الحلقة (2-3)
آخر تحديث:الثلاثاء ,14/02/2012
هيكل: نعيش لحظة كسر القيد
كانت الأجواء باردة أكثر مما هو معهود . . وكان الشارع ساخناً أكثر مما كان منتظراً عندما جئت إلى مكتب “الأستاذ” في الجيزة لجلسة حوار جديدة تمنيتها مطولة .
غيوم تبدو عبر نوافذ المكتب، كتلك التي تغلف المشهد السياسي في هذه الأيام، لكن الطقس الغائم لا بد أن يتغير بحلول ربيع ومن بعده صيف، بينما المشهد الغائم لا يتغير لمجرد تغير الفصول .
حاولت التغلب على خواطري عندما شاهدت “الأستاذ”، وعانقته بمودة وسعادة حقيقية تغمرني كلما التقيت به . جلسنا نتحدث قبل أن أضغط على زر المسجل، نستكمل حوارات هاتفية - لعلي لم أزعجه بكثرتها - عن مجريات أحداث متلاحقة أمام وزارة الداخلية وفي استاد بورسعيد وفي قاعات البرلمان وفي سجون فتحت أبوابها بسرعة لاستقبال نزلاء، طال بقاؤهم معاً - بغرابة - في محبس واحد .
ورغم انزعاجه الشديد لمذبحة بورسعيد، ورغم ضيقه من أشياء حدثت وما كان لها أن تحدث، ورغم استغرابه من عدم الانتباه لأشياء كان ينبغي توقعها، والتحسب لوقوعها، بدا “الأستاذ” كعادته “متفائلاً تاريخياً” .
روى لي “الأستاذ” قطوفاً من تجاربه الثرية، صحافياً يطير إلى حيث تهدر المدافع وتئز الطائرات، وتشتبك القوات في مسارح قتال تعيد رسم حدود، وتحدد مصائر أوطان . أبحر بي “الأستاذ” إلى أيام عاشها في قلب الحرب الأهلية اليونانية، وفي الحرب الكورية، وفي حرب فيتنام .
وتوقف كثيراً عند تجربة فرنسا بعد التحرر من الاحتلال النازي، وقال إنها تقريباً تشابه الموقف الذي تعيشه مصر الآن . ويعود “الأستاذ” من إبحاره بالذاكرة، إلى واقع ما يجري في مصر، منبهاً إلى أن قراءة التاريخ تعلمنا درس المستقبل .
على مدى 5 ساعات كاملة جرى الجزء الثاني من حوارنا، لم يقطعه سوى لحظات دخول أوراق تنقل ل”الأستاذ” آخر الأخبار في مصر والعالم، ودقائق مكالمات هاتفية تلقاها “الأستاذ” من ساسة ومسؤولين، كان منهم محمد سالم باسندوه رئيس وزراء اليمن . لو أن أحداً توقف أمام فوران الميدان لأدرك على الفور أنها لحظة الحرية
* أستاذ هيكل، في الجزء الأول من حوارنا، قلت إن في ثورة 25 يناير ثلاثة أطراف هي جموع الشباب الذين صنعوا التفجير الثوري، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، والأحزاب .
وقلت: إن الأطراف الثلاثة وقعوا في مأزق، ربما لم يكن من صنعهم، لأنهم جميعاً ارتطموا بالقدر .
تحدثت تفصيلاً عن القوات المسلحة، وجاء دور الطرف الثاني وهو الشباب .
أود - دون أن أقطع اتصال الموضوع - أن أسألك: هناك حركات ثورية ممن تدعو المجلس الأعلى إلى ترك السلطة فوراً، دون أن تحدد بديلاً واضحاً وهناك أصوات تدعو إلى تفكيك مؤسسات الدولة كالقضاء والشرطة والقوات المسلحة وإعادة تشكيلها دون أن تقول لنا: كيف ولماذا؟ وعبر الفضاء الإلكتروني يحتشد الشباب خلف هذه الدعوات .
إلى أي مدى قد تتداخل الحدود بين العمل الثوري، والفعل الفوضوي؟
- الأستاذ هيكل:
وصلنا إلى الطرف الثاني من أطراف مأساة الارتطام بالقدر - وهو طرف “الشباب” .
نحن هنا في حاجة إلى توصيف عادل لأحوال الشباب المصري في هذه اللحظة، ذلك أن أي ثورة من أجل الحرية والعدل والتقدم لها حالة أولى طبيعية، بمعنى أن طلب الحرية وهو أول المطالب يأخذ الحرية بطبائع الأمور إلى مداها، حتى بالتجاوز في حدودها، وهذا حال عرفته كل الشعوب التي دفعها تطورها التاريخي إلى الثورة، لأن أول خطوة في الثورة بالطبع هي كسر القيود، والقيود على المجتمعات ليست سلاسل تنكسر فيها حلقة، فتصبح السلسلة كلها عديمة الفائدة .
القيود في المجتمعات أكثر من سلاسل، وحالة “الأسير” تختلف عن حالة “الثائر”، فالأسير يكسر السلسلة ويجري، لكنه في حالة الثورة فإن الثائر يكسر السلسلة ويبقى لكي يصنع عالماً جديداً يتصوره ويجاهد لتحقيقه، معنى ذلك أن عملية تحرره أي ممارسة حريته تأخذه بعيداً إلى أوضاع اجتماعية قائمة، وإلى سلطات حاكمة، وإلى ترسانات قوانين تسري عليه، ولكنها على غير ما يتمنى ويطلب .
وعلى السطح فإن هذه الحالة من طلب الحرية وممارستها تبدو أمام كل السلطات المسؤولة عن “النظام” عملية ممارسة للفوضى وليس للحرية، ويبدو مطلب الحرية وممارسته متجاوزاً للمألوف الذي جرى العُرف عليه .
وهذه أحوال عرفتها ثورات أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية عرفت كلها أن حالة الثورة الأولى هي حالة ما يسمونه في العلوم السياسية “أناركي” Anarchy وهي كلمة شاع استعمالها أخيراً دون تحديد وتدقيق في معناها ودلالتها، وترجمتها الدقيقة هي “الحركة دون قيادة”، وهذا ما جرى في ثورة 25 يناير 2011 كما جرى في ثورات من قبل عاشتها شعوب أخرى في العالم كله .
وهنا يلزمنا أن نتنبه إلى معنى “أناركي”، فالكلمة لا تعني “الفوضى” Chaos ولا تعني “العدمية” Nihilism وإنما تعني “الحركة دون قيادة”، أي ممارسة الحرية دون مرجعية معترف لها بمشروعية التوجيه .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عندما يتحدث بعض المتحدثين عن تفرق قوى الشباب ويعدون بالأرقام أن التنظيمات الشبابية التي انبثقت عن ميدان التحرير زادت على 240 جماعة، فإنهم ينسون طبيعة المرحلة .
ويمكن أن يُقال إن بعض التنظيم كان لازماً بسبب الظروف الخاصة لمصر، لكن أحداً لا يجوز له أن ينسى أن قوانين الثورة وطبائع الثورات لا تستثني مصر، وإنما هي ظاهرة إنسانية وتاريخية وعالمية .
الثورة في أول خطوة منها تكسر القيود، وفي لحظة كسرها للقيود فإن إحساسها الطبيعي بأن كل شيء ممكن، والغريب أن شعار حالة "الأناركي" حالة السيولة الثورية في ثورات أوروبا سنة 1848 كان يقول “كن عملياً وأطلب المستحيل” .
ولو أن أحداً توقف أمام فوران الميدان، واهتم - أكثر بحالة الفوران العام في البلد - لأدرك على الفور أنها لحظة كسر القيد . . لحظة الحرية . . لحظة رفض أي ملاحظة أو نصيحة، والاستمرار في الممارسة حتى إن جاءت الملاحظة والنصيحة من جيل الآباء .
قد تُدهش إذا قلت لك إنني شخصياً لم أذهب إلى الميدان ولا مرة، لا دخلت إليه، ولا خرجت منه، فقد كان إحساسي من أول لحظة أنها ثورة جيل آخر، وعصر آخر، وشباب آخر، ولا بد أن يأخذ حقه كاملاً في تصرفه دون مؤثرات .
ومع أنني دُعيت مرات عديدة من بعض جماعات الميدان إلى زيارته، فقد اعتذرت، ملتزماً بحدود وجدتها لائقة، بل أكثر من ذلك فقد نصحت كثيرين من جيلي والأجيال القريبة منه بأن يتركوا الميدان لأصحابه، حتى لا يشوش عليهم أحد، لكي تكون الفرصة مفتوحة لفكرهم وزمانهم، فإذا أراد أصحاب الميدان أن يسألوا حين يشاءون فيما يشاءون، فليساعدوا الشباب بآرائهم بمقدار ما يقبلونه، وقد حدث بالفعل أنني استقبلت عشرات الوفود من شباب الميدان، جاءوا وسألوا، أو جاءوا وناقشوا، أو جاءوا واختلفوا .
وكان ظني ولا يزال أن زوار الميدان من غير أهله أرهقوا أصحابه، وأضافوا إلى حيرتهم أكثر مما ساعدهم بنصائح لا يسمعها أحد، ببساطة لأنها قادمة من بعيد بالزمن - من بعيد بالتجربة - ومن بعيد حتى بطبيعة لحظة الثورة .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
لحظة الثورة لحظة نشوة تغري بكسر القيود والبقاء لصنع عالم جديد . . لأن شباب الثورة يتصور أن في وسعه تغيير العالم بأسره . . وفي العادة وفي السوابق التاريخية أنه لا يتحقق مطلب “الهدوء” إلا بعد أن تنتهي حالة النشوة بالحرية وحالة اليقين منها، وبعد ذلك وليس قبله يجيء “الهدوء”، ويحل دور السؤال عن الطريق إلى تحقيق بقية المطالب الثورية بعد الحرية: مطلب العدل، ومطلب التقدم .
أي أن الحرية لا بد أن تكون واثقة من نفسها، مطمئنة إلى جوارها، حتى تصل إلى السؤال عن كيفية تحقيق بقية المطالب، وهنا يعود النظام .
بمعنى أن النظام أو التنظيم يلحق بالحرية ولا يسبقها، ويبقى بالثقة في وجودها، والتحقق من ضمانها، وهذا يقتضي أكثر من وعد وأكثر من تعهد يتقدم به أي طرف مهما كان .
ومن واقع سوء الفهم بين الأطراف أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة طلب النظام غداة سقوط التوريث، وسقوط رأس النظام القديم، وكان ذلك من شبه المستحيلات، كما أن التصدي لفرض النظام بقوة أي سلطة كان أيضاً من شبه المستحيلات .
لاحظ بعد ذلك عاملا يستحق الاهتمام وهو عنصر “التراكم” - فالقهر طال زمانه، والكذب طالت حباله، والوعود تكررت، والعهود فاضت، ولم يحدث شيء، وكذلك فإن “القضية” التي نراها ليست نبت ظروفها وساعتها، ولكنها طبقات فوق طبقات من الأمل وخيبة الأمل، من الرجاء واليأس .
وإذا بدا أن الشباب ومعه جماهير الناس لا يصدقون، فالمشكلة أبعد من مجرد شك، لأن جذوراً كثيرة ضربت وغاصت في التربة، واقتلاع الجذور عملية شاقة تقتضي صبراً واعياً، وأبسط الوعي ألا يتسرع أحد من اللحظة الأولى إلى الحزم، ثم يحزم ويتراجع، ثم يلتف ويتجدد الخطر .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سوء الفهم
قلت: سوء الفهم بين المجلس الأعلى والشباب، تحول إلى صدام، كيف يمكن فك الاشتباك، وعلاج الجراح؟
- الأستاذ هيكل:
من المفارقات أن المجلس الأعلى كان نظرياً واعياً لخطر الصدام، وقد سمعت ممن أتيح لي أن ألقاهم بنفسي - عدد محدود من أعضائه - أنهم يتحاشون بكل وسيلة حدوث صدام، وقولهم: إن سلاح الجيش ليس سلاح أمن، ولكنه سلاح قتال، وإذا جرى استعماله فهي الكارثة بعينها، والمحظور الذي يجب توقيه، لكن المشكلات في ظروف الثورة تنشأ بسوء الفهم، وغياب الحوار الحقيقي وليس الحوار الأبوي أو السلطوي بين الأطراف، وكذلك وقع بعض ما كان يجب ألا يقع بين المجلس العسكري وبين الشباب، وهذا مأزق لابد من معالجة آثاره، بصرف النظر عما انتهت إليه نتائج الانتخابات النيابية .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحقيقة أن سوء الفهم الذي وقع ترك جراحاً لابد من علاجها، وعلى النقيض فقد جرى توسيع الجِراح بتوزيع اتهامات بغير سند، وبالطبع فإن أحداً لم يتصور أن حالة ثورية كتلك الحالة التي وقعت في مصر يمكن أن تجيء بكل عوارضها وظروفها دون أن تحاول بعض القوى من قريب أو من بعيد أن تتداخل فيها وأن تحاول توجيهها، فمثل ذلك جرى وهو طبيعي، بمعنى أنه مما يجوز حدوثه، لكن إدارة بلد في حالة ثورية تقتضي روية أكثر في توصيف الأعراض وفي علاجها، وفي فهم الأوضاع، وتدقيق الوقائع .
والحقيقة أنني أعرف مباشرة مشاعر جماعات من الشباب جاؤوا إلى مكتبي وحكوا أمامي عن أسباب ضيقهم إلى حد المرارة مما واجهوا، لكنهم برغم ذلك كانوا على استعداد للفهم .
قالوا لي . . “من جماعة 6 أبريل مثلاً” أنهم لا يتصورون نسيان حق الشهداء .
وقلت . . إن هذا مشروع، وهو واجب، وهو حق مقدس، وهو ليس قضية تعويضات مالية فحسب، وإنما أكثر بكثير، مع الحذر من أن يتحول الحق المقدس إلى ثارات قبائل عقيمة تطلب الثأر، وتقتص للدم بالدم .
وطال الحوار وشعرت أنهم تفهَّموا .
ما أريد قوله هو أن حالة الارتطام بالقدر لا يمكن الاستسلام لها في العلاقة بين المجلس الأعلى وبين جماعات الشباب، ولا حتى بعد الموعد المقرر لتسليم المجلس الأعلى سلطته إلى المدنيين، ذلك أنه قبل تسليم السلطة وبعدها سوف تظل في هذا البلد قوات مسلحة، وشباب يريد أن يطمئن إلى الحرية حتى يستطيع أن يثق بأنها تأكدت، ويخطو إلى مطلب العدل ومطلب التقدم .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نجيء إلى الطرف الثالث - القوى السياسية والأحزاب القديمة والجديدة .
والأحزاب القديمة كانت قبل ثورة 25 يناير ثلاثة أنواع .
- أحزاب من بقايا أزمنة سبقت، وأهداف اختفت دواعيها، وأساليب تغيرت .
- وأحزاب جديدة هي في الواقع مشروعات تحت الإنشاء، وبعضها لعب أدواراً تستحق الاحترام . . . قبل ثورة 25 يناير، كانت “جماعات من أجل التغيير” وجماعة “كفاية”، وغيرها . . . وكان معظم هذه المجموعات يستند إلى قيادة عدد من الرجال المستقلين، ومجموعات من النشطين السياسيين، ومجموعات الشباب المتحمسين، لكن هؤلاء جميعاً بقوا مشروعات تنتظر اختبار المستقبل، وقد كان لهؤلاء جميعاً ولغيرهم - مناصرون في الإعلام الخاص . . . وهذا الإعلام الخاص تطوَّر في السنوات الأخيرة، وعلا صوته، ولمعت أسماء مقدميه نساءً ورجالاً، وشدوا اهتمام جماهير واسعة، لكن ذلك ظل في مجال الإعلام يؤثر سياسياً بالطبع، لكنه ليس طرفاً في التنظيم السياسي .
ثم ظهر في الشهور الأخيرة قبل الثورة عدد من النجوم يحملون أسماء معروفة ومشهورة، ولم يتحمل أحد من هؤلاء النجوم مسؤولية قيادة ثورة، ولكنهم خصوصاً رجال مثل محمد البرادعي وعمرو موسي وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي والبسطويسي - أدوا خدمة كبرى من حيث أثبتوا أن هناك بدائل كثيرة محترمة وصالحه للرئاسة، فقد كان القول أيام صعود مشروع التوريث إن الابن يستحق أن يخلف أباه لسبب أساسي هو أنه ليس على الساحة رجل يصلح الآن أو يقدر، وعليه فلماذا نحرمه من حقه كمواطن مؤهل، يعرف كل شيء لأنه يمارس سلطة الرئاسة فعلاً - وهل يُعقَل أن يُحرَم من الحق لمجرد أنه ابن الرئيس، وأليس ذلك إنكاراً لحقه كمواطن؟
دخول هؤلاء النجوم أثبت أن مقولة اللابديل غير صحيحة، وأن الأمة لا تحتاج إلى توريث، ثم اختلفت الصورة بعد ثورة 25 يناير، لأن الساحة تغيرت بالكامل، ولم يعد مجال البحث عن البدائل محصوراً، بل أصبح ممكناً أن تجيء البدائل من داخل العمل السياسي وحيويته الظاهرة سابقة ولاحقة، المهم أن الباب انفتح على مصراعيه، وسقط الحصار الذي كان مفروضاً على الساحة السياسية .
والطرف الثالث هو “الإخوان المسلمون”، وكان ذلك هو التيار الذي ظهر قوياً على الساحة بعد ثورة 25 يناير، خصوصاً عندما انفتح المجال أمامه واسعاً بسوء الفهم الذي وقع بين الشباب، وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة - الخلاف بين الطرفين عطَّل كليهما، وفتح فجوة أوسع تدفق منها التيار الإسلامي .
وكان الإخوان قبل ثورة 25 يناير في حالة كمون وفي حالة حشد، بمنطق الحذر في “المنشط والمكره” كما يقولون، لكن الظروف ساعدتهم - وذلك حقهم لا يصح لأحد أن يحاسبهم عليه، خصوصاً بالنظر إلى عدة عوامل:
- الأول: أن “الوعد الإخواني” كان بالفعل معبراً عن فكرة تحوم حول آفاق المنطقة، تبحث عن منفذ لها وموقع، تذكر أنت أن مطلع مبادئ المانيفستو الشيوعي الذي كتبه “ماركس وانغلز” في خضم ثورات أوروبا سنة 1848 عبارة مشهورة تقول “هناك شبح يحوم حول آفاق أوروبا، هو شبح الشيوعية”، كان ذلك صحيحاً في وقته حتى جاءت الشيوعية إلى روسيا فعلاً بقيادة “لينين”، ذلك تقريباً أقرب مثال تاريخي لوضع التيار الإسلامي بالنسبة لعالمه .
- وثاني الأسباب: أن التيار الإسلامي تفوَّق على غيره من الأطراف في معركة الاقتراب من الجماهير، وأظن - مثلاً - أن دور عناصره في ظروف ذلك الزلزال الذي ضرب مصر سنة 1992 كان نموذجاً معبراً، بينما كانت الحكومة القائمة في ذلك الوقت وهي وزارة “عاطف صدقي” مأخوذة بالزلزال وتبعاته، تحرك الإخوان المسلمين في مصر بحيوية وقوة ونزلوا إلى الناس ومعهم، وقاموا بدور يستحق الإعجاب، فقدموا أنفسهم للناس ليس كدعاة بالمواعظ، ولكن كنشطاء بقوة الفعل وكفاءته .
- هناك سبب ثالث: وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية وجدت في الساحة المصرية بشدة، وبين ما فعلته أنها رفعت حظراً سياسياً كانت تفرضه على الإخوان في سنوات المعركة ضد الإرهاب الإسلامي كما أسموه، من الثورة الإسلامية في إيران سنة ،1979 وحتى سقوط برجي التجارة في نيويورك سنة 2001 .
التحدي الذي يواجه "الإخوان"
درس أفغانستان كان موحياً، فقد جرى تعاون بين الولايات المتحدة وبين التيار الإسلامي بجبهته العريضة، كل منهما لأسبابه في الجهاد ضد الإلحاد الشيوعي في أفغانستان، وخلق التعاون العملي نوعاً من معاودة التفكير السياسي، ومع اتجاه الولايات المتحدة إلى إغراق المنطقة في بحر من الخلافات المذهبية إسلامية - إسلامية، أي بين السنة والشيعة، فإن الولايات المتحدة كانت في حاجة إلى سند سني، وتلك مهمة عُهد بها في البداية إلى حلف مصري سعودي يشارك معها باسم السنة في التصدي لإيران الشيعية، لكن الحلف المصري السعودي - السني لم يستطع أن يمضي في المعركة بنجاح، وكذلك جرى البحث عن شريك آخر أكثر فاعلية، وكذلك أكثر مصداقية .
وأظن أن التحدي الحقيقي أمام الإخوان بعد نجاحهم في السنوات الأخيرة سوف يواجه نقطته الحاسمة، وهي ما إذا كان الإخوان المسلمون بعد السلطة على استعداد للمُضي والتصعيد في فتنة الخلافات المذهبية في دار الإسلام، بينما الولايات المتحدة الأمريكية تشجع وتدفع، و”إسرائيل” تنتظر وترجو .
أريد أن أقول بوضوح إنني لست أحد المتحمسين لزحف التيار الإسلامي على السلطة وسيطرته عليها، وإن كنت باستمرار أحد المطالبين بحق هذا التيار في التعبير عن نفسه بالسياسة عن طريق المبادئ السامية في الإسلام، ثم دخول السباق الانتخابي في ظرف يعطي الفرصة للجميع، خصوصاً إذا كان بين هؤلاء الجميع طلائع من قاموا بالثورة، أو على الأقل فتحوا الطرق أمامها .
ومع ذلك فهناك حقائق لا يصح لأحد أن يتجاهلها:
- أولاً: أن المجلس العسكري خلط بين رؤيته وبين رؤية الثورة، فهو لم يكن يريد التوريث، لكنه لم يستطع أن يتصور أكثر من ذلك، في حين أن الشباب والشعب كله كانوا في حالة ثورة، حتى وإن كانوا لم يحددوا بدقة مطالبها، فقد كانوا في حاجة إلى وقت، والنتيجة أن المجلس العسكري ركز على تعديلات دستورية جرى تصنيعها لصالح التوريث، ورسم للمستقبل مساراً في هذا النفق الضيق!!
- وثانياً: أن الارتباك ساد مرحلة التفكير والتخطيط والعمل للمرحلة الانتقالية، فقد بدأت هذه بالانتخابات، وأظن أنه كان علينا أن نبدأ بالدستور .
ولأن وضع الدستور كان يستغرق وقتاً، لأن الدساتير ليست كتابة نصوص أو نقل مواد بأكملها من دساتير سبقت، وخوفاً من أن تطول المرحلة الانتقالية، مع انفراد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالسلطة العُليا فيها - فإن الخُطى بدت متسرعة، ومتعثرة في نفس الوقت .
وبدا القرار السياسي المصري وكأنه قطار يسير على قضبان، ولا يملك أن يخرج عنها، لا يراجع خطأ ولا يصحح مساراً، وحتى إذا أدرك في لحظة من اللحظات أنه يسير على غير طريق السلامة، فإن عجلات القطار تجرى تسابق الزمن رغم معرفة كل ركاب القطار بمن فيهم سائقوه أنهم ليسوا على الطريق المطلوب أو المنشود .
ملف ونصوص
هنا. . يخرج “الأستاذ” ملفاً من أحد أدراج مكتبه، يحوي نسخة من مداولات الأعضاء لجنة وضع دستور ،1923 ويطلعني “الأستاذ” على نصوص من المناقشات المطولة، مؤكداً أن هناك فرقاً بين وضع الدستور ونقل الدستور، ثم تبدت ملاحظة مهمة أن اللجنة التي وضعت دستور 23 وهو من أحسن الدساتير في تاريخ مصر، تشكلت بقرار من الملك فؤاد الأول، وكان حزب الوفد غير موافق عليها وأسماها “لجنة الأشقياء”، ثم عاد بعد ذلك وتمسك بهذا الدستور .
ثم يعود الأستاذ هيكل إلى سياق حديثه عن الحقائق التي لا يصح تجاهلها قائلاً:
السبب الثالث: أن الظروف التي سبقت المعركة الانتخابية الأخيرة أعطت للتيار الإسلامي فرصة تزيد على حجمه، لكن ما هو أهم أن النتائج جاءت لصالحه، وهذه هي الحقيقة الأكبر التي تشهد له وتزكيه، بصرف النظر عن رأيي أو رأي غيري .
- والسبب الرابع: أن هذا الشبح الهائم حول العالم الإسلامي له الحق - مادام ذلك اختيار الجماهير الأوسع أن يتقدم، وأن يحكم، وربما أن ذلك أفضل على المدى البعيد، لأن مواجهة لحظة قلق وتوجس من مجيء التيار الإسلامي إلى السلطة ساعة، أسلم من الحياة في خوف منها طول العمر، وإذن فالأفضل أن يجيء هذا التيار، وأن يأخذ فرصته بعدلٍ وأمانة .
- والسبب الخامس: وهو سبب نفسي هو أن نظام “مبارك” حاول استعمال التيار الإسلامي شبحاً يهدد به معارضيه، إما أن يقبلوا بحكمه وبتوريث ابنه، وإما فإن عليهم أن يستعدوا للتيار الإسلامي .
ويقيناً فإن “مبارك” حين روَّج للتيار الإسلامي كنقيض، فإنه رجَّحه كبديل، خصوصاً أن بقية القوى السياسية في مصر غيره لم تكن قادرة أو جاهزة، وأظن أن هذه نقطة مهمة تفسر قبولاً نفسياً للإخوان، يُضاف إلى استعدادهم وحشدهم .
- هناك سبب إضافي يمكن عده سادساً، وهو أن تيار الإسلام السياسي بالضرورة لابد سرى عليه ما سرى على كل القوى الحية في أي مجتمع، فليس من الإنصاف افتراض أن الدنيا كلها تغيرت، ولكن الإخوان المسلمين وغيرهم ظلوا على الحال الذي كانوا عليه في كل عقود القرن الماضي من عشرينات ذلك القرن وحتى نهايته وبداية قرن غيره، فهم لابد بالتأكيد تغيروا، ولابد أن أفكار العصر وصلت إليهم، مع العلم بأنهم باليقين لحقوا بأدوات العصر واستعملوها، بل ظني أنهم أتقنوا استعمالها أكثر من غيرهم، لأنهم كانوا في حاجة إليها - ولو بدواعي الأمن - أكفأ من الآخرين، ومن الصعب تصور أن الإخوان مثلاً دخلوا عالم الفضاء الإلكتروني بأدوات صماء تؤدي ولا تؤثر، وتقوم بدور الوصل وتحجب دور المعرفة .
والاختبار الذي ينتظرهم هو إلى أي مدى سوف يكون فهم العصر مواكباً لكفاءة استخدام وسائله .
هذه كلها اعتبارات جديرة بأن تُراعي، وواجب الجميع يحتم عليهم أن يقبلوا برضى طوعي حقيقي، دون مناورة، ودون عراقيل، ودون تحين الفرص للذرائع، لأن التيار الإسلامي له حق الفرصة كاملاً غير مشوب بشائبة، بحيث يمكن تقييم أدائه تقييماً عادلاً ونزيهاً .
وإذا نجح فإن نجاحه إضافة، وإذا لم ينجح فإن فشله راحة، حيث إنه يستبعد احتمالاً معلقاً بظنون مسبقة لم تتعرض لاختبار التجربة .
في بعض اللحظات شعرت بالقلق عندما سمعت من يقول لي: لا أظنهم يقبلون، والقائل يقصد المجلس العسكري . . . أن يدخلوا التاريخ، باعتبارهم الناس الذين سلَّموا البلد إلى الإخوان المسلمين، وكان ردي: أنني سمعت نفس الجملة تقريباً بلسان الجنرال “الشاذلي بن جديد” في الجزائر، وبسببها دخل ذلك البلد في حرب أهلية طاحنة، دامت سنوات طويلة .
ومن حسن الحظ أن ذلك لم يتكرر في مصر، فلم يقبل الناس بإعطاء الفرصة للإخوان المسلمين فقط، وإنما رضي المجلس العسكري أيضاً .
أكثر من ذلك فإنه لابد من اعتبار حق الإخوان في الصواب والخطأ، فهؤلاء ناس لم يمارسوا السلطة من قبل، وبعض أجهزة الحكم في السابق كان مبرر وجودها في حد ذاته هو الحرب عليهم، ومن الحق أن يوضع ذلك في الحساب، وإلا فهو التربص، وتمنى الفشل، وذلك ضار بالوطن قبل ضرره بالإخوان، هذا مع العلم أن المشكلات ثقيلة، والمواريث مزعجة .
هناك مسألة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن العملية الانتخابية ومجيء مجلس نيابي منتخب انتخاباً حراً وشرعياً إلى الساحة، سواء بأغلبية للتيار الإسلامي أو لغيره - أضافت في حد ذاتها وبصرف النظر عن أي اعتبار آخر - عنصر تأمين وتماسك للبلد، من حيث إنها ملأت فجوة مؤسسية تسند الساحة السياسية كلها، فقبل انتخابات مجلس الشعب كانت هناك فجوة مؤسسية لا مبرر لها، وعندما امتلأت هذه الفجوة بمجلس نيابي مُنتخب فإن طبوغرافيا هذه الساحة السياسية بانت لها تضاريس تستند إلى أرضية متماسكة، وهذا مكسب كبير .
كان بودي أن أضيف تصوراً عن دور السلفيين وأحزابهم في البرلمان الجديد، لكني أرد نفسي لأني لا أعرف ما يكفيني للحديث عنهم، أعرف شيئاً عن السلفية، وأعرف شيئاً عن السلفيين، وأرى أحياناً مظاهر نشاطهم في مصر، لكني على استعداد للاعتراف أن حجم نجاحهم جاء مفاجئاً لي، ولابد أن وراء هذا النجاح عناصر وعوامل لم أرها، وأظن أن كثيرين غيري لم يروها .
ولست من أنصار التسرع برأي في شأنهم، فقد سمعنا بعض التصريحات، ورأينا بعض الصور، لكن الحركات السياسية لا تُقاس بفرقعات فردية، فكل حركة سياسية في العالم لها فولكلورها السياسي، ورؤية حركات هذا الفولكلور أو سماع صخبه، لا يؤهل للحكم عليه، وفي حالة الظهور المفاجئ للقوى السياسية فإن الانتظار بعض الوقت أنفع، حتى يبدأ الخطاب المعتمد، أو تظهر الحركة المقصودة .
3 قضايا
* على مدار عام، زادت حدة التحديات التي نواجهها ومازلنا، كيف ترتب هذه التحديات حسب أولوياتها، وهل نملك ترف انتظار انتهاء الفترة الانتقالية للتعامل معها؟
- هيكل: أمامنا ثلاث قضايا لا تحتمل الانتظار، وكلها مسائل بقاء أو انحلال، صحة أو مرض عضال:
- الأولى: هي قضية الوحدة الوطنية لشعب فيه المسلمون وفيه المسيحيون، والمشكلة الطائفية واضحة لا تحتاج مني إلى شرح أو تفصيل، وكان المعتمد البريطاني الأشهر اللورد “كرومر” على حق حينما قال في كتابه “مصر الحديثة” - مستخلصاً تجربته الطويلة في مصر، إنه رأى في مصر مصريين بعضهم يصلي في مسجد، وبعضهم يصلي في كنيسة، ولا فارق بين الاثنين غير ذلك .
وبصراحة فليس يجدي أن يحاول بعض الناس تقليل عدد المصريين المسيحيين في نسبة السكان، وفي مقابل ذلك يتزيد في نسبة نصيبهم في ملكية الثروة .
ثم يترتب على ذلك أن ما يضيع منهم بالسياسة يجري تعويضه بالاقتصاد .
بمعنى أن المواطنة مواطنة، ليس فيها أغلبية وليس فيها أقلية، وإنما فيها حقوق متساوية لكل مواطن .
وليس طبيعياً في ظل دولة المواطنة أن لا يكون هناك محافظ مسيحي إلا على سبيل الاستثناء - أو مدير جامعة - أو سفير من الدرجة الأولى - أو وزير واحد أو اثنان يتكرر اسمه أو اسمهما، لأن هناك خانة لابد من سدها .
وأظن أن الصديق الدكتور بطرس غالي كان معبراً بدقة عن هذا الوضع، وهو لا يقصد حين قال لي ذات مرة:
“لم تكن أي أخبار عن تعديل وزاري وشيك تقلقني عندما كنت في الوزارة، كنت واثقاً تماماً أنني ضمن الباقين في الوزارة بعد التعديل، ليس لأنهم يعرفون أن لي مزايا يقدرونها، ولكن لأنهم في حاجة لوزير قبطي يعرفونه” .
والقول صادق، وهو ساخر في نفس الوقت، وهو كذلك محزن في المحصلة الأخيرة!!
سوف أتجاسر وأسأل سؤالاً صريحاً ومباشراً:
أليس لافتاً أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس فيه - كما يبدو لي، وأرجو أن يصححني أحد إذا كان هناك من لا أعرفه - مواطن قبطي واحد بين أكثر من عشرين قائداً؟
في مجلس ثورة 23 يوليو 1952 لم يكن هناك مواطن قبطي في المجلس، لأن ذلك المجلس بدأ جمعية للعمل السري تحت الأرض، ومخالفاً للنظام، وهذا عادة نوع من النشاط يفضل المواطنون الأقباط تجنبه، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة مشكَّل على أساس الوظيفة - على أساس القيادات التي وصلت إلى أعلى الرتب في أسلحتها، وذلك وضع يختلف .
في تنظيم سري مثل مجلس قيادة الثورة في 23 يوليو، كانت المشكلة مفهومة، وأما بين أكثر من عشرين قائداً وصلوا إلى أعلى الرتب، فكيف يمكن لأحد أن يفهم إلا أن هناك خطأ ما بمنطق الأمور .
في حرب أكتوبر 1973 كان اللواء فؤاد عزيز غالي قائداً لجيش بأكمله، وبعد أربعين سنة لا يُعقل أن لا يكون هناك مواطن قبطي ضمن عشرين قيادة عُليا .
كذلك لا يجوز أن يكون بناء الكنيسة في حاجة إلى إجراء خاص يختلف عن الإجراء الخاص ببناء مسجد، ولا أريد أن أستفيض في الشرح أكثر، وإنما يكفي التذكير بأن حق المواطنة هو حق المواطنة، والاختيار بين المواطنين يكون على أساس الكفاءة في الأداء، والصلاحية للمسؤولية، وليس هناك أساس غير ذلك ولا يصح أن يكون، مع ملاحظة أن الأربعين سنة الأخيرة تركت - بالتمييز بين المواطنين - عوالق شك واضطراب في العلاقة لابد من إزاحتها، ومن المفارقات أن توضع مسؤولية علاج هذه العوالق على التيار الإسلامي، ومع ذلك فظني أنه أقدر من غيره على العلاج، لأنه بما يمكن أن يقوم به - إذا قام به - يكون أكثر مصداقية من غيره .
أزمة نهر النيل
هناك قضية ثانية وهي موازية بالضبط لقضية الوحدة الوطنية، وهي قضية نهر النيل ومياهه، وهذه قضية تعرضت لإهمال جسيم، رغم أنها مسألة حياة أو موت، فقد كانت مصر في يوم من الأيام في قلب إفريقيا، ومن حول منابع النيل، وكانت قادرة، والحقيقة أن قضية مياه النيل لا تحتمل التهاون، فنحن نعيش على مصدر واحد للمياه، ومنابعه خارج هذا الوطن المصري، وهي أيضاً خارج السيطرة حتى إذا توافرت إمكانياتها، لأن القدرة عليها لا تتعلق بالقوة العسكرية، فهذا النوع من القوة في هذه الحالة مستحيل، وإذن فلابد من قدرة للتواجد الضروري بوسائل السياسة وفيها الاقتصاد والثقافة، لكن السياسة مورست بالإهمال الجسيم في الأربعين سنة الأخيرة، سياسة ذلك العصر انبهرت بأوروبا وأمريكا، وأدارت ظهراً لإفريقيا، بينما حياتها هناك!!
ثم إن شطارة السياسة مارست دورها خلال هذه الأربعين سنة بمزيج من السطحية أو الاستعلاء، باعتماد منطق أن زيارة رسمية بين وقت وآخر، ووفد يروح ويجيء سنة بعد سنة، وتصريحات مطمئنة من هنا وهناك، ثم يتصور بعضهم أن تلك كفالة تكفي لضمان المصالح، وهو نوع من العبث .
لأن ضمان المصالح تربطه سياسة مستمرة - وشراكة متصلة - وتعاون لا يكل ولا يمل، ولا يمكن أن يكون رحلة، أو مأدبة، أو تبادل أوسمة تتحول إلى صور على الصحف وعلى الشاشات، ثم ينتهي الموضوع لنصل إلى ما وصلنا إليه فعلاً .
وهنا أريد أن أقول إن مشكلة المياه بدأت فعلاً، وإذا كان هناك من يريد دليلاً فليتفضل، ويقس منسوب المياه الحالي في خزان “السد العالي” في بحيرة ناصر، وسوف يكتشف أنه منذ أربع سنوات وحتى الآن، أن مصر تسحب من هذه البحيرة بعض مخزونها لتعويض النقص في ما يصل إليها من مياه النيل، وأجدني على استعداد لأن أجازف وأقول إنه في ظرف أربع سنوات أخرى سوف تواجه مصر أزمة مياه، ليس فقط أن الماء المتدفق سوف يقل، بل أيضاً أن خزانات المياه الجوفية التي زاد الاعتماد عليها في السنوات الأخيرة تنضب .
ونحن الآن نستهلك من المياه ما مقداره 65 مليار متر مكعب قابلة للزيادة، خصوصاً مع الأمل في عودة نشيطة لعمليات استصلاح أراضٍ جديدة . وعليه فهي قضية لا تحتمل الانتظار، ولا تقبل التأجيل، كما أن الارتجال ليس بين الحلول المطروحة .
نجيء إلى المشكلة الاقتصادية وهذه هي المشكلة التي تلقي بظلالها على الوضع الآن كله، وأظن أن تصويرها الصحيح يكفي فيه بعض الأرقام، توضح حجم النهب وحجم القصور التي نزلت على الاقتصاد المصري:
لعلي أزعم أنني لكي أتقصي، قابلت وناقشت كل رجل له صلة بالملف الاقتصادي سواء كان في مصر أو خارجها - قابلت في مصر وناقشت أعداداً من رؤساء الوزارة، ومسؤولين من البنك المركزي، ووزراء للمالية والاقتصاد، وأستطيع أن أقول والمسؤولية عليَّ وحدي، إن الصورة بالأرقام مثيرة للانزعاج:
- حجم الأموال التي خرجت من مصر لدواع غير مشروعة، قانونية في الإجراءات فقط، وإن تكن غير شرعية في الجوهر، وفي عهد تحول إلى دولة فساد وليس فقط فساد دولة، لأن التصرفات فيه جرت بقانون يطوع للمصالح الحاكمة أن تفعل ما تريد، محمية بنص مكتوب، حجم هذه الأموال التي خرجت من مصر في تلك الظروف وصل إلى ما بين 250 و300 مليار دولار .
- حجم الدين العام الداخلي وصل إلى 200 مليار دولار “أي ما يزيد على تريليون جنيه مصري” .
بينما حجم الدين الخارجي في حدود 36 مليار دولار “أي 300 مليار جنيه” .
- حجم العجز في الموازنة هذه السنة المالية 2011 - 2012 يتراوح ما بين 30 و35 مليار دولار، أي ما بين 160 و170 مليار جنيه، أي أن العجز يصل إلى أكثر من 10% من الدخل القومي .
معنى ذلك أن حجم العجز اليومي - لاحظ أنني أقول اليومي - 500 مليون جنيه .
- حجم الاحتياطي لدى البنك المركزي كان 36 مليار دولار في بداية عام ،2011 ونزل إلى 18 ملياراً “مع العلم أن ثلاثة مليارات منه سبائك ذهب لا يمكن التصرف فيه” .
- حجم البطالة وصل إلى ما بين 17 و20 مليون عاطل .
- حجم الضائع من التدفقات نتيجة قصور السياحة، وعزوف الاستثمارات عما كان متوقعاً هذا العام يصل تقديره إلى 20 مليار دولار “120 مليار جنيه” .
وإذن فالأزمة طاحنة، والجاهزون للمساعدة حتى هذه اللحظة في حالة غياب، كل منهم لأسبابه:
- الولايات المتحدة الأمريكية لا تساعد لأنها في صدد أن تضغط لمزيد من التطويع .
- والقادرون على المساعدة في العالم العربي مترددون، ولكل منهم أسبابه، لكن أخلصهم نية يقول وقد سمعتها بنفسي:
“نحن نريد أن نساعد الشعب المصري، ولكن لا نريد أن نسد العجز في ميزانية جارية، وإنما نريد أن نساعد أوضاعاً دائمة، ولا نساعد أوضاعاً مؤقتة، وإلا فمعنى ذلك أننا سوف نطالب بالمساعدة مرتين، مرة لوضع مؤقت، ومرة ثانية لوضع دائم يجيء ويطالب من جديد” .
هذه هي الحقائق بالأرقام، فماذا نرى؟
مادوف المصري
* هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية، قطعاً لم تنشأ بعد ثورة 25 يناير، كيف أمكن - في رأيك- مداراتها والتغطية عليها طوال سنوات حكم مبارك؟
- هيكل: لك الحق في هذا السؤال: بالفعل كيف أمكن مداراة هذه الأوضاع كلها، فلم تظهر درجة ترديها إلا بعد الثورة في يناير ،2011 وبعدها فقط انكشف الغطاء، مع أن هذه العملية شابتها أغراض حاولت ومازالت تحاول التمويه والتضليل .
إذا أردت تصويراً حقيقياً لما جرى، فأرجو أن لا تندهش إذا طلبت إليك أن تتذكر تجربة بيوت توظيف الأموال، سواء هنا في مصر أو خارجها، إننا شاهدنا وتابعنا تلاعبهم وعبثهم بمدخرات الناس وبأموالهم في مصر - وشاهدنا وتابعنا ما جرى خارج مصر كما عرفنا من قصة شهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، وهي قصة “برنارد مادوف” .
أصحاب بيوت توظيف الأموال في مصر وأنت تعرف أسماءهم، وتذكر وقائع قضاياهم، كانوا يتلاعبون في الملايين من الجنيهات، وأما رجل مثل “برنارد مادوف” فقد تلاعب في عشرات البلايين من الدولارات .
سياسة بيوت توظيف الأموال دائماً تمر بمراحل:
- حملة إعلانية واسعة تعطي صوراً مغرية ومثيرة لشهية من يطلب استثمار مدخراته، أو زيادة ثروته، والحملة تعطيه أحلاماً وردية تصل إلى حد الخيال أحياناً .
- أجواء تخلق نوعاً من الثقة العمياء عن طريق تقديم فوائد ومزايا يشيع خبرها بين الناس إلى درجة الأساطير، وتصل إلى حد إخراج الحذر من مكمنه كما يقولون!!
- ثم تتسع العمليات وتتوسع على أساس أن يأخذ القائمون عليها ما يشاءون، ويمنحوا أنفسهم كما يرون، ويمارسوا حياتهم كما يشتهون، ويحتفظوا لأنفسهم ولأهلهم بما يرون أنه يؤمِّنهم طول الحياة .
- وعندما تقع الخسارة في بعض العمليات، أو حين تقصر الموارد على تدوير السداد، فهم يأخذون من هنا للتستُّر على هناك، ومن هناك على هنا، وسداد المطلوب ممكن طول الوقت طالما ظل تدفق الودائع طول الوقت .
- وسوف تظل الساقية تدور . . ترفع وتصب . . وتجري مياهها وتواصل جريانها طالما استطاع الثور الدوار حول الساقية معصوب العينين لا يرى، ولا يريد أن يرى .
- فإذا واجه أزمة، فالبنوك جاهزة لإقراضه، وسمعته وثقة الناس فيه هي الضمان .
- فإذا جاء طارئ غير محسوب، وتوقف التدفق وجف المجرى، انكشف القاع وحجارته .
هذا ما كان يفعله “مادوف” حتى جاء وقت وصلت فيه الودائع عنده إلى خمسين مليار دولار حسب الوثائق التي قُدِّمَت للمحكمة .
كان عمله ناجحاً والثقة فيه كاملة، والودائع تتدفق عليه وهو يكاد يصد تدفقها صداً، فالرجل ساحر يحول التراب إلى ذهب، والرجل فاعل خير، وهو يريد الغِنى لكل الناس، وقد تفانى وأدخل معه ابنيه شريكين له، لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر، لأنه لا يقدر على ائتمان إنسان غير نفسه وبالكثير غير ابنيه وزوجته .
ولم يخطر ببال أحد من مودعيه أن يشك فيه، حتى رجل مثل هنري كيسنجر كان يأتمنه على خمسة ملايين من الدولارات سقط في الفخ، وبالنسبة لأي مستثمر في أمريكا فإنه إذا كان هناك رجل واعٍ وحريص مثل كيسنجر يستثمر عند “مادوف” فمن إذن له الحق أن يشك أو حتى يسأل؟!!
فجأة وقعت أزمة البنوك الأمريكية، وتوقفت البنوك عن تقديم القروض، وظهرت الفجوة واسعة، وعند الفحص تبين أن الفجوة ابتلعت كل الثروة، وحدث أن “مادوف” كان بنفسه هو من أبلغ النيابة عن إفلاس مؤسسته .
كذلك جرى في مصر تقريباً، نفس تجربة بيوت توظيف الأموال، ثروة وطن تحت التصرف، وأجواء موحية بالاطمئنان إلى الاستقرار، والساقية تدور، والمياه تتدفق، والتسرب في فيضها لا يتوقف، سواء إلى “مادوف” المصري، أو أسرته، أو أعوانه المقربين، وظلت الساقية تدور في عمليات نهب تغطيها مساعدات خارجية تجيء ويجري إنفاقها، وعمليات تبديد تغطيها تدفقات مالية، وفوائض كبيرة خصوصاً بعد حروب الخليج . . وكله يتحول إلى تدفقات وديون تسددها تدفقات وديون .
لك أن تتخيل حركة التدفقات المالية التي جاءت ل “مادوف” المصري، وجرى تبديدها واحدة بعد أخرى، وتسديد خسائر سابقة بلاحقة لها .
- عندما جاء “مبارك” كان هناك من أقلقهم ما يمكن أن يجري في مصر بعد اغتيال الرئيس “السادات”، وانسالت المساعدات .
- عندما تسرب ما جاء بعد اغتيال الرئيس “السادات” لحقه ما جاء بعد حرب “العراق” على “إيران” .
- عندما جرى توزيع هذا الذي تدفَّق من حرب “العراق” و”إيران” - جاء ما تدفَّق بعد حرب تحرير “الكويت” .
بعد ذلك نشطت عمليات “الخصخصة” في مصر، نهباً صريحاً .
وعندما تنبَّه الناس إلى “الخصخصة” وما جرى فيها، كانت عمليات النهب قد وصلت إلى أراضي الدولة .
عملية تبديد للموارد - عملية بيع للأوهام - عملية نهب منظم لابد أن ينكشف مهما طال المدى .
وفجأة ظهرت فجوة غير متوقعة، وهي ارتفاع أسعار البترول أوائل هذا القرن الحادي والعشرين، فقد قفزت أسعار البترول مع سنة ،2002 وزادت على مئة دولار للبرميل، وأصبح أمام صانع القرار في مصر إشكال كبير . . فجوة تظهر وتتسع .
فالغاز المصري مثلاً يجري تصديره بأقل من سعره ل”إسرائيل” ولغير “إسرائيل”، واستهلاك كل مواد الطاقة في مصر يزيد، وإذن فهي مضطرة لكي تحافظ على عقودها بالتصدير أن تستورد من مواد الطاقة ما تحتاج إليه، وتصدره إلى غيرها .
وكان هناك خياران:
- رفع أسعار الطاقة بما يوازي سعرها في الخارج، وتكلفة استيرادها من الخارج .
- أو دعم الطاقة محلياً بما هو ضروري للحفاظ على أسعارها بالنسبة للمستهلك، ووصل الأمر إلى حد أن وزير البترول - أي وزير بترول - أصبح يطلب من السلطة ما يُقارب تسعين مليون دولار كل شهر لدعم الطاقة، وذلك عبء لا يُحتمل .
وعندما أبدى أحد المسؤولين خشيته من عواقب هذه العملية، كان رد وزير البترول “وماذا نفعل؟ - هل نقول للناس إننا نصدر الغاز ل”إسرائيل” بأسعار منخفضة، ونستورد مواد طاقة تعوض السوق المحلية بسعر مرتفع؟” - وكان الرد عليه “أبداً لأن تلك فضيحة سياسية” .
والغريب أن المستفيد الأكبر من دعم الطاقة كانوا من الأغنياء، أما عامة الناس فقد كان دعمهم في احتياج كل يوم .
وكذلك ارتفع حجم الديون في السنوات العشر الأولى من هذا القرن، إلى حدود تريليون جنيه، والفوائد على الاقتراض عالية، والعالم العربي لا يقدم مساعدات لأسباب، والعالم الخارجي متوقف عن المساعدة لأسباب غيرها .
ثم وقعت أزمة أسواق المال العالمية، واستحكمت الأزمة .
ولم يعد “مادوف” في مصر قادراً على الاستمرار، وحاول الأقربون إليه أن يتقدموا لكي تظل الساقية تدور، وكذلك حاول بعض موظفيه، لكن الأسباب تراكمت على الأسباب، حتى بدأت متاريس الساقية تتكسر، وحتى بدأت عجلتها تتعثر .
وأصبح الإفلاس محققاً، وتخلى “مادوف” عن الإدارة وسط ثورة من الذين استيقظوا ذات يوم، فإذا مدخرات عمرهم في مهب الريح، وثروات وطنهم لم يبق منها شيء، ووقعت الواقعة .
ذلك تقريباً تصوير قريب الشبه مما جرى في مصر .
وأتذكر آخر لقاء لي مع الدكتور محمود فوزي، وهو الرجل الحكيم الذي أدار سياسة مصر الخارجية، وأصبح في وقت من الأوقات رئيساً للوزراء، كان الرجل على فراش مرضه الأخير، وقُرب نهاية حياته، وذهبت أزوره وكان بين ما سمعت منه يومها قوله:
“مصر تعيش في بالونة منفوخة وملونة، وويل لنا يوم تجيئها شكة دبوس، وتفرغ ما فيها من الهواء، وتتقلص البالونة وتنكمش . وذلك تقريباً ما جرى
أعرف أنك التقيت قادة كباراً بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأعرف أنك قابلت رؤساء الوزراء الثلاثة الذين تعاقبوا على رئاسة الحكومة خلال العام الأول للثورة . . ماذا قلت لهم عن الوضع الذي تركه لنا “مادوف المصري”؟
- هيكل: المشكلة أن أحداً بمن فيهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة - لم يتوقف بعد الثورة مباشرة ليقدم للأمة كشف حساب يوضح فيه الصورة الحقيقية لتصرفات العهد الذي سبق، وما هو حاصل لمصر بعد سنوات طويلة من السياسة العبثية التي اعتمدت ثلاثين سنة .
وأتذكر في أعقاب سقوط “مبارك”، أنني اقترحت - وحتى على بعض من لقيت من مسؤولي وساسة تلك الفترة- تقديم تقرير إلى الأمة عن حالتها كما تركها العهد السابق .
أتذكر أيضاً أنني قلت: “إنني لا أريد أن أسجل على النظام الذي سقط شيئاً يدينه، لكنه حق الأمة أن تعرف الحقيقة، وقلت أيضاً: “إن هذا الحق في الحقيقة ضروري حتى لسلطة ما بعد الثورة، وإلا فإن السكوت على أحوال معينة سوف يجعل السلطة الجديدة جزءاً من الأزمة وليست جزءاً من الحل”!
ومن سوء الحظ أن أحداً لم يسمع، بل ولم يناقش، ووقع المحظور، وتحملت عملية تسيير الدولة في العهد الجديد أثقالاً لم تكن هي المسؤولة عنها، لكنها بأحكام السياسة أصبحت كذلك، فهي لسبب ما لم تعالج الأمور بالصراحة اللازمة، ثم وجدت نفسها - تريد أو لا تريد - مضطرة للتغطية على الحقيقة، وبتكاليف عالية .
وعندما ظهر العجز المالي فإن القوات المسلحة قدمت من اعتماداتها مليار دولار مرة - ثم مرة أخرى . بل وحدث أخيراً في صدد أزمة البوتاغاز والبنزين أن الناقلات الحاملة لإمداد سريع مطلوب من هذه المواد وصلت إلى الموانئ المصرية، وكان الدفع الفوري ضرورياً لكي ترضى الناقلات بتفريغ حمولاتها في الموانئ، وتنفض الأزمة، ولم تكن هناك وسيلة للسداد غير الدفع من اعتمادات القوات المسلحة .
وهذه هي الصورة الداعية لأشد القلق .
وهو وضع وقع فيه ظلم بيِّن على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لكن أحداً لسوء الحظ لا يستطع إعفاءه من المسؤولية، فلسبب ما تردد، ولسبب ما اعتمد سياسة “أنهم لا يريدون مشكلات”، أو أنهم يفضلون أن تجيء الحلول من السلطة الدائمة، وليس من السلطة المؤقتة، وذلك في أبسط الأحوال نسيان لقوانين الحركة: تستطيع أن تتجنب التصدي للمشكلات، ولكن مرور الوقت سوف يرفع التكاليف اللازمة، وتستطيع أن تؤجل، ولكن التأجيل سوف يرفع الضرائب المستحقة، والأوان له توقيت، وحين تجيء الحلول بعد أوانها تكون في معظم الأحيان قد فقدت صلاحيتها أو جزءاً مهماً منها .
الصورة الآن
* هل الصورة ميؤوس منها؟
- هيكل: دعني أقول لك إن الصورة قاتمة، ولكنها ليست ميؤوساً، فهناك غيرنا في العالم واجه مثيلاً لها، وهنا فإن التاريخ . . قراءة التاريخ تعلمنا درساً للمستقبل .
بلد كبير مثل فرنسا واجه موقفاً مشابهاً، أو موقفاً مشابهاً في أعقاب تحرير فرنسا من احتلال النازي سنة 1945 .
بلد ممزق بقسوة، وأزماته مستعصية بشراسة، وأحواله تكاد تقف على حافة الحرب الأهلية .
نصف فرنسا كان تحت حكم “هتلر” مباشرة، ونصفها الآخر تحت حكم الماريشال “بيتان”، ورئيس وزرائه “لافال”، ألعوبة في يد قوة الاحتلال النازي، والشعب الفرنسي في الداخل الفرنسي منقسم على نفسه، نصفه يتهم نصفه بالتعاون مع النازي، والشعب الفرنسي في الخارج مبعثر في مستعمرات فرنسا الإفريقية، ومن تحت الأرض تظهر قوى تقول إنها هي المقاومة الحقيقية المسلحة ضد النازي، والرأسمالية الفرنسية متهمة بالتواطؤ وجمع الأموال من السوق السوداء، واستغلال عناء الناس تحت جنح ظلام الحرب، وهناك من يقول إن المقاومة السرية كانت في الواقع عصابات قطاع طرق، وأما الطبقة العاملة الفرنسية فقد كانت في الواقع تعمل لصالح المجهود الحربي للنازي الألماني، ومؤسسات الدولة كلها من البوليس إلى القضاء إلى الإعلام كانت مليئة بالعملاء، والكل يحاول توجيه التهم إلى الكل، لدرجة أن آلافا من نساء باريس كن حليقات الرأس بعد إشاعات - أو وقائع عن علاقات لهن مع الضباط الألمان، والوقوع في غرامهم .
وفي وسط هذا اليأس كله، كان هناك رجل واحد يبشر بالأمل، وهو الجنرال “ديغول” الذي لم يكن يملك في ذلك الوقت إلا الصيت الرمزي لحركة فرنسا الحرة، ولم تكن قدرته ولا سلطته تزيد عن التصرفات الرمزية من نوع الإصرار على ألا يرتفع فوق قوس النصر في باريس إلا علم فرنسا، وقد طلب أن تدخل قوات فرنسا الحرة إلى باريس قبل كل قوات الحلفاء، ولم يكن تحت تصرفه في البداية إلا لواء مدرع واحد يقوده الجنرال الفرنسي “لوكليرك”، وقد أصرَّ “ديغول” على دخوله إلى “باريس” قبل غيره، لمجرد إحياء معنى أن فرنسا موجودة، وأنها في صفوف المنتصرين، وفي الحقيقة فإنه بمجرد الرموز استطاعت فرنسا أن تعبر المحنة نحو درجة من التوازن، تستطيع معها أن تتصرف، وأن تتمكن من استعادة حقها في مصيرها .
وإذن فإن التاريخ وهو المعلم الأول للسياسة يقول لنا الآن إن الأمل حليف الأمم بقوة التاريخ، والأمم قادرة باستمرار على المستقبل عندما ترى نفسها فيه .
لكن العقدة عندنا أنه ليس لدينا ديغول، وليس هناك ما يدل على رجل مثله في الساحة، لكن الشعب يستطيع، إذا عرف الحقائق واستدعى الهمم ورفض الأوهام، بما فيها أوهام صناعة الصور .
غداً في الجزء الثالث مراحل الانتقال لا تتم بالارتجال