسافات بعيدة.
في مثل تلك الظروف ظهرت ايضا عوامل نشوء الازواج وبالتالي العائلة. وظيفة الرجل اصبحت جلب الطعام وحماية المرأة واطفالها مقابل حق النكاح بدون منافسة من ذكر يصادر حق النكاح ويحول الاناث الى قطيع من الحريم بقوة العضلات وحدها. الانثى لم تعد تحتاج الى المجازفة بحياتها في البحث عن الطعام معرضة الصغار للخطر كما اصبحت قادرة على تعويض مخزونها من الحليب الغني وتعويض ماخسرته من دهون بسرعة يسمح لجسمها ان يكون جاهزا للحمل التالي. والذكر لم يعد يحتاج للصراع على حق النكاح الذي ادى الى اقتصار النكاح على ذكر واحد من ذكور القطيع. كلا الطرفين حصل على مصلحة واضحة في نشوء النظام الاجتماعي الجديد.
هذا التحول في السلوك الجنسي لدى اجداد الانسان الحالي يمكن لها ايضا ان توضح العديد من خصائص البشر اليوم، مثلا ان انطلاق البيوضة الناضجة للتلقيح عند المرأة ليس له مظاهر خارجية تفضحه للذكر كما هو الحال لدى بقية الحيوانات اللبونة وان غدد الحليب عند المرأة ( النهود ) منتفخة على الدوام. بل على العكس نجد ان انتفاخ الاثداء بالحليب لدى اناث القرود تقول للقرد الذكر ان الانثى في مرحلة ارضاع الصغار وبالتالي ليست مؤهلة للجماع، مما يجعل انتفاخ الثدي غير مثير للشبق لدى ذكور القرود على عكس الحال لدى الانسان.
في حين ان اختفاء المظاهر الخارجية لنضوج البيوضة تجعل الذكر لايستطيع اكتشاف اللحظة الانسب للجماع من اجل ان يكون هو الاب وبالتالي يكون مضطر لتقديم الطعام على الدوام من اجل جماع دائم حتى يضمن انه اب الصغار القادمين.
لهذا الامر لابد ان الخط الانساني بدأ بالذكور التي اهتمت بالاناث التي لم يكن الذكور الاقوياء (الفا) يهتمون بهن لامتلاكهن غدد حليب منتفخة على الدوام ولايقدمن مؤشرات على انطلاق البيوضة وبالتالي غير مثيرات لاهتمام الذكر.
بالمقابل كانت الاناث تختار الذكور التي تملك قواطع اقصر لانهم اقل عدوانية واضعف من ان يضيعوا اوقاتهم في الصراعات الداخلية واكثر اضطرارا للمساعدة برعاية الصغار.
بذلك تكون القواطع القصيرة هي الاشارة التي انطلقت لتغير البنية الاجتماعية في مسيرة تطور الخط الانساني. هذا التغيير وضع الاساس لانتصاب الانسان وانتشاره وابداعه الوسائل ونشوء الثقافات واستعمار العالم. ومهما كانت الاختلافات بين الموافقين والمعارضين فإن الشئ الوحيد المؤكد ان اردي غير نظرتنا عن تاريخ تطور الانسان واعطانا حلقة مهمة صححت الكثير من معتقداتنا.