كيف ترى قيادتي؟!!
فلنفترض جدلاً أن هناك إحتمال ضئيل بوجود خمسة أشخاص (أو أقل، أو ربما أكثر بكثير) من غير المعجبين بقيادة جلالته، هل ممكن أن يكون لديهم أسباب لذلك؟
كتب: موسى الشقيري - عمان - -
لا تخلو مظاهرة أو إعتصام في جميع مناطق الأردن من “شعارات تتجاوز السقف”، عادةً ما يكون المقصود بها شعارات تستهدف جلالة الملك عبدلله بشكل مباشر وشخصي. وبدلاً من البحث عن الأسباب وراء هذا التطور في خطاب الشارع، لجأ النظام إلى الحل البسيط والساذج بإستخدام سياسة التخويف من خلال الإعتقالات، والتشويه بوضع هذه الشعارات في إطار “التطاول على الرموز والتجاوز والخروج عن الأعراف”، وكأن الانكار يكفي لإخفاء المظاهر التي دفعت الوعي الجمعي للوصول إلى جذر المشكلات ومصدرها، ومن ثم الوصول إلى الاستنتاج بأن الأردن يعاني من مرض أساسي مزمن تختلف أعراضه من حقبة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، فيضيع الوقت والجهد في التعامل مع الأعراض والتخفيف من حدتها، بدون الإنتباه إلى أصل المشكل. فهل هناك أسباب مقنعة لذلك، أم أن كل من يرفع شعارات تستهدف الملك مباشرة مندس وعميل وحاقد وناكر للجميل وحامل أجندة، وغيرها من أوصاف تتفنن أبواق النظام بإختراع بعضها واقتباس الآخر من أنظمة بائدة؟
قد يكون جلالة الملك فعلاً مثلما يقدم نفسه، انسان طيب القلب، خفيف الظل، ومتدين، يستمتع بمشاهدة مباريات برشلونة مع أولاده (في الملعب أحياناً) مثل اي أردني، متواضع، يحب زيارة الفقراء، وتبادل أطراف الحديث مع أبناء الشعب الأردني بكل فئاته على سدر منسف أو صحن فول، ولا يمكن يترك سيارة مبنشرة بدون مساعدة. هذا كله لايعني أحد ولا يعني شيء أمام مسؤولياته كقائد وحاكم يمارس السلطة (بشكل مباشر ومتفرد) ويتحتم عليه أن يتحمل مسؤولية السلطة التي يمارسها. فالقيادة هي مرادف للمسؤولية، وهروب القائد من تحمل المسؤولية (وإن لم يكن دستورياً فعلى الأقل أدبياً) بإدعاء الجهل أو التغييب أو تحميل المسؤولية لموظفيه أو لمرؤوسيه دليل على عدم القدرة على تحمل اعباء وواجبات المنصب. الضمانة والجامع والوتد والخيمة والعوامة والمرجع والسند والعباءة والحلقة والصمام ليست سوى استعارات فارغة تساعد كتاب مواضيع الإنشاء على مستوى الصف الخامس على ملء صفحات النشرات الحكومية اليومية. أما الحقيقة فهي أن هناك عوامل تجبر فئة من الأردنيين (تزداد عدداً بوضوح) على أن تبدي عدم رضاها عن نهج الحكم الحالي، للأسباب التالية:
تضخم نفقات العائلة المالكة وثروتها.
لا تتناسب نفقات الأسرة الحاكمة مع موارد وامكانات الدولة الأردنية. فبغض النظر بعض مظاهر هذه النفقات الواضحة مثل أماكن السكن والتنقل (يضم موكب جلالة الملك ما معدله سبع سيارات مرسيدس متماثلة من فئة الإس أو الجي يرافقه عدة مركبات للحراسة والدعم اللوجستي)، حتى مخصصات جلالة الملك الشخصية ونفقات الديوان الملكي الواردة في الموازنة تعتبر كبيرة ومستفزة في وقت يحتاج الجميع لضبط نفقاته لمواجهة عجز الموازنة. أما الاشاعات التي يتداولها الناس حول بذخ الإنفاق والفساد (فتتحول إلى يافطات تقود اصحابها إلى السجن) فسبب انتشارها الوحيد هو غياب المعلومات الموثقة حول ثروة العائلة. (فعلى سبيل المثال، قصة شراء طائرة الايربص A340-642x (التي تحمل رقم F-WJKG) التي تكلفت حوالي 250 مليون مر عليها سنتين أو أكثر، وتتضارب التقارير حول إذا كانت ما زالت مملوكة للحكومة الأردنية أساساً حيث شوهدت مؤخراً في دبلن حيث تم اعادة طلائها بالابيض الكامل). على العموم، الطائرات وغيرها من أملاك الأسرة الحاكمة في الأردن وخارجها يجب أن تخضع لقانون يكشفها ويوثقها، خوفاً من ضياعها وحتى لا تبقى حجة لمعارضي النظام للإساءة لهيبة العرش من خلال الإشاعات حول بذخ الإنفاق وملكية الفوسفات وغيرها.
تدمير منجزات الديمقراطية الأردنية بالقضاء على المؤسسة البرلمانية وتفريغها من محتواها.
تعتبر فترة حكم الملك عبدلله الثاني منذ 2001 حتى اليوم بمثابة إنقلاب القصر الثاني على الديمقراطية الأردنية. وإذا كان الملك الإبن لم يلجأ إلى الأسلوب المباشر للأب بإقالة الحكومة البرلمانية الشرعية وحل البرلمان وفرض الأحكام العرفية، فإن التدمير الممنهج للعملية بأكملها كان أكثر خطورة نظراً للاثار التي تركها وسيتركها على المدى الطويل. في السنوات العشرة الأخيرة تم حل البرلمان وتغييبه لمدة سنتين ومن ثم تزوير الإنتخابات لثلاث دورات متتالية، بإعتراف أجهزة الدولة ذاتها. فبدلاً من أن تجهد القيادة الحكيمة من أجل البناء على المنجز الديمقراطي الأردني الذي كان سباقاً لكل دول المنطقة، وتطوير قوانين الإنتخاب وإعطاء البرلمان دوره الدستوري، ودفع المواطن للإنخراط في العملية الإنتخابية من خلال احساسه بجدواها (وليس من خلال يافطات رخيصة بشعارات أرخص)، عملت القيادة على إفساد الحياة السياسة وتجريد البرلمان من اي صلاحية وجعلته غير قادر على ممارسة مهامه (بغض النظر إذا حصل تغيير لأسماء من يجلسون تحت قبته، إذا تغيروا) فتحولت المؤسسة التي من المفترض أن تحمل النظام النيابي الملكي دستورياً موضوع تندر وسخرية.
(أما موضوع تعرية رؤوساء الوزراء وحكوماتهم أمام الناس كفزاعة لصاحب القرار من خلال التغيير المستمر وتجاوز قرارتهم وإحراجهم، فهو ليس أكثر من أن القيادة “بتأسفن حالها بحالها”، فدور رئيس الوزراء كمتلقي الصدمات لم يتغير تاريخياً، وربما كانت حكومة سمير الرفاعي الإبن آخر حكومة قادرة على تمرير هذه الخدعة، ولكن سوء الإدارة حرق هذا الدور للسلطة التنفيذية.)
تراجع الأردن على مختلف الأصعدة الأخرى في العشر سنوات الأخيرة، وندرة الإنجازات.
من الصعب توضيح هذه النقطة بدون التخلي عن نظرة التفاؤل الايجابية والإضطرار إلى تعداد بعض الأمثلة على المظاهر السلبية في المجتمع الأردني: إنخفاض في مستوى المعيشة، إزدياد الفجوات بين الطبقات الإجتماعية وظهور للثراء الفاحش غير المرتبط بالمشاريع، إزدياد المديونية وعجز الموازنة. إنتشار الفساد الممنهج على مستوى مدير المخابرات وطالع وخلق شعور بإن الفساد ممنهج ويتمتع برعاية رسمية على أعلى مستوى. تراجع هيبة الدولة، تراجع هيبة الجيش (والزج به في مشاريع تجارية)، وشعور النظام بالحاجة لإنشاء جهاز أمني متخصص بالقمع. تراجع دور الأردن الإقليمي وأنحسار دوره إلى مهمات مدفوعات الأجر. تراجع في السلم الأهلي. تراجع في مستوى التعليم ووأد التعليم الجامعي. إنتشار الإحباط حتى في أوساط أكبر المتفائلين والزيادة المستمرة في أعداد الأردنيين من شتى فئات المجتمع ممن يحلمون بالهجرة إلى أي مكان في الأرض بحثاً عن حياة أفضل. غير هيك الأمور الثانية كلها تمام بفضل رؤية وحكمة القيادة
أما جميع المشاريع الضخمة التي جاءت تجسيداً لرؤية جلالته وبتعليمات مباشرة منه، فقد فشلت جميعاً بلا إستثناء: من برنامج التحول الإقتصادي، إلى المناطق الإقتصادية الخاصة والعقبة والعبدلي وصندوق إستثمار القوات المسلحة وسكن كريم لعيش كريم وغيرها من مشاريع تظهر أيضاً على يافطات المظاهرات. كلها فشلت لسوء الإدارة وفساد أشخاص وضيق أفق من يقومون على ترجمة الرؤية الملكية، والحقيقة أن هناك عامل مشترك أكبر وحيد يجمع بين كل هذه المشاريع.
الضعف في إختيار المستشارين والمنفذين والشركاء.
تنتشر اليوم ظاهرة لوم (البطانة) التي تحيط بجلالة الملك على ما وصلت إليه الأوضاع من تردي، وفي الواقع فإن مسؤولية إختيار هذه البطانة والمسؤولية عن تصرفاتها هي في صلب واجبات القائد. وذا كان هناك بعض المعايير والإعتبارات التي قد تفرض عليه إختيار بعض أشخاص دون آخرين إلى فلا يعني ذلك لوم الموظفين في الحكومة الموازية (الديوان) أو كبار الموظفين ممن اختارهم (بعد أن أصبح لوم الحكومة (الصورية) مستحيلاً) يعفيه من المسؤولية. بالمحصلة، يشبه دبلوماسي عراقي عمل مع عبدالكريم قاسم الزعيم الأوحد وبطانته بالعربة التي يجرها حصان إلى أسفل منحدر، فتصل إلى مرحلة لا يمكن تحديد إذا كان الحصان يجر العربة، أم العربة تدفع الحصان، لكن الواضح أن كلاهما يتسارع نحو الهاوية. العبرة أنه لا يجوز لقائد أن يكون إسمه مرتبط من قريب أو بعيد برجال أعمال من أصحاب السمعة السيئة أو محتالين دوليين فارين من وجه العدالة.
العلاقة التاريخية مع الكيان الصهيوني.
يعتبر الكثير من الأردنيين الصراع العربي الصهيوني قضيتهم المحورية، وهناك فئة تعتبر أن الشرعية التاريخية للهاشميين تأتي من مشروعهم القومي والحفاظ على الأرض العربية، كما أن الهاشميين أنفسهم يعتبرون القدس مركزاً لشرعيتهم الدينية. كشف التاريخ بوضوح لا شك فيه عن علاقات تفاهم وتماهي تاريخية بين الهاشميين ومشروع الدولة الصهيونية، وهذه العلاقة السرية (ولاحقاً العلنية) تولد شعور للعديد من الأردنيين بأن هذه القيادة لا تمثل تطلعاتهم ولاتهدف على تحقيق غايتهم في إستعادة كافة الأراضي المحتلة وأراضي فلسطين كاملة. واذا كان الملك عبدالله الثاني قد جاء إلى الحكم ضمن هذه الظروف وبعد توقيع معاهدة رسمية مع الصهاينة، فإنه لم يبذل أي جهد على الصعيد الاستراتيجي لتغيير طبيعة العلاقة مع الصهاينة بجعلها أكثر “ندية” (على الأقل ليساهم بالضغط على الصهاينة من أجل مواطنيه المتمسكين بحقهم في العودة أو إستعادة الضفة الغربية للمملكة) أو تصويب الإختلالات فيها لما فيه مصلحة البلد التي يقود، وذهب لإعتبار وادي عربة حلاً نهائياً يسمح له بإقامة علاقات طبيعية مع الصهاينة وقياداتهم. (ملاحظة: بعد تردد كبير خوفاً من تحويل مجرى النقاش بإتجاه آخر تذكرت هذه الصورة، فلم استطيع إلا أن اعتبر “النشوة” الواضحة فيها سبب أساسي من أسباب عدم اعجابي بالقيادة).
العديد من المظاهر تشير إلى حكم شمولي من الطراز الذي عفا عنه الزمن.
وجود جهاز يتدخل في حياة الناس يسمى المخابرات يشارك في الحكم ويعتمد عليه الملك. وجود تهم فارغة المضمون مثل إطالة اللسان وتقويض نظام الحكم تستخدم لإعتقالات عشوائية ظالمة. إعلام سخيف لا يحترم عقل المتلقي، لغته من العصور الوسطى وصوره محصورة بحجة تحضن وجه القائد، وعجوز يتحدث أمامه بينما يصغي بإهتمام، وأفلام زيارات مفاجئة وعفوية مكررة حتى الضجر. (من ذاكرة السمكة: خطاب الملك أمام الكونجرس عام 2007 إستغرق 25 دقيقة، وتبعه ثلاث اسابيع من التغطية المستمرة في الإعلام الرسمي للخطاب التاريخي وتم طبعه في كتاب لتدريسه في الجامعات، وتبين (كما كان متوقعاً) أنه مجرد كلام مكرر بلا نتائج). صور القائد محاطاً بالأب والإبن في كل مكان، وتقديمه على إنه شخصية خارقة للعادة تحمل تذكير دائم بطبيعة هذا الحكم، فكل هذه المظاهر وغيرها من منظور واسع تذكير دائم لأردنيين بأن النظام يصر على تقديم نفسه كنظام من أنظمة العالم الثالث التعبانة الأيلة للسقوط.
الجمود وعدم القدرة على التفاعل مع رغبات الشعب ومواكبتها.
يظهر في بعض القرارت برود وعدم مبالاة وبطء لا بل حتى لمحات من المناكفة (حكومة البخيت الثانية وحكومة الطراونة). لم يكن جلالة الملك يوماً من المرشحين لخلافة والده وحتى الساعات الأخيرة، وبالتالي لم يتم اعداده لتسلم القيادة. بالمقابل لا يظهر أنه كان واع لهذه الحقيقة فلم يبذل الجهد الكافي لتطوير مهارته القيادية بما يتناسب مع منصبه. فمثلاً يعيب الكثير من غير المعجبين بجلالته عليه ضعف لغته العربية، وهي لا تعدو كونها مؤشراً على أن جلاته لم يهتم كثيراً بحرفته ولم يستثمر من وقته لتطوير هذه المهارات الإنطباعية المهمة وغيرها من المهارات الأساسية التي تترك إعجاباً أكبر بكثير من الصور المكررة المذكورة أعلاه.
لا يوجد شعور أجمل من أن تسير خلف قائد تثق به، فتقدم على مواجهة التحديات براحة وإطمئنان، مؤمناً بقدرته على إتخاذ القرارت الصائبة وتحمل مسؤليتها. وإذا كنت تستغرب وجود مجموعة من الأردنيين (ربما تكون أقلية، وربما تكون أكثر بكثير مما تتخيل) اهتزت ثقتها بالقيادة، فربما تساعدك هذه الأسباب على أن تدرك أن الموضوع ليس سوى تقييم لقرارات وسياسات والأهم لنتائج حقيقية وملموسة لحقبة من الحكم ، بكل محبة وروح رياضية.
فكر مجموعة من الرفاق العام الماضي بإضافة “كيف ترى قيادتي؟” تحت صور جلالة الملك العملاقة المنتشرة في كل زاوية كمشروع فني، ولايملك البعض إلا أن يلاحظ أن كل المؤشرات تدل انها للأسف “مش بزيادة”.