أنقل هنا التقديم الذي كتبه مترجم القصائد هنري فريد صعب ونشره في مجلة شعر العدد ٣٣-٣٤ عام ١٩٦٧. التقديم يعبر عن رأي كاتبه.
عرف ريكاردو نفتالي ريس منذ السابعة عشرة باسمه المستعار: بابلو نيرودا. ولد ونشأ في تشيلي. في كلمة له قال: «ولدت في ١٩٠٤. وقبل ١٩١٤ بدأت أكتب الشعر، وفي أعماق نفسي ينزف شتاء الجنوب الطويل. كنت أحتاج إلى رقصة المطر فوق السطوح، إلى أجنحة إعصار مقبل من الشاطئ يضرب القرى والجبال، إلى إشراقة صباح يلف الإنسان وحيواناته وأحلامه ومسكنه، بعد استسلامه وإياها إلى ليلة غريبة هائلة. كما كنت أحتاج إلى قطرات الماء التي كانت تتسرب من سقف بيتنا وتصبح، وحدها، بيانو طفولتي.»
قرأ الكثير من الأدب الإسباني والفرنسي، وخصوصًا الآثار الرمزية والسريالية. كما قرأ طرائف الأدب الروسي التي هدته إليها الشاعرة التشيلية «غابرييلا مسيترال.»
في ١٩٢١ دخل جامعة «سانتياغو» لدراسة التربية والتعليم باللغة الفرنسية. لكنه غادرها بعد ثلاث سنوات وأخد يتردد على «معهد فيديركوهانس الليلي»، مع إسهامه في تحرير مجلة الضياء (Claridad).
في ١٩٢٣، حين ظهرت له أول مجموعة شعرية: «الغسق»، برز اسمه كشاعر ذي نبرة رفيعة جديدة.
وفي ١٩٢٧ عين قنصلا في رنغون (١٩٢٧ - ١٩٢٨)، فبدأ سنوات الرحيل والاغتراب. فزار عواصم عديدة في الشرق وأوروبا، وشهد الحرب الأهلية في إسبانيا. ولعل مجموعته الشعرية «إسبانيا في القلب» فاتحة أدب المقاومة في الغرب.
وفي ١٩٤٥ انتخب عضوا في مجلس الشيوخ، لكنه اضطر بعد ثلاث سنوات للاختفاء من وجه رجال الشرطة، لأسباب سياسية*. وفي هذا العام، نال جائزة الآداب الوطنية في بلاده، ثم جائزة السلام العالمية بعد ذلك بخمس سنوات.
وفي عام ١٩٥٤ أقيمت له في سانتياغو حفلات تكريمية لمدة شهر كامل، اشترك فيها الأدباء والشعراء من أغلب بلدان العالم.
وهو اليوم يعيش** في سفر مستمر وعمل خصب. وحين يوجد في وطنه، يحلو له أن يقضي الجزء الأكبر من السنة في إيلا نغرا (Isla Negra) أو «سانتياغو» أو فالباراييسو (Valparaiso).
أبرز ما يميز أدب أميركا اللاتينية شعور التعلق بالتربة، والخوض في القضايا الوطنية. على أن هذا الأدب، بالرغم من تأثره بالتعاليم الاشتراكية أو الماركسية أحيانًا لم يخرج في تطوره من دائرة المدارس الإسبانية الإبداعية المتطرفة، أو المدارس العالمية من مستقبلية أو رمزية أو سريالية. ويعتبر نرودا من أعلام هذا الأدب. إلا أنه، قبل كل شيء، شاعر كوني. غنّى أميركا كلها فقال فيه لوركا: «هنالك شعر بابلو نرودا الساطع في سماء أميركا كما لم يسطع سواه. وهو مليء بالحب والعطف والإخلاص».
مر شعر نرودا في أربعة أطوار: الأول طور «الغسق». فيه تبدو لهجته اصطلاحية في ثوب تقليدي. فنبرته على طرافتها كانت موقعة على أوتار الكورس الأدبي الذي شب عليه، حتى قال هو عن نفسه، في هذا الطور: «هناك أصوات غريبة تتداخل في صوتي.»
الطور الثاني امتداد للأول من نواح عدة. نكهة الشعر هنا قياسية وتأملية، والصور لا تأخذها فورة، وإنما تتلاحم في بناء منطقي، وفقًا للذوق الأدبي السائد. ثم ظهرت مجموعته الشعرية «تجربة الإنسان اللامتناهي» فكانت محاولة انفصال عن الماضي. وفي ذلك يقول نرودا في محاضرة له عام ١٩٦١: «في تلك الأيام - أي بين ١٩٢٤ و١٩٢٦ - عزمت بدافع من تأثري بأبولليتير، ومالارميه، على الاستغناء عن الفواصل والنقط والقواعد التركيبية...»
وفي حديث آخر له قال: «قد تكون - أي قصائد تجربة الإنسان اللامتناهي - العمل المقروء والمدروس، أقل من سائر أعمالي. غير أنها في الواقع من أهم عطاءاتي الشعرية.»
والواقع أن أهم عطاءاته الشعرية ظهرت في الطور الثالث. فنحن في هذا الطور أمام نرودا الحقيقي، نرودا «الشاعر العجب»، النعت الذي اتفق عليه معظم النقاد ومؤرخو الأدب، كما أننا أمام شعر يجعلنا نحس كأنما نحن في دوار الزوبعة. صوره كبركان مالي في أرض الجنوب، تفر أمامنا في حركان غامضة لا تستقر على حال. وعبثًا يبحث الناقد عن تحليل لها. إنها كقوس قزح، تفرض ذاتها. فالشاعر يغوص في بحر أحاسيسه، ليعوم قليلًا فيتنفس معنا.
في هذا الطور، كما يتضح أكثر ما يكون في مجموعته «الإقامة في الأرض»، يواجه نرودا وجوده، لكن بانفعال مغلق. لا تموضع يعانيه، لا خارج يحدده. نبرته تقفز من الحزن إلى القلق في أقنعة مسعورة - القلق الذي ينبع من رؤيا حزينة للعالم والحياة: الموت، الألم، التفسخ اللانهائي, (راجع قصيدته «فن الشعر» و«فالس»، فيما يلي.) وهو لا يسعى إلى تحليل هذا الواقع. لأنه يجده في انحلال جاهز أمامه. ولهذا تكثر في قصائده صرخات الخيبة والضجر والقرف.
أراد نرودا كسريالي أن يصطاد الحياة العميقة، أن يظهر ميوعتها الاختيارية، أن يخضع للضوء أنفاق اللاوعي المتشابكة. العالم حولنا ممزق، شنيع، مغموس بالحداد، وما على الشاعر سوى الفرار منه. لكن إلى أين؟ إلى الذات الواسعة، حيث تستشف مرايا محطمة وجلجلة انهيار. من هنا جاءت كلمات نرودا أشبه بالرؤى أو الأشباح التي تجوس في الليالي السود - كلمات تخيف القارئ، كما أخاف العالم الشاعر، وتجعله يتنشق الأنقاض ويتذوق جمال الفاجعة. فغرابة نرودا هي في الانزلاق الداخلي، في الاختناق واللاتشكل.
على أن نرودا وجد طمأنينته في الحب والعقيدة. أما الحب فغناء في أكثر أشعاره، حتى عد شاعر الحب. فهو يدين للحب بأغرب نغماته. الحب المكسو بالحنين والرغبة في تخطي الحدود الجسدية. فالمرأة عنده صورة للعالم الذي أولع بمعرفته، صورة لأرضه التي يعشق.
أما العقيدة (انتمى نرودا إلى الحزب الشيوعي في تشيلي في ٨ تموز ١٩٤٥) فدخل الطور الرابع. في هذا الطور استيقظ في ضمير نرودا الحس السياسي، فأكسب صوته بحة، إلا في بعض قصائده كذرى «ماكتشو بيكتشو». الزخم الغنائي البعيد المدى يتضاءل في هذا الطور ليفسح المجال أمام بلادة الخطابة والواقعية. فالغنائية المنطلقة هي نبرة نرودا الأقوى لا الملحمية أو العقائدية.
لذلك نجده يسقط، أحيانا، في نثرية ثقيلة. إلا أنه ظل، كشاعر عقيدة، أنجح الشعراء في هذا المضمار.
------------------
* لسبب ما يغفل المترجم أن نرودا انتخب ممثلا عن الحزب الشيوعي وأن ملاحقته كانت بسبب خلاف مع سياسات الرئيس التشيلي آنذاك غابرييل فيديلا غونزالس خاصة بعد سحق إضراب عمال المناجم في لوتا بقيادة شيوعية. قام نرودا بإلقاء خطاب في البرلمان انتقد سياسة الحكومة وقرأ أسماء عمال المناجم الذي سجنوا، عرف هذا الخطاب بعنون أنا أتهم .... بعد هذا بعدة أسابيع إثر تهديدات بالاعتقال قام بالاختفاء.
** توفي نرودا في ٢٣ سبتمبر ١٩٧٣. بعد نشر هذه الدراسة.
سأنشر هنا مختارات من قصائده نشرت في مجلة شعر ترجمة هنري فريد صعب. قد أنشر لاحقا قصائد أخرى لو وجدتها.
الأغنية اليائسة
تطلُّ ذكراكِ في الليل الذي يلبسني.
والنهر يجرُّ أنينه العنيد حتى البحر.
مهجورٌ أنا كالأرصفة عند الفجر.
آه، ها هي ساعة الرحيل، أيها المهجور.
فوق قلبي تمطر تويجات أزهار باردة.
يا حوضًا من الأنقاض، يا مغارة الغرقى الضارية.
فيكِ تجتمعُ الحروبُ والطيران،
ومنكِ تنطلقُ الأجنحة وعصافيرُ النشيد.
تلتهمينَ كل شيء، كالبعاد،
كالبحر، كالزمان، وكلّ شيءٍ
غريقٌ في ذاتك!
الساعة المرحة، ساعة الغزوِ والقبلة،
ساعة الدهشة التي كانت تشتعل كمنارة،
وقلق الملَّاح، وهَوَسُ الغطَّاس الأعمى،
ونشوة الحبّ العكرة، كلها غريقة في ذاتك!
في طفولة الضباب، تهيمُ نفسي المجنحة الجريح.
أنا الكشاف الضائع، وكلُّ شيء غريقٌ في ذاتك!
تزنرت بالألم، تشبثت بالشهوة
فهدَّمكِ الحزن، وكلُّ شيء غريقٌ في ذاتك!
ها أنا أحدّ أسوار الظلمة
وأسيرُ أبعدَ من الشهوة والفعل.
أيها الجسد، يا جسدي، أيتها التي أحببتها وأضعت،
لكِ أنت في هذه الساعة الندية أغني.
كإناءٍ أويتِ إلى المحبة التي لا تحدّ،
وحطمكِ النسيان الذي لا يحد كإناء.
وكانت الوحدة السوداء، وحدةُ الجزُر،
حيثُ احتفت بي ذراعاك، يا امرأة الحب.
وكان الظمأ والجوع، وكنتِ أنتِ الثمرة.
وكانت المبارزة والخرائب، وكنتِ أنت الأعجوبه.
آه يا امرأة! أنا لا أعرف كيف طوَيتني
في تربةِ ذاتكِ وصليب ذراعيك.
وكانت شهوتي لا أقصر ولا أشقَّ وأرهب،
وكانت لا أضيَعَ ولا أمرّ وأشرّهَ.
يا جبّانة القبل، ما زالت النار في قبورك
وما زالت العناقيد المشعّة تنقرها العصافير.
آه، أيها الثغر الشاحب، أيتها الأعضاء التي اجتاحتها القبل،
أيتها الأسنان الجائعة، أيتها الأجساد المحبوكة.
آه أيّها الرباط المجنون بين الجهد والأمل
حيثُ نُحشَر ويسوقنا اليأس.
والمحبة، خفيفةٌ كالماء والطّحين.
والكلمة تكاد تولدُ بين الشفاه.
هوذا مصيري، الذي أبحرَ فيه مُشتهاي
وتساقطَ فيه مُشتهاي، وغرق كل شيءٍ في ذاتك!
آه، يا حوضًا من الأنقاض، كل شيءٍ تساقط في ذاتك!
فأي ألمٍ لم يعصر جسدك، وأي ألمٍ لم تستنزفيه.
من قبرٍ إلى قبرِ كنت تنادين وتغنّين
واقفةٌ كالنوتيّ في مقدّمة السفينة
كنتِ مزهرةٌ بالأناشيد، ممزَّقة بالينابيع.
آه، يا حوضَا من الأنقاض، يا بئرًا مفتوحة مُرَّه
الغطّاس الشّاحب الأعمى، وراشقُ الحجارة المشؤوم،
والكشّاف الضائع، كل شيءٍ غريقٌ في ذاتك!
ها هي ساعة الرحيل، السّاعة القاسية الباردة
التي يَغتصبها الليل كلّ حين.
زنّار البحر الصاخب يلفّ الشاطئ.
نجومٌ باردة تُولَد، طيورٌ سوداء تهاجر.
وأنا مهجورٌ كالأرصفة عند الفّجر،
لا شيءَ غير الظلمة المرتجفة تحوّم في يدي.
بعيدًا عن كل شيء. أوَّاه، بعيدًا عن كلّ شيء.
ها هي ساعة الرحيل، أيها المهجور!
[عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة]
(يتبع)