السلام عليكم ورحمة الله
هذا بحث لأخينا الدكتور يحي رضا جاد الباحث في الطب وفي الشرع البحث عن "الردة والحرية الفكرية في الإسلام".. نترككم مع البحث...
الردة والحرية الفكرية
دراسة تأصيلية تجديدية في ضوء القرآن والسنة والمقاصد
الجزء الأول
أرجو أن يكون هذا البحث في موضوع الردة والحرية الفكرية - بعد ما بذل فيه من جهدٍ لا يعلمه حقَّ علمِه إلا الله- (كلمةً سواءً) يجتمعُ عليها - أو يتحلقُ حولها أو يحترم ما وصلت إليه من رأي- المختلفون في أمر الردة والعقاب عليها. بل إني لأرجو فوق ذلك أن يكون (كلمةَ الختام الحاسمة) - وإنْ (غير النهائية)؛ لكونها صادرةً عن اجتهاد- في الجدل الدائر حول موضوع الردة؛ حسماً له - نوعاً ما- أو بالأقل تخفيفاً للاستقطاب الحاد حوله - بدرجةٍ ما. خاصةً بعد أن تراشقتْ أطرافه بتهم (الجمود) و(التسيب)، و(الرجعية) و(الكفر)، و(التخلف) و(سوء النية)، و(الإساءة للإسلام) و(الكيد له)، إلى غير ذلك من (التهم الجاهزة المُعلَّبة).. وضاقتْ بالحياد فيه الأرض بما رحبت، فالكل براء، والكل متهم.. وأعجزَ داءٌ الأمة الدواء، فحضر الشهود إلا شاهد العقل، واستحضرت الحجج إلا حجة الإنصاف؛ إيغالاً في الابتعاد عن عقلنة جدالنا، وتنظيم اختلافاتنا، وترتيب درجات سلم أولوياتنا، وتحسين نياتنا وإراداتنا، على الرغم من أن قصدنا جميعاً طاعة الله ورسوله، وغايتنا المطلوبة واحدة - وهي محاولة الوصول إلى حكم الله-، وطريقتنا المسلوكة واحدة - وهي الاعتماد على الكتاب والسنة ومقرراتهما.
قبل أن نبدأ(1)
إن الردة التي يتعين البحث في حكمها هي (الردة المحضة)؛ أي مجردُ الخروج من الإسلام، سواء كان ذلك بالتحول إلى غيره من الأديان، أو بالخروج منه إلى غير دين.. أو - بتعبيرٍ أكثرِ دقة- مجردُ الرجوع عن الإسلام صراحةً والتخلي عنه بعد الدخول فيه.
أما الخروج على الإسلام - سواءٌ باللحاق بأعدائه أو أعداء أمته، أو بالتشنيع عليه والكيد له أو لأمته، أو بمحاولةِ تحويل عوام المسلمين عن دينهم من غير طريق المبارزة الفكرية والإقناع والاقتناع العقلي وإنما عن طريق التغرير بهم أو التلبيس والتدليس عليهم؛ باستغلال جهلَهم أو حاجتهم وفاقتهم وسوء أوضاعهم (أي: بالتغرير بعوام المسلمين وإغرائهم على الخروج منه بوسائل غير مشروعة)- فليس من طبيعة الردة، ولا هو من لوازمها الحتمية.. ومن ثم، يتعين الوعيُ بالفرق بينهما والتنبهُ إليه.. مع تأكيدي على أن (الخارج على الإسلام) يستوجب إنزال العقاب به قطعاً؛ لما يمثله من خطر على (مقومات الاجتماع الديني وأصول الإسلام)، وعلى (أصول المجتمع)، وعلى (الأمن العام)؛ إذ هو (محارب) - سواء كانت الحرابة (فكريةً معنوية) أو (حربية مادية)- لا (محاور) ولا (مسالم) - على ما سيأتي توضيحه وتفصيله إن شاء الله.
وأكرر ثانيةً وبطريقة أكثر وضوحاً وحسماً وتحديداً: أن قضية البحث الأساسية - والتي يجب أن يتعرض لها كل باحثٍ في موضوع الردة والمرتدين في ضوء نصوص الإسلام ومقاصده- هي (الردة المحضة)؛ بمعنى تغيير الإنسان عقيدته، وما بُني عليها من فكر وتصور وسلوك، ولم يقرن فعله هذا بالخروج على الجماعة أو نظمها، أو إمامتها وقيادتها الشرعية، ولم يقطع الطريق، ولم يرفع السلاح في وجه الجماعة، ولم ينضم إلى أعدائها بأي صفة أو شكل، ولم يقم بخيانة الجماعة.. إنما كل ما كان منه: تغيير في موقفه العقدي، نَجَمَ عن شُبَهٍ وعواملَ شكٍّ في جملة عقيدته أو في بعض أركانها، ولم يقو على دفع ذلك عن قلبه، واستسلم لتلك الشبهات، وانقاد لتأثيرها؛ تاركاً الإسلام ومعلناً موقفه الجديد.
ولنبدأ باسم الله وعلى بركة الله..
أولا: في شأن الإكراه(2)
1- المقدمة الصحيحة التي ينبغي أن ينطلق منها أي بحث في موضوع الردة هي قوله تعالى : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [البقرة 256] (3).. إذ الآية - وكذلك أخواتها من المذكورات في الهامش - تقرر قضيةً كلية قاطعة، وحقيقية جلية ساطعة، وهي أن الدين لا يكون ـ ولا يمكن أن يكون ـ بالإكراه (4)؛ إذ قد جيء بنفي الجنس "لا إكراه" لقصد العموم نصاً، وهذا دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه.. فالدين: إيمان واعتقاد يتقبله عقل الإنسان وينشرح له قلبه، وهو التزام وعمل إرادي، والإكراه – بأي شكلٍ وتحتَ أي مسمى كان- ينقض كل هذا ويتناقض معه.
لقد ورد نفي الإكراه في الآية مطلقاً، ولم يقيَّد بمن يراد إدخاله ابتداءً في الإسلام، فوجب أن يدخل فيه المرتد أيضاً؛ لأن المعنى الذي أوجب نفي الإكراه عمن يراد إدخاله في الإسلام ابتداءً : موجودٌ فيمن يراد إبقاؤه أو إعادته بعد ارتداده.
ولقد وقعت كلمة "إكراه" نكرةً في سياق النفيِ، والنفيُ إذا دخل على النكرة أفاد العموم والشمول؛ فوجب نفي كل إكراه في الدين، ووجب أن يدخل فيه إكراه المرتد على الإسلام؛ لأنه من الإكراه في الدين قطعاً (5)، فلا يصح أن يُكرَهَ عليه بمنطوق هذه الآية أصلاً.
2- والدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين.. الإكراه لا ينتج ديناً، وإنما ينتج نفاقاً وكذباً وخداعاً، وهي كلها صفات باطلة وممقوتة في الشرع، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدنيا والآخرة.
وكما أن الإكراه لا ينشئ ديناً ولا إيماناً، فإنه كذلك لا ينشئ كفراً ولا ردةً، فالمكرَه على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد، وكذلك فالمكره على الإيمان ليس بمؤمن، والمكره على الإسلام ليس بمسلم.. ولن يكون أحد مؤمناً مسلماً إلا بالرضا الحقيقي؛ رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً.
وإذا كان الإكراه باطلاً حتى في التصرفات والمعاملات والحقوق المادية والدنيوية، حيث إنه لا ينشئ زواجاً ولا طلاقاً، ولا بيعاً، ولا بيعةً، فكيف يمكنه أن ينشئ ديناً وعقيدةً وإيماناً وإسلاماً ؟!.. إن الدين هدايةٌ اختيارية للناس، تُعرَض عليهم مؤيَّدةً بالآيات والبينات.. ورسل الله لم يُبعَثوا جبارين ولا مسيطرين، وإنما بُعثوا مبشرين ومنذرين.
3/1- إن "لا إكراه في الدين" هي (إخبار في معنى النهي)؛ فقوله تعالى "لا إكراه" (جملة خبرية) تحكي عن الواقع التكويني الذي يُثبت عدم إمكانية أن يُكره أحدُ ما أحداً آخر على الاعتقاد بدين ما؛ لأن الإيمان مسألة قناعةٍ غير قابلة للإكراه.. وفي الوقت نفسه فإنها تتضمّن (حكماً شرعياً ينهَى عن الإكراه) في مسألة الاعتقاد الديني (6).
إن "لا إكراه في الدين" هي خبر قبل أن تكون حكماً، أو إن شئت قلتَ: هي حكم معلل بالواقع؛ فالاعتقاد - لكونه اختياراً حراً- يستعصي على الإجبار، ومتى تبين الرشد من الغي، فكل امرئ وما يختار.
أرأيت شعيباً (عليه السلام) وقومه: "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ" [الأعراف: 88].. فهذا شعيب يسفه قومه؛ لأنهم يريدون إكراهه هو ومن معه على الخروج من دينه والعودة في ملتهم، ودليله على سفههم أنهم يظنون الإكراه سبيلاً للإيمان.
أرأيت نوحاً (عليه السلام) وقومه: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ" [هود: 28].. فهذا نوح يدرك حقيقة الدين وطبيعته، فيستبعد إكراه المخالف على الدخول في دينه.
3/2- ونلاحظ في الآيتين السابقتين كلتيهما أنهما ختمتا باستفهامٍ استنكاري؛ للدلالة على سخف المخاطب الذي يتجاهل الطبيعة البشرية ويتعامى عن المسلمات.
كما نلاحظ أن كلاً من النبيين الكريمين قد دلل على فساد منطق قومه بالتعجب من أن يكون الإكراه عندهم سبيلاً لحمل إنسان على ترك دين آمن به، أو فكرة اقتنع بها، بغض النظر عن صحة ذلك أو فساده؛ لأن الإكراه ليس من شأنه أن يكون وسيلة لتحقيق هذا الغرض.
4- إذن، فقضية " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" هي قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول الإسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداءً، كما لا يكون بالإكراه إبقاءً.. وكما لا يجوز الإكراه على الدين في الابتداء - لأن الإسلام الذي يحصل به فاسد قطعاً.. ولا يُنجِي صاحبه من عقاب الله في الآخرة.. وأنى للإسلام أن يستفيد من هذا الإيمان المغشوش الذي لا يُخلص به صاحبه للجماعة؛ إذ يعيش بينها، بحكم ما نزل به من إكراه وقهر، عضواً فاسداً يضر ولا ينفع، ولا يشتغل إلا بالتجسس عليها لحساب أعدائها؛ فيكون في باطن أمره وحقيقته: علينا لا معنا ؟! - فكذلك لا يجوز الإكراه على الدين في الإبقاء لذات العلة.
5- ولو كان للإكراه أن يتدخل في الدين ويُدخل الناس فيه، أو يبقيهم عليه، لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل، فهو سبحانه وحده القادر على الإكراه الحقيقي والمُجْدي، الذي يجعل الكافر مؤمناً والمشرك موحداً والكتابي مسلماً، ويجعل جميع الناس مؤمنين مسلمين، ولكنه سبحانه ـ بحكمته ـ أبى ذلك ولم يفعله: " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ " [يونس99]، " قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ " [الأنعام149]، " وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ " [الأنعام 107].
فحكمة الله التي لم تأخذ بالإكراه في الدين، حتى في صورة كونه ممكناً ومجدياً وهادياً، لا يمكن أن تقره حيث لا ينتج سوى الكذب والنفاق وكراهية الإسلام وأهله.
الإكراه سوس ينخر في العقائد؛ إذ القهر على الاقتناع بمبدأ يدفع البشر إلى النفاق؛ لذلك ترك الله أمر الإيمان للإنسان دون إكراه منه تعالى ولا إجبار؛ حتى يذهب الإنسان إلى الإيمان بـ (قلبٍ عاشقٍ)؛ لأن الله تعالى لا يريد (أعناق عبيد) وإنما يريد (قلوب عباد) (7).
6/1- ومن ثم، فآية " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" غير منسوخة وغير قابلة للنسخ، وغير مخصصة وغير قابلة للتخصيص؛ إذ الإيمان بالدين: (تصديق بالقلب) يبلغ مرتبة اليقين - بعد مروره بمرحلة (الاقتناع العقلي)-.. و(التصديق القلبي) - كما (الاقتناع العقلي)- لا سبيل مطلقاً لتحقيقهما بالإكراه، ولذلك لا يمكن أن يكون الإيمان - ابتداءً أو بقاءً- ثمرة للإكراه بأي حال من الأحوال.. ولهذه الحقيقة التي تنفي إمكانية الإيمان بالإكراه، كان التعبير القرآني "لا إكراه في الدين"؛ وهو تعبير يحمل في أحشائه (نهياً) و (نفياً)؛ (النهي) عن إكراه الإنسان على الإيمان، و(النفي) لإمكانية حصول الإيمان عن طريق الإكراه؛ سواءٌ تعلق هذا الإكراه بالآخر حتى يسلم، أو بالمسلم حتى يستمر على إسلامه.
6/2- "لا إكراه في الدين" لأنه " قد تبين الرشد (أي: طريق الحق والفلاح والنجاة) من الغي (أي: طريق الباطل والخسران والهلاك)" : تعليل رباني بديع غير قابل - على الإطلاق- للإبطال أو المعارضة بدعوى نسخ أو تخصيص أو تقييد؛ لأنه تعليل عقلي منطقي قطعي يزيد جملة "لا إكراه في الدين" إحكاماً على إحكام، وقطعية على قطعية.
الإشارات المرجعية للجزء الأول
1 - تعقيب على بحث حد الردة في الفكر الإسلامي المعاصر - قراءة نقدية في ضوء النص القرآني، د/ عوض محمد عوض، ص (207- 208). ولا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، د/ طه العلواني، ص (88، 15).
2 - الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، د/ أحمد الريسوني، (ص 109- 110). التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 3/26 (تحت تفسير آية "لا إكراه في الدين"). والحرية الدينية في الإسلام، د/ عبد المتعال الصعيدي، (ص 145، 28، 36، 143، 144- 145). وتعقيب عفى بحث حد الردة، د/ عوض محمد عوض، (ص 209- 210). ومن فيض الرحمن، محمد متولي الشعراوي، (ص 241، 247، 248). والتفسير الماركسي للإسلام، د/ محمد عمارة، (ص 22).
3 - وفي معنى تلك الآية أخوات لها كثيرات: "وَلَوْ شَـاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُـوا مُؤْمِنِينَ"[يونس: 99].. "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ"[يونس: 108].. "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ" [الرعد: 40].. "وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" [المؤمنون: 117].. "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" [الكهف: 29].. "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ" [النمل: 92].. "مَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ" [الزمر: 41].. "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ" [التكوير: 27- 28].. إلخ.
4 - الإكراه: هو أن تحمل الغيرَ على فعلٍ لا يرى خيراً في أن يفعله.
5 - بَيِّن قطعاً أن العقاب الدنيوي على عدم الإيمان - ابتداءً أو استمراراً- إكراهٌ عليه.
6 - نفي الإكراه في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحداً على اتباع الإسلام قسراً، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصّاً، وهي دليل على إبطال الإكراه بسائر أنواعه؛ لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال والتمكين من النظر والاختيار.
7 - واعلم، إن رأيت إكراهاً على مبدأ أو إرهاباً على رأي، أن صاحب هذا المبدأ غير مقتنع به، وأن المبدأ ذاته مؤسَّسٌ على غير حجة، و إلا ففيم الإكراه والقهر نشراً له وحفاظاً عليه - أي حفاظاً على استمرار الناس على الإيمان به؟!
الجزء الثاني
ثانياً: أطر قرآنية
1- عن القلوب والصدور ينبثق الإيمان، لا عن النطع والسياف؛ إذ القلوب هي أداة تلقيه واستقباله، وهي مستقره ومستودعه: تدبر إن شئتَ قول الله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" [النحل 106].. "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" [محمد 24].. "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.. لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم" [المائدة 41].. "ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء" [الأنعام 25، 125].
- من اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها: تأمل إن شئتَ قول الحق جل في علاه: "قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ" [الأنعام 104].. "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل" [يونس 108].. "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها" [الإسراء 15].. "وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين" [النمل 91- 92].
3- من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً؛ إذ كل نفس بما كسبت رهينة: تفكر إن شئتَ في قول ربنا العزيز القدوس: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [الكهف 29].. "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً" [المزمل 19 والإنسان 29].. "نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر كل نفس بما كسبت رهينة" [المدثر 36- 38].. "كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره" [المدثر 54- 55، عبس 11- 12].. "ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً" [النبأ 39].. "إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم" [التكوير 27- 28].
3- الاختلاف قضاء الله الذي لا يُرد: تفكر إن شئتَ في قول الله تبارك وتعالى: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون" [النحل 93].. "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنَّ الله يفعل ما يريد" [البقرة 253].. "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون" [المائدة 48، 105].. "وما كان الناس إلا أمة واحدةً فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" [يونس 19].. "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" [هود 118- 119].. "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" [الشورى 8].
4- إنما يحكم الله بين المختلفين يوم القيامة؛ إذ الدنيا ليست دار فصل ولا عقاب: انظر إن شئتَ في قول الله تعالى: "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" [البقرة 113].. "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون" [المائدة 48، 105].. "قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم" [الأنعام 57- 58].. "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون" [النحل 93].. "لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر.. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" [الحج 67- 69].. "قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون" [الزمر 46].. "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور" [لقمان 23].. "إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [السجدة 25].. "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب.. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم.. الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" [الشورى 10، 14- 15].. "إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم" [الغاشية 23- 26].
5- الرسول (ص) مبلغ وبشير ونذير، لا مسيطر ولا جبار ولا مُكرِه: تذكر إن شئتَ قول الله جل في علاه: "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" [البقرة 272].. "ما على الرسول إلا البلاغ" [المائدة 99].. "وإن كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين.. وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين.. إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين.. وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل" [الأنعام 35، 48، 57، 66].. "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.. ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل" [يونس 41، 99، 108].. "إنما أنت نذير" [هود 12].. "إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل.. فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين" [النحل 37، 82].. "وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً" [الإسراء 105].. "وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً" [الفرقان 56- 57].. "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين" [الكهف 56].. "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين" [النمل 92].. "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" [القصص 56].. "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ" [الشورى 48].. "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" [ق 45].. "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" [الغاشية 21- 22].. "ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل" [الأنعام 107].
6- الإعراض عن الجاهلين - ويدخل تحت مصطلح "الجاهلين": المنافقون.. وغير المسلمين المعاندون.. ومن على شاكلتهم ممن يمكن أن يقاس عليهم كالمرتدين- هو الموقف الأمثل تجاههم - لا عقابهم وإكراههم-: تدبر إن شئتَ قول الحق جل وعلا: "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا.. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" [الأعراف 198- 199].. "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" [النجم 29].. "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم" [النساء 63].. "اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين" [الأنعام 106].. "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" [الحجر 94].. "قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم" [السجدة 29- 30].
7- "فإذا كان الإيمانُ هدايةً.. وإذا كانت القلوبُ هي مستقبلاته ومستودعاته.. وإذا كان الاختلافُ قضاءً.. وإذا كان من يؤمن فإنما يؤمن لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها".. وإذا كان من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. وإذا كان من شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً؛ إذ كل نفس بما كسبت رهينة.. "وإذا كان الرسول (ص) ليس إلا مبلغاً ومبشراً ونذيراً.. وإذا كان الإعراض عن الجاهلين هو الموقف الأمثل تجاههم" .(8). فإن هذا يقتضي بداهةً: إبعادَ كل صور الإكراه والقسر، ويقضي حتماً بأنه: لا إكراه في الدين ابتداءً ولا إبقاءً، بإطلاق لا يحتمل التقييد، وتعميم لا يحتمل التخصيص.. "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" [البقرة 256].. " ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس 99].. "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" [الغاشية 21- 22].
ثالثاً (9): في ملابسات تنزيل الحكم المنصوص عليه
إن فكرة الردة على عهد النبي (ص) وعهد صدر الإسلام - أي فكرة الردة في (الواقع العملي يومئذ)- كانت مقترنةً - اقتراناً ميكانيكياً- بعداوة الإسلام وحربه؛ فمن آمن بالإسلام كان يعمل لنصرته، ومن ارتد عنه كان يعمل على حربه ويلحق بالمشركين:
أ- عن ابن عباس (رض) قال: "أسري بالنبي (ص) إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم. فقال ناس: نحن نصدق محمداً بما يقول؟! فارتدوا كفاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل (أي أنهم قاتلوا في بدر في صفوف المشركين ضد النبي والمسلمين؛ فقُتل منهم من قُتل).." (10).
ب- وعن ابن عباس (رض) أنه قال: "كان رجل من الأنصار، أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك (أي: لحق بأرض المشركين وانضم إليهم)، ثم تندم، فأرسل إلى قومه (أي أنه قد ترك أرض المسلمين؛ أرضَ قومه - الذين هم: الأنصار؛ كما جاء في أول الحديث- ولحق بأرضٍ وقومٍ آخرين.. فهو قد "أرسل إلى قومه".. وهذا يعني أنه قد تركهم بالكلية، فلما احتاج إليهم أرسل إليهم) -: سلوا رسول الله (ص): هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي (ص) فقالوا: إن فلاناً قد ندم، وإنه أمرنا أن نسألك: هل له من توبة؟ فنزلت (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 86: 89]. فأرسل إليه فأسلم" (11).
ج- وعن أنس (رض) أنه قال: "كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ [كان نصرانياً فأسلم]، وقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص). [فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له] فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْل الْكِتَابِ، فَرَفَعُوه (أي: رفعوا من قدره وأعلوا من شأنه؛ لارتداده عن الإسلام وعودته للنصرانية) وَقَالُوا هَذَا كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ، وَأُعْجِبُوا بِهِ. فأماته الله، فدفنوه. فَأَصْبَحَ وقد لفظته الْأَرْض (أي: طرحته ورمته). [فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه؛ نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه]. ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ [فأعمقوا في الأرض ما استطاعوا]، فأصْبَحَ وقد لفظته الأرض. ثم عَادُوا فَحَفَرُوا له فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَ وقد لفظته الأرض، [فعلموا أنه ليس من الناس (أي: ليس من فعل محمد وأصحابه)]، فتَرَكُوه منبوذاً" (12).
إذن، الردة وقتئذ كانت هي (التعبير) عن (التحول الشامل) لدى المرتد عن الولاء للأمة الإسلامية، والقبول بنظامها، واحترام شرائعها، والانتماء إليها ثقافياً وحضارياً، والخضوع لقوانينها ونظمها؛ فتأتي ردته بمثابة (الإعلان) عن (القطيعة التامة) مع كل ما يقوم عليه كيان الأمة.. ففكرة الارتداد كنوعٍ من ممارسة حرية العقيدة لك تكن واردةً وقتئذ.. إن المرتد على عهد النبي (ص) - أي في الواقع العملي- لم يكن يلزم بيته أو يحرص على سلامة مجتمعه، بل كان ينضم إلى أعداء الإسلام - أو ينتهز الفرصة لينضم إليهم- يقاتل معهم؛ فكان أمر النبي (ص) بقتل المرتد: على قتاله مع الأعداء - إذ الردة مقترنة بالحرب والقتال يومئذ- لا على ردته عن الإسلام (13). فالعقوبة هي على (الخيانة العظمى) لا على (مجرد الارتداد).. ومن ثم، وجب علينا أن نُقصِر إنزال العقوبة - بعد إحاطتنا بملابسات فرضها (14) على المرتد المحارب أو الخائن للبلاد والعباد على التفصيل السابق والآتي.
رابعا: في دلالة الإصرار على عقوبة الردة
إن الإسلام يذم النفاق أشد الذم، ويحذر من المنافقين أشد التحذير، فكيف يصح لنا أن نصنع بأيدينا، وأن نقيم بين أظهرنا فئة من المنافقين؛ خرج الإسلام من قلوبهم، وأخرس السيف - أو العقاب- ألسنتهم، فيغم علينا أمرهم بعد ذلك، فنحسبهم معنا، وهم - في حقيقتهم- يدٌ علينا، يضمرون للإسلام الشر، ويتربصون به الدوائر؟!! هذا بالضبط هو ما يؤدي إليه تقرير العقاب على المرتد لمجرد ردته.. وحكمة الله في التشريع تتنزه عن ذلك العبث قطعاً (15).
الإشارات المرجعية للجزء الثاني
8 - قارن بـ : الإسلام وحرية الفكر، جمال البنا، (ص 42- 43). وتفنيد دعوى حد الردة، جمال البنا، (ص 43). ونحن وإن كنا قد استفدنا ونستفيد من بعض ما كتبه ويكتبه جمال البنا - إذ نحن نتلقف الحكمة من أي وعاء خرجت- إلا أننا لا نوافقه على كثير من آرائه وتوجهاته.. كما نلحظ، وبشدة، افتقاده للمنهج العلمي في البحث، وللمنهجية العلمية في الاجتهاد. وقد وقفنا أثناء قراءتنا وبحثنا وتحليلنا لما كتب - فيما وقعت يدنا عليه من كتبه- على كثير مما يشهد على صحة قولنا هذا، لكننا قررنا الاكتفاء بالتنبيه؛ حتى لا نطيل بذكر ذلك، خاصةً وأن المقام لا يسمح به ولا يتطلبه.
9 - حرية الفكر في الإسلام، د/ عبد المتعال الصعيدي، (ص 79). والحرية الدينية، د/ الصعيدي، (ص 154). ولا إكراه في الدين، العلواني، (ص 10، 102، 175- 176). والإسلام وحرية الفكر، جمال البنا، (ص 53، 49، 48، 50- 51).
10 - حديث صحيح. رواه أحمد - في آخر مسند أهل البيت من مسنده- وأبو يعلى (2720) بسند صحيح.
11 - حديث صحيح. رواه النسائي (4068) بسند صحيح.
12 - حديث صحيح. رواه البخاري (3617) ومسلم (2781) وأحمد (12846). والسياق للأخيرين، وما بين المعقوفتين فهو للبخاري.
13 - ولذات السبب، لم يقم النبي (ص) بقتل المنافقين رغم كونهم قد ارتدوا بعد إيمانهم.. إنهم لم يقاتلوا المسلمين، بل كانوا أحياناً يقاتلون بجانبهم، أو يخلدون إلى الأرض أحياناً أُخَرْ.. ولم يكن عدم قتلهم للجهل بكفرهم ونفاقهم؛ إذ النبي (ص) كان يعلم نفاق كثير منهم بناءً على ما ثبت واستعلن من مواقفهم وأقوالهم وأفعالهم - لا بناءً على الظن والتخمين- كما سبق البيان.
14 - لقد كان رسول الله (ص) يعالج - نحن نكرر- وقتئذ جريمةً مركبةً؛ اختلط فيها السياسي بالقانوني بالاجتماعي؛ حيث كان رجوع المرء عن الإسلام - وقتئذ- نتيجةً طبيعيةً لتغير موقفه من الأمة والجماعة والمجتمع والنظم والدولة؛ أي تغير الانتماء والولاء تغيراً تاماً.
15 - تعقيب على بحث حد الردة، عوض، (ص 213).