تسعة آلاف وأربعمئة وسبعة وثمانون يوماً جثم المستعمر الفرنسي على صدورنا وتمتع بجمال بلادنا، ونهب وسرق خيرات سورية وقتل رجالها وشيوخها، أطفالها ونساءها
ولم يكتف بذلك بل هدم المدن والقرى وجعلها كعصف مأكول.! وكانت دمشق من أولى المدن التي قام هذا المستعمر الوحشي بتدميرها حين قصفها بلهيب نيرانه، مرة عام 1925م والأخرى عام 1945، وقائمة الأعمال الوحشية لهذا المستعمر الفرنسي تبدأ ولا تنتهي، فمنذ الساعة الرابعة بعد ظهر الأحد الواقع في 25 تموز 1920م حين دخلت قوات الانتداب الفرنسي دمشق بقياده المدعو غوابيه إلى الساعة التاسعة من صباح 15 حزيران 1946م حين رحل آخر جندي فرنسي مستعمر ارض الوطن، وسورية تدفع ضريبة الدم وضريبة الحرية التي اغتصبها المستعمرون الفرنسيون...
قصص وحكايات.. بطولات لا تنتهي.. حكايات تناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، وسطرتها كتب التاريخ عن سورية التي تصنع الحضارة وتسطر التاريخ.. إنها سر الكون والتكوين لم تزل باقية حتى الآن ترد الأذى عن العرب والعروبة وتنشر المسيحية والإسلام وتنبئ عن النصر القادم. إنها تختزن التاريخ وتحكي أحجارها وسماؤها عن أسرارها... إنها مدرسة العروبة وسيفها وقلمها وتاريخها المجيد. واليوم نستذكر ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي عن بلادنا الذي تم في 17 نيسان من عام 1946 م، نستذكر أول مره يرفع فيها العلم السوري على الثكنات العسكرية بدمشق بعد خروج الاستعمار من بلادنا.
البداية
في الأربعينيات من القرن العشرين وفي زمن الانتداب الفرنسي على سورية كان في دمشق العديد من الثكنات العسكرية الخاضعة لسيطرة قوات الانتداب، وحين أعلن استقلال سورية في الثامن من حزيران من عام 1941م بعد دخول القوات البريطانية والفرنسية التابعة لحكومة فرنسا الحرة إلى دمشق وطرد قوات فيشي الموالية للألمان، حينه ألقت الطائرات البريطانية والفرنسية التابعة للجنرال ديغول منشورات على جميع الأراضي السورية واللبنانية موقعة من الجنرال كاترو باعتباره ممثلاً لحكومة فرنسا الحرّة تشير إلى إعلان استقلال سورية ولبنان وانتهاء الانتداب إرضاءً للشعبين، وتطلب من السوريين واللبنانيين عدم مقاومة القوات البريطانية وقوات فرنسا الحرّة. وفي اليوم ذاته، سارعت الحكومة البريطانية بإعلان موافقتها على بيان الجنرال كاترو، واعترفت آنذاك خمس دول باستقلال سورية وهي مصر والسعودية وبريطانيا وبلجيكا واليونان.
ولكن لم تستقر الأمور بيد الحكومة السورية إلا بعد انتخابات نيابية وانتخاب شكري القوتلي رئيساً في السابع عشر من آب 1943، ولم تستلم الحكومة الإدارات المدنية إلا في أول عام 1944م، وقد حاولت بريطانيا وفرنسا إفراغ استقلال سورية من مضمونه، ما أدى إلى ثورة شعبية شملت مختلف أنحاء سورية، وقدم السوريون آلاف الشهداء وتصاعدت المقاومة وكثر الشهداء والجرحى، واستطاعت القوى الوطنية أن تحرر أغلب المحافظات والمدن والبلدان السورية، وعلى إثر ذلك اتخذ مجلس الأمن الدولي في 16 شباط عام 1946م قراراً بجلاء القوات الأجنبية عن سورية بأسرع وقت ممكن، ورحل آخر جندي مستعمر من محطة رياق في الخامس عشر من نيسان 1946.
وفي شهر تموز من عام 1945 استلم الجيش السوري الثكنات العسكرية بدمشق من قوات الانتداب الفرنسي. وهذه الثكنات اغلبها عثمانية، فقد انشأ العثمانيون أثناء احتلالهم لبلاد الشام العديد من الثكنات العسكرية بدمشق، وجعلوها مقرا لقواتهم، وكان العثمانيون يشيدون ثكناتهم داخل وخارج دمشق بحيث يمضي الجنود العثمانيون الشتاء في الثكنات الدمشقية والصيف خارج العاصمة السورية. ورفع على هذه الثكنات علم الثورة العربية بعد دخول الأمير فيصل بن الحسين والقوات البريطانية دمشق وخروج العثمانيين عام 1918م، ثم رفع عليها علم الانتداب الفرنسي بعد احتلال دمشق عام 1920م، وفي عام 1945 رفع على الثكنات بدمشق العلم الوطني. ومن أشهر الثكنات العسكرية آنذاك ثكنة الحميدية.
ثكنة الحميدية
عرفت بالثكنة الحميدية أو القشلة الحميدية، والقشلة كلمة محرفة عن التركية تعني (قِشلاق) ومعناها مأوى الجند أي المكان الذي يمكث فيه الجنود أو الحصن أو القلعة، وسميت الحميدية نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وهي أشهر الثكنات العسكرية العثمانية بدمشق وأكبرها ولم تزل قائمة حتى الآن ولكن أصابها ما أصابها من اعتداء الإنسان والزمان عليها، فقد تعرضت في السنوات الأخيرة لثلاثة حرائق حريقين عام 2004م وحريق عام 2003م وطبعا كان السبب في هذه الحرائق الماس الكهربائي. أنشئت هذه الثكنة زمن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1897م من قبل والي دمشق حسين ناظم باشا بعد أن تبين للعثمانيين أن الثكنات الموجودة بدمشق لا تتسع للعدد المتزايد من الجنود العثمانيين. وقد وضع الحجر الأساسي لبناء الثكنة فوق كمية كبيرة من النقود الفضية والذهبية المتداولة في ذلك الحين. شيدت هذه الثكنة في ارض ما كان يسمى محلة (المنيع) من الشرق الأدنى إلى الشمال من المرج الأخضر (مرج الحشيش) بطابق واحد ثم عمد بعد فترة إلى بناء طابقها الثاني. وبلغ عدد غرفها نحو 400 غرفة وتتسع لأكثر من خمسة آلاف جندي أما عدد نوافذها فيتراوح بين 1000 إلى 1500 نافذة، (على حين اشتهرت أن لها 999 نافذة) وفيها عشرة اصطبلات للخيول، ومستودعات ودار للبيطرة، وهي مبنية بالحجر واستعملت في بنائها أحجار كبيرة أحضرت من قلعة دمشق، وجاءت على طراز فن العمارة الأوروبية، وكان ينام فيها ويطعم أفراد الجيش الرابع العثماني، وتقول الدكتورة ماري دكران سركو عن الوالي حسين ناظم باشا وبنائه للثكنة: ( كما بنى الثكنة السلطانية العسكرية الحميدية التي تشغلها اليوم بعض كليات جامعة دمشق في البرامكة. ونقرأ في الأمر السلطاني ما يلي: «أن الثكنة العسكرية المراد بناؤها، المباشرة به، المجاور للقشلة الهمايونية المخصصة للمشاة بستان كبير وبساتين (جمال بك) بحق الشفعة به للجهة العسكرية ولوجود هذا وفيما يكون التصرف للجهة العسكرية يمكن النظر في ايجابية من عائدات الحرمين الشريفين للأجرة الواقعة.. ولا يسمح في هذه البساتين البيع للآخرين أو إقامة إنشاءات حتى تستكمل الأسباب) وفي أمر آخر، في العام التالي، يؤكد ذلك، إذ نقرأ في الأمر السلطاني ما يلي: «إن بناء الثكنة العسكرية للمشاة، والأراضي المجاورة لها من البستان الكبير وبساتين جمال بك، وحق شفعة للجهة العسكرية لا يسمح بإقامة بناء مجاور لها، إلا بعد إعلام الإنشاء إلى الجهات العسكرية.. علما بأن جميع البساتين المجاورة للثكنة العسكرية هي من الأراضي المرقومة، ولا يحق لأصحابها إقامة مبان عليها، إلا بعد إعلام الجهة العسكرية، قبل المباشرة بالبناء أو البيع، وتبليغ ذلك إلى مديرية الدفتر الخاقاني/ الطابو»).
استعملت لآخر مرة من الانتداب الفرنسي في الاعتداء على دمشق ومجلسها النيابي في 29 أيار من عام 1945م حيث كانت مقرا لحامية دمشق من القوات المغربية التابعة لما كان يسمى جيش الشرق الفرنسي وفي عام 1945 أطلق عليها اسم ثكنة الشهيد يوسف العظمة، لم يستمر حال الثكنة على ما هي علية طويلا، فقد تحولت إلى الجامعة السورية فنقلت إليها عام 1946م معاهد الجامعة السورية، ثم استقرت فيها كليات الحقوق والشريعة والعلوم… ومبنى كلية الحقوق اليوم يشغل القسم الأساسي منها.
يوم رفع العلم السوري
دخلت قوات الانتداب الفرنسي دمشق يوم 24 تموز من عام 1920م، وبعد خمسة وعشرين عاماً وفي اليوم نفسه رفع لأول مرة العلم السوري على الثكنات العسكرية بدمشق.
لقد كان يوم 24 تموز من عام 1945م يوماً مشهودا في تاريخ سورية، حين أقيمت الاحتفالات بدمشق لرفع العلم السوري أول مرة على الثكنات العسكرية، وكانت الحكومة السورية قد استلمت الثكنات العسكرية بدمشق يوم 22 تموز عام 1945م، وهنالك لوحة تذكارية تخلد ذلك موجودة (ولا اعرف إذا كانت موجودة إلى يومنا هذا) فوق مدخل كلية الحقوق بجامعة دمشق كتب عليها (ثأر وقعة ميسلون.. ذكرى دخول القوات السورية 22 تموز 1945).
وكان اكبر هذه الاحتفالات في الثكنة الحميدية، وقد وصفت الصحافة السورية الصادرة آنذاك هذه الاحتفالات الجماهيرية التي شارك فيها أبناء الشعب السوري وبكل أطيافهم، فتشير الصحف الدمشقية إلى أن احتفال الثكنة الحميدية كان مساء يوم 24 تموز وأقيم حفل كبير عسكري في الثكنة شارك فيه جمهور غفير من المواطنين إضافة إلى الوزراء والنواب والشخصيات الوطنية وذكرت اسم المستر ودوورث الوزير الأميركي المفوض (السفير الأميركي) من المشاركين في الاحتفال، وقالت: إنه في بداية الاحتفال تنهد الزعيم الوطني سعد اللـه الجابري والدمعة في عينية قائلا لمن حوله: (ها نحن نلتقي على ارض هذه الثكنة بعد ربع قرن كامل..) وسجلت الجرائد بعضا من أحاديث كبار المشاركين في هذا الاحتفال، فقالت: إن المستر ودوورث قال لوزير الخارجية والدفاع الوطني جميل مردم بك باللغة العربية: أنت الأول وأنت الآخر، ويعني بذلك أن وزير الدفاع شاهد مأساة ميسلون وشاهد رفع العلم السوري على الثكنة، وقال سعد اللـه الجابري لرئيس مجلس الوزراء فارس الخوري كان على مردم بك أن يمتطي جوادا بصفته وزيرا للدفاع ليستعرض القوات الوطنية، على حين لم يكن في برنامج الحفل أي كلمة لفارس الخوري ولكن سعد اللـه الجابري التفت إليه وقال أنت تاريخ القضية والواجب يدعوك للخطابة، فقام الخوري وألقى كلمة معبرة عن نضال الشعب السوري وتضحياته التي قدمها لنيل استقلاله، ومما قاله: (ما كنت احسب أننا نصل إلى أمانينا بهذه السرعة واذكر أنني لما كنت مع المغفور له الملك فيصل في الوزارة قبل ربع قرن كامل صادف أن احتفل الفرنسيون بعيد 14 تموز عيد الحرية الفرنسية ولكنهم بدلا من أن يعرفوا قيمة هذه الحرية للأمم الأخرى بعثوا بإنذارهم في ذلك اليوم إلى سورية طالبين إلينا أمورا شتى وهاجموا البلاد وجرت معركة ميسلون...) على حين أكد مردم بك في خطابه أثناء الاحتفال بقوله: (إذا أردنا أن ننزل هذا العلم فلن نرفع مكانه إلا علم الوحدة العربية) وسجلت الجرائد السورية لحظة رفع العلم السوري على الثكنة كيف كانت دموع الفرح تنهمر من عيون الوزراء والنواب وكل من في الثكنة الحميدية. فهل نعيد إحياء ذكرى رفع العلم السوري على الثكنة الحميدية؟
http://alwatan.sy/dindex.php?idn=121144
-------------------------------------------------------------------------------------------------