إحدى قصائد محمد الماغوط المفضلة لدي:
مقهى في بيروت
لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء
لا شيء يربطني بهذه المروج
سوى النسيم الذي تنشّقته "صدفة" في ما مضى
ولكن من يلمس زهرة فيها
يلمس قلبي
من بلس الى جاندارك
ومن جاندارك الى بلس
رفعت يدي مئات المرات
محيياً مئات الأشخاص
باليد التي تأكل
والتي تكتب
والتي تجوع.
* * *
من التاسعة حتى العاشرة
رأيت نوافير الطيور والدم
والفراشات الممزّقة منذ أجيال تحت الحوافر
شربت قهوة وماء وتبغاً ودموعاً
حتى أصبحت كالحبلى
وما ارتويت.
وعرضت نعلي في وجه
الصيف والخريف
في وجه البحر والصحراء
والأمطار اليابسة كالحجر
وما ارتويت.
* * *
سمعتُ موسيقى حزينة
وهززتُ رأسي كالجواد
واشتهيت أن أصهل صهيلاً طويلا يمزق عنقي
أن يكون عنقي من البلّور الصافي
لأرى أنهار الشوق والجوع والذكريات
كيف تجري؟
أن أخلع نواجذي
وأضعها على طاولتي كالقفاز
وأنام... حتى ينتهي العالم.
* * *
اشتهيتُ أن يدخل أبي
من ذلك الباب المذهّب
وعقاله يتأرجح على ظهره كحبال المسارح
ومخاط بقرته الحبيبة
يسيل هنا وهناك
كما يسيل الدم من شقوق المقابر.
اشتهيت ان أرى قرنيها اللامعين
يثقبان الضجر والحرية
الريح والمطر والهتافات
وتلك الأثداء المفلطحة كأزرار المعاطف.
* * *
اشتهيتُ أن تدخل أختي الصغيرة
ذات العيون الفستقية
والجدائل المربوطة بالقنّب
لأبتلع يديها الصغيرتين كالنعناع.
اشتهيتُ أن أسمع ضحكة عاليةً علو النجوم
تخلخلُ ملايين الجدران
وتطحنها أمام عينيّ كالرمل.
* * *
من التاسعة حتى العاشرة
حيث أمعاء الساعات تبرز من المعاصم
اضطجعتُ وحيداً على الصخور
ذهبت الى دورة المياه
شاداً ربطة عنقي الى أسفل
تاركاً إياها
تتأرجح كيد ميتة على صدري
وتخيلت آلاف الأشجار المحترقة
تهوي على الأرض
آلاف الخنازير والأفواه والسلاسل
تطوق غرفتي كالضماد.
* * *
اتكأتُ بجوار المداخن
والأوراق المضغوطة بالحبر
لأسرّح شعري جيداً
لأشدّ حزامي جيداً
كي تبرز كآبتي كلها
كي تبرز أعضائي المتوترة كلها
كما تبرز الفتاة نهديها في النزهات.
ورجعتُ الى الزاوية نفسها
مستحماً حتى قمة رأسي باللهب والانكسار
"أيتها المرأة، أيتها الحصاة!"
أيتها النافذة
"كوني اماً أو شقيقة أو حبيبة لي".
* * *
من الواحدة حتى الواحدة
حيث لحمي يرفع جناحيه كالعصفور
شربت ماء مثلجاً بالقش
ومسحتُ العرق بالجدار
وتذكرت الطبيعة الشاسعة
والبيادر المنفصلة عن بعضها كالكنائس.
تذكرت الضفادع وأغصان الغار
كنت أستلقي على مرفقي فيما مضى
اشرب بفمي وحواجبي وجلدي
اشرب ماء ازرق بلون العضلات
بلون البنفسج
بلون الدماء الملكية.
* * *
من جاندارك الى بلس
ومن بلس الى جاندارك
سرت آلاف الكيلومترات المرصوفة فوق بعضها
رأيت أطنانا من النساء والخادمات
تأملت النقود البرية
والحلوى الهادرة تحت الجسور
تأملت أصابع النادل الرفيعة
وهي تمسح دموعي عن الطاولة كالحساء.
* * *
قهوة قهوة أيتها الجدران
مزيداً من الأرصفة والغبار أيها الله
شفتاي في قاع الزجاجة...
* * *
أريد أن أكون سمكة في مستنقع بعيد
سمكة في غيمة عالية تتحرك.