صليت حائضاً!
د. إلهام مانع
لازلت أذكر يوم قررت أن أصلى رغم كوني حائض. أذكره بوضوح رغم خوفي، وأتلمس ملامحه بشغف رغم ارتعاشي.
كم كرهت كلمة حائض. كأنها وصمة لُصقت بجبين كل امرأة، عليها أن تخجل منها، أن تعاف منها، وأن تتوارى عن الأنظار بسببها.
وكرهتها أكثر بسبب دروس الدين التي تلاحقت على عقلي، تغسله، وتجبره على قبول أني عندما أنزف دماً في دورة طبيعية من الشهر أكون نجسة أولاً، وأقل - لا بل أدنى - من المرأة غير الحائض ثانياً، ناهيك عن أني أدنى في كل الأحوال من الرجل ثالثاً.
قيل لي، أو بالأحرى قالت لي مدرساتي ممن أفلتن وأزواجهن من ملاحقة السلطات المصرية في فترة السبعينات والثمانينات، وحططن على قلوب دول عربية كثيرة، قلن لي إني كحائض لا يجوز لي أن ألمس القرآن لأني غير طاهرة، والقرآن لا يلمسه إلا المطهرون.
ثم زدن بأن قلن إني كحائض لا يجوز لي أن أصلي أمام الله، يكفي لمن كان في مثل حالي الدعاء، وعلي أن انتظر حتى تزول النجاسة عن جسدي، وأكون صالحة للوقوف أمامه عز وجل.
قلن ذلك وكدت أصدقهن.
كدت!
لولا أني وجدت أنهن ينفرن من أسئلتي ويهربن منها، و اكتشفت بمحض الصدفة أن إلحاحي في العثور على جواب يشفي غلي، جعلهن يفقدن أعصابهن. وهل أنسى يوم نهرتني أستاذة الدين عندما أصررتُ على التساؤل "كيف يمكن لمن ترك الصلاة أن يكون كافراً حتى لو قال إنه يؤمن بالله"، نهرتني وقالت:"اخرسي يا بنت".
هكذا.
"اخرسي يا بنت".
وعندما قالت ذلك أدركت أنها لا تحوز فعلاً على أجوبة على أسئلتي.
عندها، وكنت في السابعة عشرة من العمر، قررت قراراً كان كفيلاً بإحالتي إلى محاكم التفتيش السائدة اليوم. قلت لنفسي: "جربي بنفسك، وأعملي عقلك، وأنت قادرة على التمييز بين الغث والسليم".
يومها قررت أن أصلي أمام الله وأنا حائض، وفعلت ذلك بعيداً عن الوطن. كنت خلال هذه الفترة في إجازة قضيتها عند خالتي، التي كان زوجها آنذاك سفيراً لليمن في سوريا.
وأذكر جيداً كيف كنت أرتعش وأنا أتوضأ، وكيف تحولت إلى غرفة منعزلة، وفرشت سجادة الصلاة وأنا أتنفس بعمق، ووقفت ثم كبِّرت، ثم ويا للغرابة شعرت بطمأنينة تنساب في أرجاء روحي.
هل تعديت على قانون إلهي؟
هل خرقت قانوناً طبيعياً؟
ثم هل أهنت الله سبحانه وتعالى بتصرفي هذا؟
سألت نفسي لحظتها ـ وتساءلت أيضاً ما المانع فعلاً من صلاتي وأنا حائض؟
أطرح عليكم هذا السؤال أيضاً؟
ما المانع فعلاً؟
الحيض كان دائماً يثير الخوف منذ القدم.
كان أمرا غير مفهوماً.
فيه دم، وفيه خصوبة، وامرأة قادرة على منح الحياة.
ولأن الدوائر الثلاث تلك تتعلق حتماً بالجنس، اختارت الشعوب والديانات التعامل معه بتجاهله ونبذه.
الهنود الحمر كانوا يرسلون نسائهم إلى خيام منعزلة ليقضين فيها فترة الحيض.
تماماً كما أن الديانتين اليهودية الأرثوذكسية والهندوسية لا تسمحان للمرأة بالطبخ خلال فترة حيضها كي لا تدنس الطعام الذي سيؤكل.
ونحن... نحن نقول إن المرأة الحائض لا يحق لها الصلاة أو لمس القرآن.
سيقول البعض لم لا تعممي القاعدة وتطالبي أيضاً بعدم الإفطار في الصيام.
وكلامهم منطقي.
لكن النزف دماً يمثل إرهاقاً لجسد الصائمة، ولذلك من الأفضل لها أن تفطر، كي لا تتسبب لنفسها بالأذى.
رد منطقي أيضاً، أليس كذلك؟
وسيقول البعض الأخر، بالله عليك كفي عن إدخالنا في هذه التفاصيل المقرفة.
لكن هل هي بالفعل تفاصيل مقرفة؟
ألا تعكس هذه التفاصيل المقرفة صورة ووضعاً اجتماعياً للمرأة؟
ألا تجعلها بشكل أو بأخر "غير كاملة" سواء في علاقتها مع الله عز وجل، أو في وجودها المجتمعي؟
ثم إذا كانت بالفعل مجرد تفاصيل ما الذي يجعلها تثير كل هذا الغضب والنفور عند النطق بها و إثارتها؟
ليس من التفاصيل المقرفة أن أقول إن من حقي أن أضع تحت المجهر أراءً عتيقة، تغطيها الأتربة، لا علاقة لها بواقعي اليوم، وتتعامل مع المرأة كما لو كانت مخلوقاً حيوانياً أدني بدرجتين أو ثلاث من المستوى البشري.
كما ليس من التفاصيل المقرفة أن أصر أني بصلاتي حائضاً لم أخرج من ملة الإسلام.
على العكس من ذلك.
قراري كان عقلانياً، ولأنه كذلك أدخلني في نطاق روحاني، يضمني بين جناحيه، ويتعامل معي ككائن سامي،
نطاق هو في رأيي رباني بحق، لأني أعيش بين حناياه إيماني بل وحبي لله عز وجل، أعيشه وأنا في صفاء نوراني مع نفسي، مع من حولي، ومع الكون.
وأخرجني في الوقت ذاته من نطاق أراء وتفسيرات بشرية وضعها رجال في القرون الوسطى، وتوارثناها أماً عن أم، وأفقنا في القرن الواحد والعشرين ونحن نطبقها دون أن نتساءل مرة لماذا يجب علينا فعل ذلك.
أنا لا أطالب بالكثير.
كل ما أطالب به لا يتعدى عبارة واحدة: حقي في الصلاة.
http://www.metransparent.com/texts/elham_m...enstruating.htm