موضوع للنقاش ..
كانت النظرة السائدة للعلم والأدب قديما بأنه مجال معقد لا يدخله إلا المتخصصين, فدائما الناس الأقل تعليما (العوام) يشجعون فكرة التعقيد لأن حياتهم أبسط, وهذا يفتح الباب على فكرة الطلاسم السحرية والشعوذة والمعمَّيات اللفظية وسجع الكهان وحساب الجمَّل والنحو والإعراب والرياضيات, فكأنهم يقولون إن كنت تقول ما لا نعلم فأنت تعلم, وهذا السبب وراء تعقيد العلوم كأنه تزيين للبضاعة, وصار العلم مغلقا لا يدخله إلا الأفذاذ.
في عصر النهضة والتنوير ابتدأ هذا الحاجز يُكسر وصار الوضوح هو الميزة وليس الغموض, إلا أن هذا الوضع بدأ يعود الآن حتى في العالم الغربي بسبب تشقق التخصصات والإغراق فيها حتى صار كل صاحب تخصص له خطاب لا يمكن فهمه وتكونت لغات خاصة للمتخصصين, فقد ذهب عصر الموسوعية, والفلسفة بنت الموسوعية, فلا تجد فيلسوفا حقيقيا إلا ويكون موسوعيا والآن بدأ يذهب زمن الفلسفة إي بدأت الموسوعية بالأفول والعلوم بالقفول, وزالت الثقافة كما زالت الفلسفة والموسوعية,
فالتخصص في الأحياء الدقيقة أو الحاسبات أو الفلك أو النقد الأدبي أو الإبداع الفني والشعري كلها عبارة عن معَـمَّـيات لا يمكن للشخص العادي فهمها, وبالتالي رجعت الثقة بالمختصين كما كانت سابقا عند السحرة والمشعوذين, وهذا سنة من سنن الحضارات, فالعودة للانغلاق علامة على بداية الإفلاس والشيخوخة, مثلما كان الوضع في الحضارة الإسلامية العربية في العصر العباسي الأول والثاني, ففي العصر العباسي الأول انفتح العلم للجميع حتى أن أبناء حمالين وخبازين وحجامين صاروا علماء ويناظرون في الفلسفة والأديان مع أنهم أناس عاديون وفقراء , فتجد الخلفاء كهارون الرشيد والمأمون وكذلك تجد ابن الزيات وابن الطحان والباقلاني والكسائي كلهم يناظرون في العلم والأدب, أقصد أن ذلك العصر كانت القيمة فيه للوضوح, اي أن باب المعرفة مفتوح لأنه واثق من نفسه, فصار في تلك الفترة نهضة علمية واسعة في التأليف وكانت المساجد عبارة عن دور للعلم والمناظرات وتعددية قي الأفكار. في العصر العباسي الثاني نجد انغلاق العلم والأدب مرة أخرى فتحولا إلى مجاميع فكثرت الكتب المسماة بــ"الجامع" وهذه المجاميع احتاجت إلى اختصارات كالألفيات والمتون,
هذه الاختصارات تشددت في الاختصار حتى صارت معميات فأصبح لا يدخل على النص إلا شراح مختصون, الشعر والأدب أيضا تحول إلى الإغراق في المحسنات البديعية والسجع والتفنن في أنواع البديع والغرابة والتعجيز بما يسمى بشعر المعميات والمهملات, مثل شعر يقرأ من اليمين لليسار والعكس, وشعر بدون نقط وألغاز وما إلى ذلك, فرجع الأدب كما العلم للانغلاق وصار يُسأل الشخص هل أنت متخصص ليجوز لك الكلام في هذا المجال أم لا, وليس بمقدور الجميع أن يكون شاعر أو على الأقل أن يفهم الشعر, واستمر الحال بالتعقيد أكثر, حتى أن النصوص في تلك الفترة تجد صعوبة في فكها فالكتابة تعقدت وتكتب بنصوص غامضة وغريبة وسجع متكلف وهذا كله على حساب المعنى, وكانت تلك العصور تسمى أدبيا بعصور الضعف والانحلال, واستمر هذا الحال حوالي ستة أو سبعة قرون إلى ما يسمى عصر النهضة العربي بعد الاتصال بغلارب في أواخر القرن الثامن عشر, حيث بدأ انفتاح للعلم والأدب وبدأت الكتب تكون للجميع والصحف تكتب بلغة يفهمها الجميع.
وانغلاق المعرفة في كل مجال وحصرها بمختصين ورفض النقاش فيها أدى إلى اندساس كثير من الدجالين والمدعين إلى هذه المجالات ليستغلوها, ومن علامات انغلاق المعرفة غياب التجديد, وأيضا من أهم علامات أي شيخوخة حضارة أو انغلاق هو أن تكثر كلمة لست متخصصا حتى يجوز لك التفكير في هذا المجال, بمعنى ان التخصص كلما أوغل أدى إلى قمع فكري, وهذا أمر مشاهد فكلما زاد تخصص شخص معين في مجال وكثرت شهاداته العلمية كلما قل النقاش الموجه إليه, بينما يزداد هذا النقاش كلما نزلنا في سلم الشهادات العلمية والمكانة الاجتماعية, وأي شيء يناقش أكثر هو أقرب للصواب وتلافي الأخطاء أكثر.
الفرق بين وجود نهضة وعدم وجودها هو أن الإنسان العادي يستطيع أن يأخذ العلم بنفسه لكن مع عدم وجود نهضة لابد أن يأخذه من أشخاص معينين ويكون العلم كأنه ملك لأشخاص, ففي وجود النهضة تكون المعرفة مفتوحة بينما في غياب النهضة تُغلَق المعرفة. فإذا صار العلم مفتوح للجميع فهذه علامة وجود النهضة, لكن كل ما زادت الثقة بالمختصين وصارت المعرفة تؤخذ بالثقة وبدون تأكد كامل تكون شمس النعضة قد بدأت بالأفول, فهذه علامة غياب النهضة وهي قد بدأ تطل براسه من جديد في سماء الحضارة الغربية, فالعلم يؤخذ عن طريق الثقة بالمختصين فبالتالي رجع عصر الثقة, ثقة بعالم الأحياء أو الأركيولوجيا أو الآثار أو التاريخ أو النفس وغير ذلك , فكونه عالم بهذا العلم الدقيق إذا هو موضع ثقة, وهذا يمتد إلى السياسة والصحافة والفن وتناولها بالثقة, والمبالغة في تعظيم الرموز من علالمات شيخوخة الحضارة وليس فتوتها,
والناس يظنون أن تعظيم العلماء دلالة على نهضة علمية, لكن الحقيقة أن هذا علامة سقوط لأنه كلما تزيد في تعظيم أحد فهذا سيكون على حساب ثقتك بنفسك. أصبح من يتجرا في إعادة النظر في شيء أو التفكير من زاوية أخرى معرضا للهجوم الذي يريد تسكيته بحجة أنه عير مختص, ولم يتقيد بكلام المختصين, ولسان حالهم يقول: غير المختص يجب أن يخرس!
فالنهضة الغربية لتي أطلقت حرية التفكير عادت لتقيد تلك الحرية مرة أخرى وتحذر من أن يفكر أحد خارج رؤية وتصورات علماء الطبيعة رغم اختلافهم, وهذا المنحى كان سببه بالدرجة الأولى الماديون المتطرفون بدافع أيديولجي, وبدات موجة تكميم الأفواه يابسم العلم تنطلق إلى العالم وتحتقر في طريقها العقل والفلسفة ولا تعترف بثبوت العلم ولا قوانين المنطق إلا مايخدم أيديولوجيها, ولا تفرق بين العلم الثابت و النظريات التي لم تثبت, لهذا فإ التفكير الحر يسبب مشكلات أكثر من أن يقدم منافع لتلك الأديويوجيات, فاليدولوجيات المادية بأنواعها ستكون هي سبب انحسار حرية التفكير والتشكك التي تؤثر بلا شك على قوة ونشاط اي نهضة( على أهلها جنت براقش).
وكل حضارة تبدأ بحرية تفكير ووضوح و شمولية وموسوعية ثم تنتهي بامغلاق وغموض وتخصص, وبهذه الحالة تكون الحضارة تتنفس من فتحات ضيقة, وهذا مؤشر لسقوط الحضارات كما صار للحضارة العباسية. وليست المشكلة في وجود التخصص بل في الإلزام عليه مما يعني قمع التفكير الحر الذي قامت عليه أي نهضة. انتشار السحر في الحضارة الفرعونية كان علامة على قرب انتهاء تلك الحضارة.
يقال أن عدم إمكانية وجود الموسوعي في هذا لزمان هو بسبب كثرة العلوم المكتشفة, لكن إذا بدأت المعرفة والعلوم تؤخذ بالثقة فسنن التاريخ تقول أن الحضارة شارفت على الانتهاء.
أوروبا في القرن ال19 كنت تعيش فترة نشوة ونشاط حضاري وثقافي, أما الآن فالعلم صار مقتصرا على الجامعات والمعاهد العلمية, فصار العامي يتجه إلى الترفيه بدلا من الثقافة والفلسفة بسبب هذا التعقيد والانغلاق وعودة العلم إلى القماقم مرة أخرى, فنظرة العوام الآن هي نفس النظرة القديمة.
حتى الأجهزة المصمتة دليل على هذا الكلام, والإنسان يحس بالضعف بسبب قلة المعرفة فالإنسان أصلا ضعيف واستمد قوته من العقل لكن مع تغييب العلم رجع إلى الضعف, فنحن الآن لسنا في عصر ثقافة ولا قوة باعتبار الإنسان لا باعتبار المادة, والفرد الضعيف سيكون فرصة للمستغلين, والإنسان لا يرتاح وهو ليس لديه فكرة عن كل شيء ؛ لأن المعرفة هي القوة, فالإنسان يركب الطائرة مثلا وهو لا يعرف عنها شيئا ويشغل أجهزة لا يعرف عنها شيئا إلا ما يكفي لتشغيلها, وتقوم حروب وتخمد وهو لا يعرف شيئا.
عند الاختلاف بين المختصين بشيء واحد يبدأ الناس يفقدون الثقة بالعلم, فنحن الآن في مرحلة عدم الوضوح والإصمات وليس الوضوح, هذا يسبب للمجتمع إحساس بالضعف والتالي خمول وهذا ما بدأ يشعر به الغرب الآن بغياب الحافز والإحباط,, فعصر الإحباط وانغلاق العلم من علاماته إرجاع العلم للمختصين.وأن يبدأ حجر العقول ومنعها عن التدخل في مجالات المختصين, وهذا صورة من صور القمع الفكري, وتلاحظ أن أي أحد يفتح لك العلم بكل مجالاته أنك تحبه لأنه لم يحتقرك ولم يقل لك كما يقول الكثيرون: من أنت حتى تتكلم بمواضيع كهذه؟
|