متى تتحرر أمة محمد من خرافاتها المقدسة؟
بقلم جمال البنا ١١/ ١/ ٢٠١٢
لدى أمتنا العربية الإسلامية عدد من الخرافات التى تحل محل القداسة، مثل (اللحية - النقاب - العمرة)... إلخ.
ولكن أغربها جميعاً عذاب القبر، وقد أخذ من الأهمية ما جعله جزءاً من عقيدة المسلم، فرغم أن عقيدة المسلم - كما ذكرها الرسول - هى (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر واليوم الآخر) نجد أن دهور التحلل وعهود الجهالة أضافت إلى ذلك عذاب القبر، وهذه الضلالة تحدت ذكاء و«ثورية» ابن تيمية فجاء فى العقيدة الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبى، صلى الله عليه وسلم، مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذابه ونعيمه، فأما الفتنة فإن الناس يسألون فى قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ فيثبت «اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ»، فيقول المؤمن: «الله ربى، والإسلام دينى، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيى»، وأما المرتاب فيقول «هاه هاه، لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته»، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شىء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، ثم بعد هذه الفتنة إما الكفر وإما نعيم، حتى تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد.
وعلامات الوضع تسرى فى أوصال هذه الجملة التى يُراد بها التأثير أعظم التأثير وإثارة الخوف والذعر فى نفوس الناس.
وأخذ ابن تيمية بهذا الحديث لأنه كان يأخذ بالقاعدة التى وضعها الإمام أحمد ابن حنبل فى تفضيل الحديث الضعيف على القياس، وسمح هذا المبدأ الخطير بالأخذ بحمل بعير من الأحاديث التى هى عماد السلف، وتدفقت أحاديث ضعيفة وموضوعة على السلفيين، ومن ضمنها أحاديث فتنة القبر، فنجد فى البخارى الحديث رقم (١٢٣٩): حدثنا عبدان أخبرنى أبى عن شعبة سمعت الأشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة - رضى الله عنها - أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة - رضى الله عنها - الرسول عن عذاب القبر، فقال (نعم عذاب القبر حق)، قالت عائشة - رضى الله عنها: فما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
وهذا الحديث هو من أسوأ صور الأحاديث الملفقة لأنه بجانب وضعه يوحى أن الرسول لم يكن يعرف عذابات القبر حتى أنبأته به هذه اليهودية، وأن عائشة قالت: فما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
عن أبى هريرة قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعو «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المسيح الدجال» (رواه البخارى ومسلم)، فنلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطف فى دعائه عذاب النار على عذاب القبر والعطف يقتضى المغايرة، بمعنى أن عذاب القبر غير عذاب النار فى الآخرة.
عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا «اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ونعوذ بك من عذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (رواه مسلم)، وقد ورد بأكثر من تسع روايات.. إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب لا وجود له؟ وإن قالوا المقصود بعذاب القبر عذاب النار فى الآخرة، قلنا لهم إن هذا غير صحيح لأنه، صلى الله عليه وسلم، كان يعطف أحدهما على الآخر والعطف يقتضى المغايرة.
قال الإمام القسطلانى فى «إرشاد السارى شرح صحيح البخارى» (ج ٢ ص٤٦٠) ما نصه: وقد كثرت الأحاديث فى عذاب القبر، حتى قال غير واحد إنها متواترة وإن لم يصح مثلها لم يصح شىء من أمر الدين.
وقال صاحب شرح العقيدة الطحاوية: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان أهلا لذلك وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به.
ويكفينا دليلاً كتاب «إثبات عذاب القبر» للبيهقى، الذى ذكر فيه مائتين وأربعين حديثا منها ثلاثة وسبعون حديثا رواها البخارى ومسلم، وقد بلغ عدد الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث تسعة وثلاثين صحابياً، وما ذكره البيهقى فى كتابه ليس جميع الأحاديث وإنما معظمها، حيث يوجد فى صحيح البخارى ما يقارب مائة حديث فى نعيم القبر وعذابه وفى حياة البرزخ، وأن الميت يسمع وينعم فى قبره أو يعذب ويضيق عليه قبره أو يتسع، وفى صحيح مسلم ما يقارب هذا العدد أو يزيد، فهل بعد ورود ما يزيد على مائتى حديث فى صحيحى البخارى ومسلم بخصوص هذا الموضوع، بالإضافة إلى ما ورد فى كتب الأحاديث المعتمدة، نقول إن أحاديث عذاب القبر أحاديث آحاد؟
وقد قال الحافظ بن الصلاح وابن حجر وابن كثير: إذا اتفق البخارى ومسلم على حديث فإنه يفيد درجة علمية يقينية قطعية كالحديث المتواتر، لأن الأمة تلقت هذين الكتابين بالقبول الحسن، ولا تجتمع الأمة على ضلالة.
وهذه الأقاويل يجب ألا تهولنا، لأن الذين يريدون الكيد للإسلام أو الذين يريدون حمل الناس على التسليم بكل ما يقولونه، يوجب عليهم ذلك تكرار ما يكتبون، وماذا يضيرهم وباب الكذب مفتوح على مصراعيه لا ينقص إلا كتابة أسماء الصحابة. إن الذين يريدون تدمير الإسلام وإرهاف الحاسة الدينية لا يرون فيه أساس نجاتهم، وقد رأينا فى الفقرة السابقة أنهم يرون فى التكرار دليل الصحة.
ولما كنت أعلم أن السُّنة كانت الباب المفتوح أمام الذين أرادوا الكيد للمسلمين، وأنه لا عبرة بمعظم هذه الأحاديث، وإنما العبرة تكون لو تضمن القرآن شيئاً، فهذا أفضل ما يُعتد به، وقيل إن آخر الآية ٤٦ فى سورة غافر تضمنت ذلك، فرجعت إلى شيخ المفسرين الطبرى، فقرأته ولم أجد فيه فتنة القبر يُسأل فيها الرجل عن ربه وعن دينه وعن نبيه، فإذا أخطأ يُضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شىء إلا الإنسان، كما أن الموضوع عن آل فرعون، بمعنى أنها ليست عامة وإنما مخصوصة بقوم فرعون، وفيما يلى ما قاله الطبرى:
القول فى تأويل قوله تعالى «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»، يقول تعالى ذكره مبيناً عن سوء العذاب الذى حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون، ذلك الذى حاق بهم من سوء عذاب الله النار يعرضون عليها أنهم لما هلكوا وأغرقهم الله جعلت أرواحهم فى أجواف طير سود فهى تعرض على النار كل يوم مرتين غدواً وعشياً إلى أن تقوم الساعة، وذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا عبدالرحمن قال ثنا سفيان عن أبى قيس عن الهذيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون فى أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، وذلك عرضها. حدثنا محمد قال ثنا أحمد قال ثنا أسباط عن السدى قال: بلغنى أن أرواح قوم فرعون فى أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشياً حتى تقوم الساعة.
حدثنا عبدالكريم بن أبى عمير قال ثنا حماد بن محمد الفزارى البلخى قال: سمعت الأوزاعى وسأله رجل فقال رحمك الله رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضاً فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشى رجع مثلها سوداً قال: وفطنتم إلى ذلك قالوا نعم قال إن تلك لطيور فى حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء فتنبت عليها من الليل رياش بيض وتتناثر السود ثم تغدو يعرضون على النار غدواً وعشياً ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبها فى الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»، قالوا: وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل.
الحقيقة أيها السادة ليست قضية وجود حديث أو إشارة من قرآن أو حتى رواية كاملة تؤكدها الأدلة، لأن مجرد هذه الأقاويل يجب أن ترفض فوراً بحكم النقل كما ترفض بحكم العقل، كما أن نسبتها إلى الله رمز الرحمة يسىء إليه بما يوجب رفضها، فهل يعقل أن يكون جزاء لعثمة أو جهل مسلم الضرب بمرزبة من حديد، ولأن مثل هذه الأقاصيص إذا رُبِّى عليها جيل فإنه سيكون جيلاً رعديداً جباناً لا يتوفر له فقه أو شجاعة، بل كان يجب إلقاء القبض على كل الذين يروون هذه القصص، والتمثيل بهم وتوقيع عقاب العبث بالأديان واحتقارها والمساس بالذات الإلهية حتى تستأصل هذه القالة وتعيش وتزدهر تلك الخرافة وتصبح مقدسة.
لقد كان إحلال عقلية نقلية محل العقلية الناقدة المفكرة المتدبرة فى أصل التآمر على الإسلام، لأن إحلال العقلية الغيبية المسلمة يجعلهم يؤمنون بكل الأكاذيب والترهات ويفسد فيهم ملكة التفكير والنقد، وعندئذ تقاد الأمة كما يقاد قطعان الماشية لا يملكون رداً ولا خلاصاً.
إن تحرير العقل من الإيمان بالغيبيات أمر أراده الإسلام عندما قال إن الله استأثر بالغيب، وعندما قال النبى، صلى الله عليه وسلم: «لا أعلم من الغيب شيئاً»، فما هذا التطفل والادعاء بمعرفة كل شىء بعد الموت. المفروض أن نركز عقولنا للتفكير فيما تفرضه تحديات العصر، وإلا لماذا أطلق علينا ما يقوله الغربيون «إن المسلمين لا يفكرون فى شىء إلا مستقبلهم بعد الموت».
gamal_albanna@yahoo.com
gamal_albanna@islamiccall.org
www.islamiccall.org
www.gamalalbanna.com