معمر القذافي: المسار والمصير 1 من 2
لا أحب الهجوم على الذين أوصلتهم أفاعيلهم الى نهايات شائنة. فعندما يقع الجَمَل وتكثر السكاكين، لا أطيق تقشير برتقالتي بسكين فواكه! في هذه اللحظات، يمتشق الجميع لغة الإدانة والشيطنة، لكي يجعل من معمر القذافي أبَ الكبائر. لقد كان ذميماً بالفعل، ومستبداً لا يطيق سماع أنفاس صدره، لكنه لم يكن الذميم الأوحد في عالمنا المسكون بالطواغيت!
فالشاب الذي عرفه الليبيون والعرب، في مستهل أيلول (سبتمبر) 1969 لم يكن إلا الغِر الأغر. الصفة الأولى تتعلق ببساطة تلامس الجهل في بعض المواضع، والصفة الثانية معناها أبيض الوجه ناصِعُه، ولهاتين الصفتين، أمثلة كثيرة، من الوقائع القذافية في تلك الأيام، ربما نأتي على ذكر بعضها في مناسبات تالية!
* * *
بدأ معمر ركوب المخاطر، قبل خمس سنوات من انقلاب 69 الذي يفترض أن يصبح ثورة. هو انقلاب استحال كابوساً يتغالظ مع مرور الأيام. ففي العام 1964 شكّل الشاب الذي سيُنهي في العام التالي، متطلبات التخرج من كليته العسكرية، وينال درجة ملازم ثانِ؛ تنظيماً سرياً من رفاقه المنتمين الى الطبقات الوسطى والفقيرة. كانت توجهات عبد الناصر وأحلام الوحدة، تمثل بوصلة الشباب الذين معه. بل هم أصلاً، التحقوا بكلية بنغازي العسكرية، باعتبارها وسيلتهم المتاحة لتجاوز حال الفقر وولوج مسالك السياسة. فعائلة معمر أو قبيلته، كانوا من رُعاة الأغنام. ومنذ اليوم الأول للالتحاق بالكلية، اعتبر الشاب، مجرد الالتحاق، معادلاً لوظيفة مُجزية، واعتبره في الوقت عينه، وظيفة تقع في قلب السياسة، وعلى عتبة الثورة.
قبلها بسنوات، كان معمر قد استمتع بلذة الهتاف مع تحريك كلتا اليدين، في احتجاجات جماهير الطلبة على العدوان الثلاثي. تلك لذة رافقته طوال حياته، وربما ترافقه الى قفص المحكمة أو الى حفرة القبر. قيل له، منذ نعومة أظفاره، إن جدك عبد السلام بومنيار، كان الشهيد الأول في المعركة الأولى مع الطليان في منطقة «الخُمس» في العام 1911. لعله أصيب منذ أن سمع تلك الرواية، بعقدة المركز الأول الذي لا يُعرف له ثانٍ. يقال إنه تأثر بتوصيف شيوخ الكتاتيب، للاحتلال الطلياني بأنه محض غزو صليبي. سكنته الصفة كمعادل موضوعي لكل غزو من الشمال. وكلما فاض به الغضب من الغرب، كانت الصليبية الكريهة، تطفو على سطح ذهنه وعلى رؤوس الجُمل!
لم تكن ثمة مدرسة ابتدائية في صحراء «سرت». ارسله أبوه الى الُكتّاب، فعلّمة الشيوخ الأبجدية مع إسماعه نشرات الأخبار. تابع الصراع في فلسطين، وتحمس للنصر العربي فيها، وأعجب بتطور الفلسطينيين وحضارتهم ونضالهم، عندما تشكلت لديه صورة عن كل هذا، من خلال ما سمعه من مجاهدين ليبيين، يذهبون الى فلسطين ويجيئون. أحبطته النكبة في العام 1948 فنما وعيه المبكر على كراهية للمستعمر، زادتها حدة، ذهنيته التي لا تدقق في التدرجات، ومزاجه الحاد، ومشاعره «الكاسحة»!
لم تكن مصادفة، أن ينتقل الفتى الذي كانه معمر، الى «مصراتة» لكي يتحصل على تعليم ثانوي خاص، من نوع غريب، يركز على مادة التاريخ دون سواها. فقد كتب له معلمه المصراتي، في ختام شوط ذاك التعليم الثانوي «شهادة» ممهورة بخاتم المعلم المبجل وتوقيعه، مفادها أن الفتى بات مؤهلاً بما يُعادل خريج الثانوية. وفي الحقيقة، جرى في ذلك الشوط، تلقين معمر وأنداده، قراءات من فصول التاريخ الاستعماري!
في الكلية العسكرية التي التحق بها عن سابق إصرار وتقصّد، ظل يحلم بإطاحة النظام الملكي الذي رآه إحدى العقبات في وجه الوحدة العربية والتطور والانتصار. بدأ تنظيمه بخلية واحدة، جعلتها هزيمة 67 تتناسل سريعاً بدوافع مشاعر الحنق والتشكي والإحساس بالعار. وكانت تنتشر بين أوساط العسكريين الليبيين، همسات حول دور قاعدة «العدم» الجوية الأميركية جنوب مدينة طبرق الساحلية (على بعد 150 كيلو متراً من الحدود المصرية) في الهجوم الجوي على المطارات العسكرية المصرية، في حرب 67 وهذه حقيقة اثبتتها الوثائق التي أفرج عنها فيما بعد!
وفي ذروة اضطرام هواجسه، أرسلته القيادة الملكية العسكرية، لتحصيل دراسي آخر، في كلية بريطانية (ليس في كلية «ساند هيرست» الشهيرة مثلما زعم منافقون مروجون لعبقريته المزعومة).
* * *
في الفاتح من أيلول (سبتمبر) 1969 كتب معمر القذافي مع مجموعة صغيرة من رفاقه الضباط؛ صفحة جديدة من تاريخ ليبيا المعاصر. كان معمر مجرد ملازم في الجيش. لكن الحلقة المجهولة، في حكاية الانقلاب، أن الذين أمسكوا بمقاليد الأمور، كانوا منذ البداية، الضباط الأصغر في السن والرتب العسكرية. والغريب أن هذه المجموعة، لم تكن قامت بالجهد الحاسم لكي تتزعم «الثورة». فمن خارج التنظيم، جاء المدد من المقدم موسى أحمد الحاسي، وزميله المقدم آدم الحواز، وهما ضابطان قوميان، حسما الموقف، باعتبارهما الأعلى رتبة ومسؤولية، واستطاعا تحريك القطعات.
هنا يُقال، في مذكرات عديدين ممن شهدوا تلك المرحلة، أو شاركوا فيها، أن الأمريكيين هم الذين مدوا الطُعم للضباط الصغار وأداروا رؤوسهم الى الانقلاب، لكي لا يُفاجئوا بانقلاب ضباط الجيش الكبار، الذين تأسست علاقة وطيدة بينهم وبين التيار القومي العربي وقادة الجيش المصري. وقيل في هذا الصدد، أن لقب التشفير الذي أطلقه الأمريكيون على مجموعة الضباط الصغار، هو Black Boots «ذوو الأحذية السوداء» نسبة الى لون الأحذية التي كانت مخصصة للضباط الصغار. وفي الواقع، كان واضحاً من خلال الصورة الأولى، التي نُشرت لمعمر القذافي بعد الانقلاب، أن مصور «نيو يورك تايمز» ركز على حذائه. غير أن تلك الفرضية التي تعززها الوثائق؛ تظل من نوع التعليل الذي يأخذ بنظرية المؤامرة، ويعتمد على أقوال المعارضين. وفي كل الأحوال، لم يكن معمّر في شبابه كما في شيخوخته، من النمط الذي يمكن إلزامه بنسق من التفكير أو السلوك، سواء على طريق العمالة أو طريق النضال. فقد ظل رهين المقولات والأحلام الأولى، دون أن يطيق ترجمتها الى نهج سياسي. ظهر في وقت خريف الزعامات الباهرة، التي يفتش المعجبون بها عن سبيل لإحياء وتكرار تجاربها. لم يكن وارداً البدء بجمعية تأسيسية ومقاربات لوضع دستور وإطلاق عملية ديموقراطية. كان النمط السائد، هو أن تكون هناك قيادة «ثورية» تتقدم «المسيرة». وبدا أن معمرّ اشتعل غراماً بنمط الزعيم الأوحد، فنام منذ اليوم الأول لنجاح الإنقلاب، على وسادة القلق والرهاب، من وجود الرجلين اللذين أنجحا حركة الجيش بما يتمتعان به من نفوذ فيه. وكان صبوراً بالقياس الى تعجله، عندما تحمّل الرجلين (موسى أحمد الحاسي وآدم الحواز) ثلاثة أشهر إلا قليلاً. كان المرحوم موسى وزير الداخلية بينما آدم وزير الدفاع. وسرعان ما شكل القذافي عصبيته القبلية، ودبر للرجلين مكيدة اتهام بمحاولة تدبير انقلاب على الثورة. زج بهما في السجن، واستنطق لهما حكماً بالإعدام، خفّضه الى السجن المؤبد، فمات الأول في السجن، وأتيح للثاني الذي بات أشبه بالشبح، بسبب طول فترة السجن والإهانة، أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في بيته، بعد أيام من إطلاقه (مثلما فعل حافظ الأسد مع رفاقه وأصحاب الفضل عليه وأصدقائه)!
لم تستطع السلطة، واجتماعها مع الثروة (كما لاحظ ابن خلدون) إفساد رجل بالسرعة التي أفسدت بها معمر القذافي وحوّلته الى عاهة استبداد، ودموية، وفساد منقطع النظير. فقد تحولت كل تعبيراته عن نفسه وحتى عن مشاعره كذباً في كذب. فالناصريون مثلاً، صدّقوا في البداية أن الرجل يمثل بعض العوض عن ناصر الزعيم المناضل الزاهد، المفتقد فجأة بعد ان وافاه الأجل وهو في سن مبكرة. فقد هرع الكثيرون منهم الى ليبيا، عند «أمين القومية» مثلما تنبأ له الراحل جمال عبد الناصر، قياساً على الانطباعات الأولى، في السنة الوحيدة التي عاشها بعد التعرف على القذافي. وسرعان ما فوجىء الناصريون، أن هذا «الأمين» الذي يلهج بذكر عبد الناصر ليل نهار، لا يحبه ولا يطيق ذكراه، ويهاجمه في جلساته الخاصة. وعندما فتش هؤلاء عن سبب، احتاروا كثيراً، لأن «ثورة» القذافي، مثلما وصفها لي ناصري مصري ظريف، كانت عبارة عن شخص يريد شل حركة رجل الشرطة، فيهجم عليه ممسكاً به من كلتا يديه صارخاً: إلحقوني. لقد جاء المصريون فوراً لمساندة الحركة الانقلابية، مدوعين بثلاثة أسباب تضاءلت معها محبة عبد الناصر الشخصية للعاهل الليبي إدريس السنوسي. وهي أن القذافي طرح نفسه جزءاً من حركة النضال القومي، وأن أرض ليبيا كانت منطلقاً لهجمات على مصر بسبب ضعف الحكم، وأن بلداً ذا عوائد بترولية يمكن أن يعزز مقومات الصمود في معركة التحرير. لقد اهتدى الناصريون الى السبب، وهو «غيرة» القذافي من القوة الأدبية لعبد الناصر ومن زهده وصدقيته وشعبيته حتى بعد موته!
بعد وفاة عبد الناصر، بدأ معمر مساره المنفرد الذي ازدحم بعجائب وغرائب، بعضها لا يخلو من نُبل، مثلما اكتنفت الريبة الفاقعة بعضه الآخر. كان المسار قاسياً على شعب ليبيا الذي حرمته القذافية من أبسط حقوقه، وهي أن تكون له دولة يُعرف أولها من آخرها، وأن تكون لهذه الدولة مؤسسات، وأن يكون فيها قانون، وأن تزدهر فيها العدالة، وأن يراقب فيها ممثلو الشعب سبل ووجوه الإنفاق، لكي ترتقي حياة الناس وتُلبى طموحات الأجيال. وأشاع الليبيون فيما بينهم قولاً أطلقه أحد حكمائهم: كنا في العهد السابق، نشتكي: يا رب يحكمنا أبليس ولا يحكمنا إدريس. ثم تأكدنا أن الله لم يستجب إلا لهذه الدعوة!
في الفاتح من أيلول (سبتمبر) كتب معمر ورفاقه في صفحة من تاريخ ليبيا، أنهم نفذوا انقلاباً دون إراقة دماء، وكانت «القدس» هي كلمة السر فيه. الآن، يمكن القول، إن الذين فتحوا صفحة أخرى جديدة، من تاريخ ليبيا، بعد اثنتين وأربعين سنة من الاستبداد والمقامرات الباذخة والقتل والترويع، وبعد «جرذنة» الشعب ونعته بكل الصفات اللاآدمية؛ اثبتوا أن الحكم الملكي الذي أطاح به الضباط في العام 1969 كان أكثر بما لا يُقاس، شرفاً وأمانة على أرواح الناس ومقدراتها، من معمر القذافي وزمرته. فالسنوسي لم يحُط نفسه بجيش يقتل الناس من أجله. ولم يضع الملك السنوسي شعبه في موقف يجعله يستنجد بالشيطان لكي يظفر بحريته. ولم يؤذ السنوسي مواطناً ليبياً واحداً لكي يبقى في الحكم. وأي بقاء هذا الذي أراده معمر لنفسه في العام 2011؟! إنه البقاء الذي يرفع عدد سنوات المكوث في السلطة الى معدلات فوق أوليمبية. لقد مكث الرجل أطول مدة لحاكم راهن، على وجه البسيطة وفي القارات الخمس. بل هو الحكم الأطول مدة، في تاريخ ليبيا منذ أواسط القرن السادس عشر، في الحقبة العثمانية للبلاد. ويستدل ذلك من صور التلفزة التي يخرج فيها الطاعنون في السن عن اطوارهم، فيطلقون الرصاص ابتهاجاً ويصرخون من فرحة الخلاص!
ارتحل الفتى معمرّ، الى مصراتة، لكي يتعلم التاريخ دون سواه. ولقنه التاريخ درساً مهذباً في أيلول (سبتمبر) 1969 عندما سمح له بأن ينتزع الحكم دون أن يدافع السنوسيون عن عرشهم بإراقة دم دجاجة. لكن القذافي، وبعد حكمه الأسود المديد، لم يصل الى لحظة الاختفاء عن الأنظار، إلا بعد أن أغرق بلاده في الدم، دون أن تكف حنجرته عن الصراخ، بكلام فارغ، عن الصليبيين والخونة، ودون أن تتوقف يداه عن التلويح بإشارات التهليل والانتصار. لقد أمعنت فيه السلطة إفساداً وإغراقاً في الغرور والغيبوبة، مثلما أمعن هو في الناس قتلاً و»جرذنة» فكان المصير حقيراً!
مدارات - معمر القذافي: المسار والمصير 2 من 2
ذهب دارسون كُثر، تناولوا تجربة معمر القذافي بالتمحيص المنهجي والموضوعي؛ الى أن إخلاء الاميركيون والبريطانيين لقواعدهم في ليبيا، في حزيران (يونيو) 1970 أي غداة حركة الجيش، كان أمراً وقع ـ من حيث البُعد الاستراتيجي ـ بتأثير خطة إخلاء المستعمرات والقواعد في شرق السويس، وتلك هي التسمية التي أطلقها البريطانيون على عملية إخلاء الخليج العربي وعدن، ومنح الاستقلال للإمارات الصغيرة، تأسيساً على ضمان المصالح دون التواجد المباشر. وبالنسبة لمسألة التواجد في ليبيا، رأى الاميركيون والبريطانيون بالتوافق، أنه بعد انتصار إسرائيل في حرب 67 ومضاعفة مساحة الأرض التي يحتلونها خمس مرات (من بينها سيناء التي سموها قبضة الفولاذ) جعل العامل الإسرائيلي ضمن أسباب التواجد العسكري المباشر على الأراضي الليبية، غير ذي أهمية. وفي هذا السياق، يتحدث باحثون عن عملية تدبير كاملة، وعن حكايات ذات تفصيلات بوليسية، تتعلق بتنظيم «الضباط الوحدويين الأحرار» الذي شكله القذافي من أقرانه الضباط الصغار. وربما تكون أكثر تلك الحكايات تشويقاً وازدحاماً بالأسماء والوقائع؛ تلك التي نشرها أحد المطلعين والمعايشين من الداخل لتجربة القذافي، وهو مفتاح فرج. فقد كتب هذا الراوي بالأسماء وبالكثير من الوقائع التي لا ترقى الشكوك الى بعضها، أن «ثورة» القذافي هي عملية استخبارية اميركية معقدة، كان عرّابها ورأسها، المحامي الليبي مصطفى المهدوي، الذي أصبح فيما بعد كاتباً ومسؤولاً عن ما يُسمى «مؤسسة الكتاب الأخضر» القذافية. وهناك الكثير من القرائن التي تحكم بالريبة القوية على علاقات المهدوي بالسي آي ايه، في الوقت الذي لا يخفى تأثيره على القذافي، على الأقل في السنوات العشر الأولى من حكمه، عندما كان ينكر السُنّة النبوية جملة وتفصيلاً. فالمهدوي هو مؤلف كتاب «البيان بالقرآن» الذي يُعد مرشداً لـ «منكري السنّة» حسب تسمية الفقهاء لهؤلاء.
أخلت اميركا وبريطانيا القواعد، باتفاق بين الضباط والاميركيين، قبل وقوع الانقلاب، حسب شهادة مفتاح فرج. بل إن التوقيت، كان متفقاً عليه، لكي يُنفذ الانقلاب بعد إقالة اللواء نوري الصديق، رئيس الأركان القوي والوطني مع ترقيته وتعيينه عضواً في مجلس الشيوخ، وأن يكون الملك إدريس خارج ليبيا، وضمان تدفق النفط ودفع تعويضات مناسبة للدولتين، وضمان سلامة بعض العناصر الموالية للبريطانيين والاميركيين، كرئيس الوزراء وقت حدوث الانقلاب، وغيره من كبار المسؤولين!
* * *
المتتبعون لوقائع وأوقات القذافي في السنوات الخمس الأولى، يرون تأثره بشخصين، أحدهما معلمه المصراتي والثاني هو المهدوي، الذي جعله ينادي بالخلافة القائمة على القرآن كدستور لا يكترث بالسُنة النبوية. ولكي لا يتمادى في مجافاة السيرة العطرة للنبي محمد، انتهز معمر مناسبة ذكرى ولادة المصطفى عليه السلام، في عام 1973 لإلقاء الخطاب ذي النقاط الخمس: تعليق كافة القوانين المعمول بها في البلاد، والإعلان عن بدء تطبيق «الشريعة»، ووجوب تطهير البلاد أو تطبيبها «من الأمراض السياسية» وأن يكون الشعب المسلح هو المليشيا العظيمة التي تحمي الثورة. وعلى ذلك الدرب، عطّل القذافي السياسة والقوانين المرعية وأحالها جميعاً الى سلة المهملات، واحتمى بالشريعة مذعوراً من أشباح ضحاياه. فليس هناك أضمن من الادعاء بالشرع لكي يقتل القاتلون ثم يفسروا لكل من شهد الحدث أو شاهده، أن الضحية لاقت حتفها ضمن حدود شرع الله!
أما المعارضون والمتبرمون في مؤسسات الدولة التي كانت قائمة، فقد أعد لهم مهرجان إبادة لكي يستريح من التذكير بالأصول وبالتقاليد الإدارية. أطلق القذافي ما يُسمى بـ «الثورة الثقافية» التي أطاحت بنحو 20% من العاملين في الجهاز الحكومي. وليتها كانت إطاحة. فقد كانت سحلاً في الشوارع أو تعليقاً على أعواد المشانق، إذ هجم «الثائرون» الذين يشبهون بعض الذين بدأوا الهجوم عليه منذ عدة اشهر أو بعض الذين هجموا مساء أمس على خيمته وداره واستولوا على بنادقه المذهبة؛ وانقضوا على العديد من مدراء المدارس والمعامل، يسحبونهم جراً من رؤوسهم و»يشحطونهم» أمام أطفالهم ونسائهم. ونقلت التلفزة على الهواء، وقائع إعدام بعضهم، وعلى صعيد آخر، انطلق القتلة الذين اختلطوا بالدبلوماسيين، لاصطياد المعارضين في جُنح الظلام، وإن لم تسعفهم براعتهم كانوا يستأجرون من فسطاط جبريل وصبري البنا وسواهما ممن ربطوا مصيرهم بمصائر المستبدين!
ولإلصاق كل تلك الكبائر بالشعب، باعتبار أن اقترافها كان نيابة عنه ولمصلحته وبقراره هو؛ انتقل معمر الى مرحلة تسمية البلاد بطريقة لا مثيل لها. فهي «جماهيرية» ذات لجان شعبية تبحث وتقرر. وفي ذلك الإطار، بدأ الزعم المديد، بأن الشعب هو المسلح، وأن لا جيش نظامياً للبلاد. وشاءت المقادير، أن تشهد اللحظة التي تسلّح فيها الشعب فعلاً، ظهور إرادة الإنقاض عليه للخلاص منه، حتى انه في خطاب الرمق الأخير، دعا الى «فتح المخازن» لتسليح الشعب، وهو الذي بشّر بفتحها قبل ثلاث وثلاثين سنة!
ومثلما يفعل الطغاة، حين يتعمدون الهروب من استحقاقات الداخل ولزوم تكريس العدالة والرفق وحفظ كرامة الناس؛ بدأ معمر يُفتش عن «بطولات» في الخارج. غير أن حلقات هذه الحكاية، تصلح مسلسلاً رمضانياً يسلي الصائمين. لقد كانت كل «بطولة» أطقع من سابقتها وأضيع منها لمقدرات الليبيين، وأشد فداحة في إلحاق البؤس والخسارة بهم، في الأرواح والمال والسمعة. فقد غامر بالتعرض الأمني والإرهابي لمصر، مع قصف مدفعي عبر الحدود، تحت غطاء بتسويق فكرة أنه يقاوم السادات ويحبط الصلح مع إسرائيل. السادات بدوره، اهتبلها فرصة، لكي يترجم عملياً ما جاء في ورقة اميركية (نُشرت وثيقتها) تنصحه بمواجهة الحصار العربي الذي تعرضت له مصر اقتصادياً، بالانقضاض على المخبول الليبي الذي شق عصا الطاعة. إنه سيأكل «العلقة» ويخسر غرب ليبيا، حيث النفط الذي يتمتع به القذافي، وستكون القبائل الليبية في الغرب، بسبب تداخلها مع قبائل مصرية وبحكم استبداد القذافي وإيذائه لها، عنصر النجاح البشري لمشروع الضم للأراضي المصرية. في تلك الواقعة المؤلمة في تموز (يوليو) 1977 أجهزت القوات المصرية على الكتائب الليبية المدرعة، في أربعة أيام وقصفت المطارات، وابتلع القذافي الخسارة، ولم يكترث بموت نحو أربعمئة جندي ليبي لم يلتحقوا بالجيش لكي يقاتلوا إخوانهم المصريين!
كان قبلها، قد توجه الى تشاد، فأغدق المال والسلاح على أطراف الصراع الأهلي فيها بين الشمال والجنوب، وقضى كثير من الليبيين في الحرب التشادية ـ الليبية. كان القذافي يطمح الى ضم الشمال، فأشبع التشاديون الليبيين قتلاً في مناسبتين: في حربهم الأهلية عندما غامر وتورط القذافي فيها، وفي حرب القذافي ضد شعبه، بإرسال المرتزقة!
أما حكاية صداقته للمعتوه عيدي أمين، حاكم أوغندا الذي تدرب في إسرائيل، وإغداقه المال والسلاح عليه، والزج بالجيش الليبي في حرب آكل لحوم البشر مع تنزانيا، بعد أن هدد عيدي امين رئيسها جوليوس نيريري بقرار اغتصابه جنسياً في اقرب فرصة؛ فإنها حكاية لا يتسع لها المُقام. لقد خاض القذافي بالليبيين البؤساء، حرب الرغبة المجنونة لدى آكل لحوم بشر، في اغتصاب رجل مسن، من رموز حركة التحرر الأفريقية!
كانت مقدرات الليبيين تذهب هباء هنا وهناك. يأخذ منها كل ذي موال. بدءاً من الراغبين في إطاحة أنظمتهم، وانتهاء بمجموعات النشطاء ضد الانتشار النووي، مروراً بمنظمات الجيوش الحُمر ومن كل لون، مروراً بزنادقة فلسطينيين، سعوا الى شق حركة فتح، وانتهاء بالصرف على دسائس في كل مكان.
لم يكن وقتها قد كبر الأبناء، لكي يقتسموا مقدرات الليبيين. ففي السنوات العشر الأخيرة، من الحقبة القذافية السوداء، صار الأبناء يتحدثون علناً عن ملكية والدهم للبشر فوق الأرض الليبية، وملكيتهم هم للثروة في باطنها. اقتسموا الأسواق والتوكيلات والمصالح التجارية، وكان لكل منهم ذراعه العسكري وإمبراطوريته وقصصه وشجاراته، بينما الأب يتمرغ في حب كاذب للجماهير «التي تزحف بالملايين» لنصرته وتلهج بمحبته، كما يراها في المخيّلة!
لقد اسقطت الجماهير نظام رجل أفسدته السلطة وأمعنت في تجربته وشخصه تشويهاً. ربما لم يبدأ فاسداً أو قاتلاً. لعله بدأ متحايلاً على الاميركيين، إن صدقت رواية التدبيبر الاستخباري للانقلاب، لكنه في مسار تجربته، تحولت أفاعيله الى ما هو أعتى وأخطر من أفاعيل المستعمرين. تراكمت الأجيال اليائسة في عهده، ثم فاض بها الإناء فأطلقت ثورتها لا تبالي لو أن الشياطين نفسها وقفت معها.
في النزع الأخير للنظام، ظهر الوريث المفترض الذي خاب سعيه وتحولت أحلامه الى كوابيس مشنقة أو كوابيس قضبان. ظهر لكي يُثبت أن الثائرين لم يعتقلوه. بدا سعيداً ضاحكاً «من الشيق الى الميق» يكاد يُقبّل كل من حوله لفرط الحبور. لم يخطر في باله، وهو يتحسس نجاة مؤقتة لشخصه، أن ليبيا لا تزال تحترق، وأن الجثث لا تزال في الشوارع، وأن نظامه نفسه قد انهار وأن فرصته ضاعت. هؤلاء أعماهم الغرور وحب الذات. نسوا أوطانهم. فمن يحرق وطنه أو يقتل شعبه، يفقد شرفه وعقله، ويفقد كل فرصة، بل يفقد حقه الإنساني في أن يُدفن في ثرى الوطن!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com