شكل الصعود الدراماتيكي للإخوان المسلمين في الشرق الأوسط في أعقاب إندلاع ثورات الربيع العربي كابوساً غير مسبوق للولايات المتحدة... فالتهديد الذي تشعر به أمريكا من هذا التيار الفكري والسياسي ليس نابعاً من عقيدته بحد ذاتها بل من الاتساع السريع لرقعة نفوذه، وإمكانية إنتشاره إلى قلب إمبراطوريتها النفطية في الخليج العربي في حال إستقراره في بلدان الربيع العربي وتحقيقه تقدماً فيها. فالولايات المتحدة قادرة على إستيعاب الإخوان المسلمين ضمن إمبراطوريتها في حال تواجدوا في دولة واحدة أو مناطق معزولة ، كما كان الحال في تركيا قبل ثورات الربيع العربي ، حيث حكم حزب العدالة والتنمية القريب فكريا وعقائدياً من الإخوان المسلمين بإنسجام مع مصالح الأميركيين وقاعدتهم إسرائيل وشركائهم الأوروبيين في الشرق الأوسط .. ولكن الحال تغير بعد ثورات الربيع العربي ، فوجود قوىً سياسية متجانسة فكرياً على إمتداد جغرافي شاسع ومتواصل يمتد من تونس إلى تركيا وملاصق لمناطق إنتاج النفط الرئيسية في العالم في بلدان الخليج العربي يشكل تهديداً جدياً للإمبراطورية الأميركية القائمة في هذه المنطقة..وعندها يصبح من البديهي أن هذه القوى السياسية الصاعدة المتقاربة عقائدياً ستتعاون في المستقبل ، ويمكن ببساطة تصور ما يعنيه تكتل دول عربية يضم تونس واليمن وليبيا بثرواتها النفطية الضخمة ومصر بثقلها البشري والثقافي وسوريا المكون الرئيسي لبلاد الشام التي فتتها المستعمرون الغربيون وزرعوا إسرائيل على جزء منها. فمن جهة سيجتذب هذا التكتل باقي الشعوب العربية، ومن جهة أخرى سيحاصر القاعدة الأميركية المتقدمة في المنطقة والتي هي إسرائيل..وإذا انضمت تركيا، والتي تشهد نهوضاً إقتصادياً كبيراً مع ما يرافق ذلك من إتساع رقعة نفوذها إقليمياً وعالمياً ، إلى هذا المشهد سوف يؤدي ذلك إلى تغير جذري في موازين القوى والخارطة السياسية والاقتصادية للشرق الأوسط .
فبعد وصول الأخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وتونس وتعاظم نفوذهم في ليبيا والثورة السورية، أظهرت الولايات المتحدة إستعدادها للتعاون معهم ، لكنها كانت تبيت النية على إزاحتهم من واجهة الأحداث في الشرق الأوسط.... وقد تفرغ أوباما لهذه المهمة تماماً بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الثانية في بلاده.. وقد عمد أوباما بسبب إضمحلال الهيمنة الأميركية في العالم وتراجعها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بالإضافة إلى إتساع نطاق الثورات العربية ، إلى إستبعاد إستخدام القوة العسكرية المباشرة كما فعل سلفه بوش، بل عمد على اللجوء إلى سياسات غير معلنة ومناورات معقدة تظهره بمظهر خادع من التردد وإنعدام الحيلة.. ويمكن وصف هذه السياسات بعبارة بروز دور المخابرات الأميركية على حساب تراجع دور الجيش الأميركي.. فأميركا تتحالف مع القوى المحلية المرتبطة بها وتوكل إليها مهمة ترميم وتطوير وسائل الدفاع عن إمبراطوريتها في منطقتنا.. وتتشكل هذه القوى من فلول الأنظمة التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي وكل منظومات الفساد التي ترعرعت في ظلها، والأنظمة العربية التابعة (الصديقة) لأميركا كالنظام السعودي والأردني والعراقي، والجيوش المرتبطة بها كالجيش المصري، بالإضافة إلى قاعدتها إسرائيل.. وتستغل أميركا التناقضات المحلية لخدمة سياساتها كما تفعل عندما تغض الطرف عن محاولة إيران وحزب الله إجهاض الثورة السورية لتكشف أن عداءها لهما أقل بكثير من مخاوفها من ثورات الربيع العربي.. فلم يكن من الصدفة تزامن هذه الأحداث: إندلاع الاضطرابات في تركيا أو ما يسمى بأزمة ساحة تقسيم ، مع تحجيم نفوذ الأخوان المسلمين داخل الائتلاف الذي يقود الثورة السورية وتسليم ملف الثورة السورية إلى المخابرات السعودية لتديره ، وصولا" إلى إنقلاب السيسي في مصر وصمت أمريكا وأوروبا عنه مع إستمرار المساعدات الأميركية للجيش المصري وتدفق مساعدات ضخمة إضافية على الإنقلابيين من السعودية والإمارات والكويت بإيعاز من أمريكا، وأيضا"الأغتيالات التي تطال معارضين للإخوان المسلمين في ليبيا وتونس لإثارة القلاقل فيهما ومحاولة خلق أجواء شبيهة بما حدث في مصر تمهيداً لسيناريوهات مشابهة للسيناريو المصري في هذين البلدين..
ففي عالمنا اليوم هناك دولة واحدة فقط ما زال لديها النفوذ والقدرة على التأثير في مجريات الأمور في كل هذه البلدان مجتمعة ألا وهي الولايات المتحدة.. فبعد إعداد مضن وطويل بدأت أمريكا هجومها المضاد على ثورات الربيع العربي مستغلة الصعوبات التي ترافق هذه الثورات والأخطاء التي تقع بها قياداتها .