تقرير خاص - (الإيكونوميست) 10/12/2011
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
تطيح الثورة بطاغية مكروه، وتميط اللثام عن خليط مبتهج من الآمال. ووسط تنافر النغمات، يتضخم قرع طبل باهت، وإنما بثبات. وعلى الفور، يسير البلد برمته في ركاب هذا الإيقاع. أما أولئك الذين يشذون، فتراهم وقد تمت تنحيتهم جانباً أو ديسو تحت الأقدام، وتمت التضحية بهم لصالح نصرة فكرة يمجدها العديدون باعتبارها فكرة نبيلة، لكن أحداً لا يستطيع تعريفها.
حدث ذلك في إيران عندما قاد آية الله روح الله الخميني انتفاضة عارمة ضد الشاه، والتي تحولت إلى زقاق إسلامي متجهم مغلق النهاية. فهل ينتظر مصر المصير نفسه، حيث تبدو الانتخابات متجهة نحو فرز أغلبية صلدة من الإسلاميين في البرلمان؟ وهل يمكن لمثال مصر، الأكثر سكاناً وإشعاعاً ثقافياً بين البلدان العربية، أن ينتشر في عموم المنطقة المرشحة لتغيير ثوري؟
جاء التقدم المبكر والجسور لإسلاميي مصر في عملية انتخابية سوف تشهد عدة جولات أخرى، بمثابة الصدمة للعديدين؛ بمن فيهم نخبة البلد العلمانية الضخمة. وفي الأثناء، كان قد تم الافتراض على نطاق واسع أن حركة الإخوان المسلمين ستستحوذ على أكثرية، وليس أغلبية واضحة من الأصوات، على نحو مماثل كثيراً لما حققته بنات عمومتها: حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب.
وكانت حركة الإخوان المسلمين قد تأسست في العام 1928 وطوردت من جانب كل الحكومات، رغم طرحها -وخصوصا مؤخراً- نسخة معتدلة نسبياً عن الإسلام، ويعرف عنها أنها تتمتع بالذكاء السياسي المقرون بالمرونة والانضباط. أما عشرات الأحزاب الأخرى التي تخوض غمار المنافسة في الانتخابات في مصر، فتفتقر إلى الخبرة، وذات قاعدة ضيقة أو أنها موسومة بالارتباط مع النظام المخلوع.
في الجولة الأولى من الاقتراع على مقاعد مجلس الشعب في البرلمان، والتي تغطي ثلث محافظات مصر السبع والعشرين، كسب حزب الإخوان المسلمين بشكل مدهش
46 % من المقاعد، أو 37 % من مجموع أصوات قوائم الأحزاب. والأكثر مدعاة للدهشة، كان أداء حزب "نور" المنافس الذي يمثل التيار السلفي التطهري في الإسلام. ويسعى السلفيون في مصر، المتأثرون جزئياً بالمذهب الوهابي السعودي المتشدد، إلى تنقية الدين من الإضافات الحديثة الغريبة، وإلى فرض تأويلات حرفية للعقيدة.
ومع أن عمره لا يتعدى بضعة أشهر، ورغم شكوك تدور حول استطاعته توحيد طائفة من الفصائل السلفية المتشاحنة غالباً، فقد استطاع حزب "نور" الاستحواذ على 24 % من أصوات القوائم الحزبية، وعلى 21 % من المقاعد. وجاء أكبر حزب علماني تالياً باستحواذه على 10 % من المقاعد. وفي بعض المناطق، استطاع السلفيون الجدد إلحاق الهزيمة بالآلة السياسية الملساء للإخوان المسلمين بفوارق واسعة. أضف إلى ذلك الأحزاب الصغيرة المنبثقة عن الإخوان المسلمين، ليبدو الإسلاميون وقد أمنوا ثلثي مقاعد الجولة الأولى. وسيجري الكثير من التصويت في المناطق الريفية التي تعد معاقل إسلامية. وعليه، فإن من غير المرجح أن يتضاءل هذا المجموع قبل اختتام جولتي الانتخابات التاليتين في منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل.
فلماذا أدهش مدى انتصار الإسلاميين إلى هذا الحد المفكرين العلمانيين بشكل رئيسي في مصر؟ في الغالب، يعكس ذلك نجاح الحكومات المصرية، بداية قبل وقت طويل من ارتقاء حسني مبارك إلى السلطة، في إنكار حقيقة أن معظم أفراد المجتمع المصري هم دائماً محافظون بعمق، ومتدينون بشكل متقد. وقد استطاع الانبعاث الإسلامي الذي تم على مدار جيل في شتى أنحاء العالم طمس ما حققته النزعة العلمانية في القرن العشرين.
والواقع أن معظم المصريين يظلون فقراء مسحوقين وبائسي التعليم ومُبعدين عن الطبقة الحاكمة التي ينظر إليها على أنها أكثر انسجاماً مع الطقوس الغربية منها مع العرف المحلي. وفي مسح للمواقف أجراه معهد "بيو"، وهو مؤسسة أبحاث أميركية، في سبعة بلدان ذات أغلبية إسلامية في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2010، أثبت المصريون أنهم الأكثر ترجيحاً لأن يفضلوا "المتشددين" على "المعتدلين" كرواد للإسلام. وحبذ أكثر من نصف المصريين الفصل بين الجنسين في أماكن العمل،
مقارنة مع 13 % فقط عند نظرائهم الأتراك. وواكبت الباكستان فقط مصر في تحمسها لإنزال القصاص الإسلامي التقليدي؛ مثل الرجم بحق الزناة وبتر يد السارق والإعدام لمن يرتد عن الدين
، رغم أن المحاكم المصرية كانت قد تخلت عن هذه العقوبات لمدة قرن.
ومن جهته، شرح الروائي الإسكندراني، يوسف زيدان، في عمود نشر مؤخراً، أنه استطاع فهم سبب جاذبية السلفيين عندما سلك منعطفاً خاطئاً وضاع في "غيتو" شبيه بالمتاهة، والذي لم تكن لديه أيّ فكرة عن وجوده. وكان هذا مجرد واحد فقط من مئات من مثل هذه الأماكن في طول البلاد وعرضها، بالإضافة إلى الآلاف غير المعروفة المحشوة في الشوارع المظلمة من دون أي توجيه أو حكم: "لم يكن لدى الناس هناك أي مصدر باستثناء الإسلاميين. وليس ثمة أحد آخر لفرض أي نوع من النظام. وقد خلق نظام مبارك هذه الوقائع من خلال إهمال المصريين الذين كانت خطيئتهم الوحيدة هي أن الله خلقهم في عصر مبارك".
أما القرويون في محافظة الفيوم الريفية، إلى الجنوب الغربي من القاهرة، الذين كانوا ولعقود يُساقون للتصويت لحزب السيد مبارك في انتخابات مزورة، فلم يكونوا يحصلون في المقابل سوى على النزر اليسير غير الشرطة الوحشية والمسؤولين المرتشين والطرقات الوعرة. لكن الإخوان المسلمين، وللعديد من الأعوام، قاموا بتقديم مساعدات مالية صغيرة للأرامل، وقدموا جواميس السواقي مقابل شروط تسديد ميسرة للفلاحين الذين لا يتوافرون على أراضٍ. وراهناً، يدلي السلفيون، الذين تثير خطبهم النيرانية حماس رواد المساجد وتدفع نحو تبني نموذج النقاب الكامل، بدلوهم، فتراهم يوزعون الطعام مخفض السعر للأعياد الدينية، ويوفرون فصولاً دراسية لتلاوة القرآن. وربما يكون الأكثر أهمية أنهم كسبوا منبراً في العديد من محطات تلفزة الأقمار الاصطناعية والممولة خليجياً، والتي تبث أعمالاً دينية على مدار الساعة.
وفي الأثناء، جلبت الانتخابات الأخيرة يافطات ملونة وأبواقا زاعقة في أقاصي التلال في الفيوم، لكن أحداً تقريباً لم يضع إعلانات لصالح الأحزاب العلمانية. وقد اجتذبت المسيرات المباركة بالوعاظ السلفيين أصحاب الوجوه الصالحة التلفزيونية عشرات الآلاف، بينما أصغت القلة الفضولية بأدب إلى اليساريين الشباب الذين كانوا ينافحون عن الثورة. وثمة القليل من الاستغراب في أن المنطقة أعطت 14 مقعداً من أصل مقاعدها الـ16 للإسلاميين. وذهبت 4 مقاعد للسلفيين الذين تعززت أعدادهم فيما ينطوي على مفارقة من جانب المقترعين الذين كانوا يعدون ذات يوم منتمين إلى حزب السيد مبارك المنحل الآن، والذين ما يزالون لا يثقون، غريزياً، بالإخوان المسلمين.
ما الذي يريدون عمله؟
محاطاً بالمهنئين والمتمنين الخير له في منزله في الشارع الضيق المتسخ في قريته "نزلة"، يصر وجيه الشيمي على أن حزبه "النور" كان ليؤدي أداءً أفضل لو أن الإخوان المسلمين لم يغشوا. هذا البرلماني الجديد عن الفيوم، الكفيف منذ الولادة وذو اللحية الكثيفة، يحمل شهادة الدكتوراة في الفقه الإسلامي، ويعظ في المساجد المحلية، ويتمتع بسمعة أنه يسوي النزاعات وفقاً للشريعة الإسلامية.
ويقول السيد الشيمي: "إننا ندين بنجاحنا لثقة الناس ولمحبتهم لنا، لأننا نعمل من أجل الصالح العام، لا من أجل تحقيق مكاسب شخصية". وبالنسبة لبرنامج الحزب، يقول إن جماعته ستحسن المدارس وتوفر الوظائف وتصلح الحكومات المحلية (البلديات).
ويتم إجراء الانتخابات المصرية على كل مستوى بغية استبدال المسؤولين الذين كانوا قد عينوا في الحقبة المركزية لمبارك. أما بالنسبة للعالم الأوسع، فيبدي السيد الشيمي غموضاً باستثناء القول إن مصر يجب أن تحافظ على السلام مع أي جار لها يمتنع عن مهاجمتها. وتردد حركة الإخوان المسلمين أصداء هذه النزعة محدودية التفكير: حيث لا يذكر بيان الحزب الذي يقع في 80 صفحة لا إسرائيل ولا فلسطين. وتشترك المجموعتان في المزيد من النقاط المشتركة. ويقول الإخوان إنهم يشاركون السلفيين هدفهم النهائي: وتحديداً استعادة الدور البارز للإسلام في كل واقع من وقائع الحياة، والذي يعتقدون بأنه احتله ذات مرة، حتى أن بعض الإخوان البارزين يصفون أنفسهم بأنهم سلفيون من الناحية الأيديولوجية. ويرى العديد من المصريين العلمانيين أيضاً، وخصوصا المسيحيين الأقباط الذين يشكلون أقلية تتم محاربتها على نحو متزايد ولا تتعدى نسبة 10 % من السكان، يرون فارقاً ضئيلاً بين الإسلاميين المتنافسين.
لكن، وفي داخل الطيف الواسع للإسلام السياسي، فإن الفوارق بين الاثنين تقول الكثير؛ إذ يميل الإخوان المسلمون لأن يكونوا حرفيين متحركين في الاتجاه إلى أعلى، بينما يستقي السلفيون قوتهم من الفقراء. ويتحدث الإخوان عن خطط براغماتية، ويرتدون بذلات وربطات عنق، فيما يفضل السلفيون الجلاليب التقليدية ويسندون لغتهم بالقرآن. ويرى الإخوان أنفسهم كجزء من اتجاه إسلامي واسع ومتنوع، في حين يأنف السلفيون بشدة من المسلمين الشيعة. ورداً على سؤال عما عسى حزبه أن يستعيره من تركيا، قال الناطق بلسان حزب "نور" إن حزبه لا ينوي أخذ أي شيء من تركيا خلا نموذجها الاقتصادي.
ويقول حزب "نور" إنه يرفض الثيروقراطية على الغرار الإيراني، لكنه يرفض، بالمقدار نفسه الديمقراطية "العارية" على الغرار الغربي. وفي الحقيقة، وفيما يراه بعض السلفيين تخلياً جسوراً عن إدانات سابقة لأي شيء قد يميع الشرائع الإلهية، فإنه يريد التوصل إلى ديمقراطية "مقيدة" محصورة في الحدود الإسلامية. ويقول ياسر برهامي؛ الواعظ السلفي المرموق، إن مهمته هي "مواصلة الدعوة إلى الإسلام وعدم فرضه على الناس". ومع ذلك، فهو يعتقد بأن الحزب يستطيع إقناع المصريين بقبول أمور مثل منع الكحوليات وتبني الخمار والفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، لأننا "نريد لهم أن يذهبوا إلى الجنة".
وفي الأثناء، يقول قادة من الإخوان المسلمين، في المقابل، إنه يجب عليهم أن يحترموا خيار الناس، ويضم حزبهم القليل من المسيحيين. وكان قد عمل بجد في السابق من أجل بناء ائتلاف مع العلمانيين أيضاً، رغم أن معظم شركائه انسحبوا سريعاً. وفيما يدعو قادة حزب "نور" صراحة إلى ائتلاف مع الإخوان لانتهاج أجندة إسلامية محددة، فإن المجموعة الأقدم ذات الخبرة الطويلة في الملاحقة تبدي توجساً، وتقول إن ترميم وإصلاح اقتصاد مصر المعتل يجب أن يحتل الأولوية على ترويج العادات الإسلامية. وإلى ذلك، تفضل حركة الإخوان المسلمين تشكيل ائتلاف وسطي لا يخيف القوى الأجنبية أو يحيد جيش مصر الذي يظل المحكّم في الملاذ الأخير.
وفي كل الحالات، فإن تنصيب حكومة بقيادة الإخوان المسلمين ليس أمراً يلوح في الأفق راهناً. ويبدو جنرالات مصر الذين صحوا من سكرتهم بسبب التقدم الذي أحرزه الإسلاميون، كما حدث لكل شخص آخر، عاقدي العزم على إيجاد طرق لإرجاء تشكيلها. وتراهم يصرون على الاحتفاظ بحق تنصيب أي مجلس وزاري ويسعون إلى تمييع أي دور للبرلمان الجديد في صياغة الدستور. ومن جهتهم، يبدي ليبراليو مصر العنيدون تشككا معمقاً بالعسكريين، لكنهم قد ينقلبون نحو قبول جرعة أكبر من الدكتاتورية العسكرية لدرء المد الإسلامي بعيداً، على الأقل لبرهة. ومن الممكن تماماً أن يتبنوا الإخوان كأفضل ضامن لإعادة الجنود إلى ثكناتهم. ومهما كانت المحصلة، فإن مصر تتطلع للانضمام إلى اتجاه إقليمي أوسع ما يزال يرى شكلاً أكثر براغماتية وتسامحاً من ارتقاء النزعة الإسلامية التي تسيطر على المشهد السياسي من خلال صندوق الاقتراع، لا من خلال البندقية. ومع قدوم الأحزاب الإسلامية إلى الواجهة، من العراق وحتى المغرب، من الجدير تذكر كلمات صفوت عبد الغني، زعيم المجموعة السلفية المصرية الذي كان قد وعظ ذات مرة لصالح الإرهاب تحت مسمى الجهاد، في يوم مقتل أسامة بن لادن: "إن القاعدة لا تدمر القاعدة بسبب الحرب على الإرهاب، وإنما بسبب الثورات الشعبية التي جعلت منها شيئاً غير ضروري".
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: Everywhere on the rise. Political Islam