[SIZE=2]
عن نانسي عجرم وهمبرت همبرت ونحن الواقفين بينهما
حازم صاغيّة الحياة - 18/10/05//
بوفاضٍ خالٍ يعود المنقّب في موقع نانسي عجرم على الشبكة، والقارئ المدقق في أخبارها وفي المقابلات التي أجرتها معها الصحافة الفنية. فالمعلومات عنها أو المعرفة بها تبقى شحيحة لا تنوف كثيراً عمّا يستجمعه المنصت الى أقاويل «العارفين»، لا سيما «العارفات»، ومن أحاديث «الصالونات» وهي تمضي على رسلها. وهذا، في أغلب الظن، ليس مردّه الى فراغ ينخر حياة نانسي وراء الواجهة الصاخبة، بل الى تكتّم وظيفي ما. ذاك ان ابنة الاشرفية التي أرادت لنفسها، او أريد لها، صورة الفتاة المشدودة الى مراهقة بنوية ملتبسة، تقف نقيضاً لـ «المعلومات» و «المعرفة» و «الدقة».
نانسي عجرم. فهي، كأية «كوكيت»، تحل في القلب انطلاقاً من الخطأ الذي تقول، أو ترتكب، فتبدو بسببه «مهضومة»، وليس من الصواب الذي ينوء عليها بثقل الظل والوطأة. والحال ان الفتاة التي أرادت لنفسها، أو أريد لها، المكث بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، وهي السن المثلى في حالة نانسي، يصح فيها ما قالته العرب قديماً في الشعر عندما جعلت أعذبه أكذبه.
وهي مفارقة تكتمل بها مفارقة المغنية، التي هي في اوائل عشريناتها، مع عمرها الفعلي. ففي القليل الذي يمكن جمعه عنها، تملك الطفولة والطفلي حضوراً صارخاً: فنانسي بعدما تعلمت الغناء على جدتها، شاركت في برنامج للصغار على قناة «آل بي سي»، ثم شاركت في «نجوم المستقبل» وهو، بدوره، برنامج للهواة بثته قناة «المستقبل». وفي حضورها أمام الصحافة، وفي استشهادات مقابلاتها، يرافقها أوصياء ومُربّون، كمدير أعمالها جيجي لامارا ومخرجتها اللامعة نادين لبكي. فهؤلاء يُقدَّمون دائماً بوصفهم من علّمها أو نصحها، يشاركهم احياناً الوالد أو مدرب الرقص سامي خوري. وهي تزور الأطفال في المدن التي تقصدها، وقد تزورهم في مستشفياتهم، حاملة اليهم هدايا، كما تتبرع، حسب ما يتردد، بريع حفلات تحييها لمستشفيات أطفال. وعندما تُسأل نانسي عن عمل ما، أو سلوك ما، تلوذ بدفاعية الخوف من ملامة الكبار، فترد مثلاً: «كما علّموني فعلت». وإذ تكثر البديهيات في عباراتها، فتعلن عن رغبتها في ان تكون «سفيرة للنوايا الحسنة»، ينضوي معظم بديهياتها في الصنف الذي يردده التلامذة عشية امتحاناتهم: «على كل واحد منا ان يتعب حتى ينجح (...) وإذا لم يتعب ونال مراده فلن يستمر في النجاح». ثم ان أغانيها تستهوي الصغار ايضاً، تعينها في ذلك جمل قصيرة وألحان سهلة راقصة الإيقاع وأفلام متقنة، حتى ان المجلات الفنية تستخدم تعبير «جمهورها من الصغار». وقد «كشفت نانسي - على ذمة احدى تلك المجلات - عن انها تعتمد على أطفال عائلتها الصغار لتعرف تفاعلهم مع الاغنيات التي تختارها. فإذا أعجبتهم تعتمدها وإذا لم يتفاعلوا معها تصرف النظر عنها». وهي، فوق هذا، تحب الاستماع الى نجاة الصغيرة، وتغني «يا واد يا تقيل» لسعاد حسني، متماهية مع العتاد الخفيف للأغنية العربية الحديثة، نائيةً بنفسها عن القصف المدفعي المركّز لأم كلثوم او وردة الجزائرية. حتى في كليبها «انت إيه؟»، نراها لا تسلك سلوك المرأة التي تغيظها خيانة زوجها لها مع صديقة مقربة منها، مكتفية بأن تحرد وحدها، مثل البنات، وتنسحب الى بيت الخلاء حيث تبكي.
ويثبّت نانسي عجرم في سن سابقة وجهها النضر وحركاته المشوبة بحد أدنى من الغرائبي. فهو قد يستشير في رجال أربعينيين وخمسينيين رغبة في قَرْص خديها وجذب وجهها قليلاً الى أمام والى وراء، على النحو الذي يلهو الأب فيه مع ابنته الصغرى حين تأتي عملاً «مهضوماً» أو غير متوقع. لكن نانسي التي أجرت، مثل معظم زميلاتها، عملية تجميل لوجهها، توخت بث رسالة أشد تعقيداً، مفادها ان ثمة شيئاً آخر يقف في جوار الإبنة «الطيّوبة». وبالرجوع الى صورة لها سبقت التجميل، والى صور ذائعة تلته، تكتمل ملامح التناقض الذي سعت المطربة الشابة الى ان تحمله في هيئتها، وتالياً، وبموجب «زمن الصورة»، في معناها.
فالوجه السابق ينم عن شيء من المريمية يلامسها تذكير طفيف بأعمال «أخوية ما قبل الرفايليين» - تلك المدرسة التي عرفتها انكلترا، أواسط القرن التاسع عشر، واختار روّادها الرجوع الى رسم أشد انقباضاً وتيبّساً، قليل الظلال والتفاصيل، يُظهر الوجوه غير المتوازنة بواقعية صرفة وأمانة للطبيعي عافهما سيد عصر النهضة رافايل.
وما من شك في ان التعديل التجميلي ينطوي على بُعد حسي ليس كسر المريمية السابقة إلا أوله ومستهلّه. غير ان الأمر يتراءى على قدر من التركيب المتعمّد بطبيعة الحال: فمن جهة، لم تقلّص نانسي خديها، المتروكين لقَرْص الأب المفترض، على ما فعلت زميلاتها الأخريات في حرصهن على اكتساب شكل غربي بسيط وضعيف المخيلة. لكنها، من جهة أخرى، غلّظت شفتيها وقدمتهما قليلاً الى الأمام. وربما قيل، بحق، ان الشفاه، في حالة نانسي، لا تؤدي الوظيفة الصريحة والمتوقعة، لشفاه جون كولينز، أو آن بانكروفت في فيلم «المتخرج» الشهير، أو إيزابيل أجياني. فنانسي، بالاكتناز النسبي الذي أبقته لوجهها، تُطفّل جنسية الشفتين وتسكّن حدة الاغراء فيهما. وهي غالباً ما ترسل من ورائهما بسمة تخون الاغراء المألوف والمطنطن كما قد تمارسه نجمة كبرى، أو سيدة «محترمة» قررت أن تجافي الاحترام قليلاً. وحتى حين تتقاطع الشفاه والوظائف مع شفاه بريجيت باردو ووظائفها، في «وخلق الله المرأة» أو «الاحتقار»، يبقى وجه نانسي على شيء من الخفّة يفوق خفة وجه الساحرة الفرنسية. فثغرها كثيراً ما يبدو كأنه يطلب «السوسيت» تشاركه العينان الحاحاً مصراً في طلبها. لكن من يعرف اغنية سيرج غاينسبورغ التي غنتها فرانس غال «آني تحب السوسيت»، يدرك سر هذا المذهب في الإغراء الشفاهي، وهو ذو موقع هامشي، إذا صح التعبير، قياساً بالأيقونية الشفاهية. إلا انها لئن حاولت بنظرتها الإيحاء بـ «مَلْعَنة» تخفف أيقونية الإثارة أقنعتنا، في الوقت عينه، بأنها تفتعل إيحاءها افتعالاً، رافعةً وتيرة الحسية الهامشية تلك. فهي شخص يتلبّسه الشيطان أكثر مما يتلبّس الاستعراض الكلاسيكي وصاحباته. وانما للسبب هذا تفقد معها الباروديا، بوصفها محاكاة ساخرة، للجنسي في هذه الحال، وظيفتها لتغدو، هي نفسها، مثيرة بطريقتها. ومعانٍ كهذه لا تستوي كما تفعل في أغنية «أخاصمك ليه؟» حيث يمتص الصوتُ «البريء» حدة السؤال الذي يستدعي وإطاره الموسيقي المتصاعد فضلاً عن «الفتاة المتحررة» كما ينقلها الكليب، بينما يعمل الحسي على خفض درجة البراءة في الصوت «البريء». وهو ما يعادل «الغنج» في السلوك حيث يتحول الغانج (الغانجة) بنفسه عن نفسه الطبيعية، مدركاً انه يغنج إدراكه ان المتلقّي يدرك الشيء نفسه. بيد ان من يتلقى الغنج لا يلبث ان يتعاطى معه بوصفه طبيعة ثانية مسلّماً بها على انها كذلك.
تتوازى العلامات هذه مع المزج المتناقض بين الإنكاص في العمر والتغيير في الوجه، اي بين السير الى الماضي، الفعلي الى هذا الحد أو ذاك، والسير باتجاه التماهي مع آخر مُتوهّم هو الغربي تارةً والحسي المثير طوراً. ولئن كان هذا، بدوره، من نتائج الخلط «الشيطاني» الذي تمارسه الصورة فتتجرأ به على الطبيعي والمعطى، بقي ان الطفلة التي يستنطقها «استرجاع» الماضي لا تعود طفلة تماماً، كما ان الوجه، الآخر، الذي يراد له ان يأتي صارخاً في حسيّته، لا يبقى كذلك. وهو جميعاً ما يرسو التباسه على التباس أعرض، مصدره صورة الفتاة التي تطأ المراهقة وتحولاتها فتتوزع بين كونها بنتاً وكونها امرأة. وهذه المنفصمة الموزّعة التي أسماها العرب «حوراء» و «حورية»، معادلاً لتعبير nymphet الانكليزي، ضائعة الهوية، متداخلتها، تنبئ باضطراب عظيم قد يفوق ما تُحدثه الغلامية أو المثلي من اضطراب. بيد ان المراحل العمرية المتداخلة، ما كانت لتؤسس التباس الحورية لولا اقترانها بتجاوُر وظيفي مدهش: فهي «طاهرة» حتى «هذه اللحظة»، لكنْ سريعاً، بعد «تلك اللحظة»، ينشب الحريق ويندلع منها، هي نفسها «الطاهرة»، الشيطاني.
ففي الحورية تتساوى وتتمازج الفتنة، بوصفها جمالاً، والفتنة، بوصفها فوضى عارمة واحتراباً. وقد مالت الميثولوجيا الى تصويرها كأنها لا تفد إلا من البحر: ذاك ان الصدور عن ذاك الغموض الأزرق اللامتناهي يتمم غربة الحوريات ويحمينا، نحن، من «اصطيادهن». فنحن نصطاد من البحر اذ نذهب اليه، لكن ما يأتينا طالعاً منه قد يتهددنا بالاصطياد. فالحوريات، والحال هذه، «جنس» قائم بذاته، أو شعب حدودي يستقل عن الشعوب التي يحدّها. فحين يقدم شاب على تغيير نفسه كيما يشبه نانسي عجرم، يكون أقدم على ما هو أكثر من تغيير جنسي بسيط، طامعاً الى تغيير مضاعف ومضاعفةٌ وعوده واحتمالاته. وإذ تغني نانسي، وتمثل مستحضرة هند رستم وزبيدة ثروت، «يا ابني اسمعني»، لا تلبث ان تضيف «ما تدلعني»، وهو تغيير في دلالات الكلام يقتصر على القول الهامشي وأصحابه («بس يا إبني بلاش تتعبني» - سعاد حسني في «يا واد يا تقيل»). وهي مناشدة لا يتوقعها «عاقل» ممن ابتدأ المناشدة بـ «يا ابني». فوديع الصافي، مثلاُ، كان قد أكثر الاستهلال بها على نحو «قويم»، إما لمطالبة نجله بالزواج من «بنت ضيعتنا»، أو لحضّه على السهر لحراسة الوطن! أما الذين يعرفون السينما المصرية في الستينات، والتي رغبت نانسي في استدعائها، فيذكرون ان هند رستم لم تكن تتفوّه بـ «يا ابني» إلا بعد انكسار كالذي آلت اليه «شفيقة القبطية»، فيما يلتصق النداء المذكور، التصاق الخبر بمبتدئه، بأمينة رزق المسنّة وقد صفّت حسابها مع دنيا فانية.
وكسرٌ كهذا للأشكال والدلالات، للمراتب والحدود، أقرب الى الشعر الأعذب والأكذب، وربما الى الانسحار الذي هو أقرب الى فرصة «العاقل» إذ يبحث، خارج الأديان، عن متع روحية» عابرة. لكن الذين يصابون بمسّ الشعر والانسحار في متن حياتهم هم من يتجه النقد اليهم أو تتعاورهم يد التحليل كما تعاورت همبرت همبرت، بطل رواية فلاديمير نابوكوف الشهيرة. فصاحب العمر المتوسط، المولع بالصغيرات، كان أسير ماضٍ غير مُوعىً هو الذي قاده الى لوليتا مذ رآها تتشمّس في الحديقة. وقد تشكل الماضي هذا من العلاقة بالصديقة الأولى انابيل لي، ومن وفاة الوالدة وابتعاد الوالد، فجاءت قصته مصداقاً للرواية الفرويدية عن الغرام بصفته استئنافاً لغرام سابق، وعن العثور على موضوع بوصفه اعادة عثور. ولم ينجُ نابوكوف نفسه من النبش في حطام تاريخه، هو الاريستوقراطي الروسي المولود لأب تزعم حزب «الكاديت» الليبرالي أواخر العهد القيصري، والفاقد بلده بعد ثورة 1917 وقبل اغتيال أبيه في المانيا.
لكن أحداً، ما خلا همبرت نفسه، وهو الصوت الذي يسرد الرواية، لم يتهم لوليتا بأنها السبب الأصلي للبيدوفيليا. ونحن ربما كنا، شعوباً وجماعات، مثل همبرت، مصابين بانسحار يجعل نانسي عجرم وزميلاتها يحتكرن التعبير عن العشق والغرام وكيفياتهما، مثلما يجعل «قناة الجزيرة» تحتكر التعبير عن السياسة ومواقفها. إلا ان القلق الذي يرتبه انسحار الجماعات بهن يواكبه قلق أكبر من هجوم المثقفين عليهن وعلى «زمن العولمة الرديء» وأدوات اتصالها وانحطاطها. وهو «نقد»، من غير ان يشير ان أعراضنا الأعمق، لا يبدي المناعة المتوقعة حيال شاشات التلفزيون (العولمية) حيث تتعرض «أنا» النقّاد لتدليك متواصل.
أما هي، فربما رطّبت حلقها بجرعة كوكا كولا التي ترعى حفلاتها وترتبط معها بعقد اعلاني. ذاك ان ما يشغل نانسي، على ما روت في احدى مقابلاتها، ان تقف أمام المرآة وتمثل كليباتها. فعندما تقع عينها على نفسها تقول «يسلملي» وتضحك...