عندما قمت بالتصويت .. فكّرت تماماً بنفس المنهج الذي طرحه طارق ..
لم تعجبني كثيراً عبارة : من أجل قضية أؤمن بها أو أشخاص أحبهم لدرجة كافية .
بل إنّي شعرت أنّ المستطلع يقصد "الاستشهاد" من أجل معتقد ديني .. ومع ذلك أجبت بـ "نعم" لأني مستعد أن أضحّي بنفسي لأسبابي التي سأوضّحها الآن ..
أضحّي بنفسي .. لكن بسبيل من .. !!؟؟
أنا من الناس الذين لا يؤمنون بقداسة "الإنتماء" .. وأرى أنّ أي شكل من أشكال الإنتماء هو عبارة عن تأثّرات فكريّة وعاطفيّة مرحليّة .. فشخصيّة الإنسان ليست سوى خليط من "الجينات" .. ومن تأثيرات "الوسط" .. وبالتالي فالأحكام الإنسانيّة محصورة بمجال معيّن .. نسبي ..
طارق ذكر الجملة التالية ..
اقتباس:فمن السهل أن نفهم أن الغريزة التي تدفع الجيل الأول(الآباء والأمهات) للتضحية من أجل الجيل الثاني (الأبناء والبنات) هي أمر طبيعي وضرورية لاستمرار النوع، وهي مسجلة في تراثنا الجيني/العصبي، "المادة" التي نضحي من أجلها هي مثلاً: الجيل الأصغر والذي سيقوم بتأبيد جيناتنا. إنه دفع جيني لتأمين الاستمرارية للنوع كله.
أنا لا أرى في هذه التضحية شكلاً من أشكال الدفع الجيني لاستمراريّة النوع بقد ما هو شكل من أشكال الدفع الجيني لاستمراريّة "الذات".. فمثلاً .. الطائر يضحّي بنفسه من أجل حماية "البيضات" في عشّه .. لكنّه لن يضحّي بنفسه من أجل "بيضات" جاره .. وأرجو ألا تفهموني بشكل خاطئ ..
أنا أرى أن السؤال عن سبب التضحية هنا .. يمكن أن نجد جوابه عند الفيلسوف "شوبنهور" ..
شوبنهور تحدّث عن "الإرادة" وعن مدى سيطرتها على تصرّفات الإنسان .. فالإنسان يريد أوّلاً .. ثم ينظّر لما يريد بواسطة "عقله" .. وليس العكس صحيحاً .. ومن هنا فالإنسان مسيّر قبل أن يكون مخيّراً .. وحيوان غريزي قبل أن يكون عاقلاً .. لذا فإن شوبنهور سمّى الإنسان بالحيوان الميتافيزيقي ..
الشيء الأوّل .. الموجود على سلّم أولويّات الإرادة .. هو إرادة "الحياة" (حسب شوبنهور) .. وطبعاً هناك أيضاً "إرادة التناسل" وما إلى هنالك .. (إرادة التناسل هي التي تضمن استمراريّة النوع .. بشكله العام .. أمّا إرادة الحياة فهي تفضّل الذات عن المجموع .. وهنا أريد أن أفرّق بينهما لأني أرى لبساً عند طارق هنا ..)
الوليد .. هو استمرار للفرد (استمرار للوالدين) قبل أن يكون استمراراً للمجموعة والنوع ..
إن الفرد يرى نفسه في ولده .. وغريزته التي تدفعه للدفاع عن استمرار ذاته .. هي ذاتها التي تدفعه من أجل الدفاع عن أبنائه (وليست الغريزة التي تدفعه لاستمرار النوع "التناسل" هي التي تدفعه للدفاع عن ولده كما يرى طارق) .. وهذه الغريزة ستكون "صافيه" محققة 100% لا محالة .. لولا اختلاط العقل باللاوعي الفردي .. عند الإنسان ..
لذا .. فإنّ الإنسان بفطرته الأولى .. مريد لبقائه .. ولبقاء أولاده أيضاً .. الذين لايمكون أي وسيلة للدفاع عن الذات .. سوى غريزة البقاء عند والديهما .. (وغريزة البقاء عندهم الغير مزوّدة بمقدرات بيولوجيّة تساندها على الظهور بوضوح) ..
وهذا ما أردت أن أوضّحه لطارق ..
الآن .. دعونا نترك هذا التنظير الفلسفي .. ولنتحدّث بشكل حياتي .. ونخرج من هذا التجريد .. فالفلسفة وعلم النفس لا تتماهى .. في أغلب الأحيان .. عند حدود الفرد ..
لا أدري حقيقة إذا كان الإنساني اجتماعي بطبعه أم بتطبّعه .. فهذه دوّامة كبيرة بالنسبة لي .. أجد أنّ الحاجة للآخر هي التي دفعت الإنسان ليكون اجتماعياً .. (هذه الحاجة تتمثّل باللاوعي قبل الوعي) .. وأرى أن الإنسان لولا الحاجة هو حيوان غارق بالذات .. (وهذا ما أراه يتمثّل حالياً بالمجتمعات الغربيّة) ..
(الإنسان احتاج للآخر لتستمر حياته هو .. ولولا تكافل القطيع البشري سابقاً للتغلّب على الطبيعة ربّما كان الإنسان برازاً لوحوش الطبيعة انقرض منذ آلاف السنين .. ويأتي بعد ذلك حاجة الإنسان للمجتمع لتأمين قوته ومستلزمات حياته .. وما إلى هنالك) ..
وأفكّر أحياناً أخرى .. فأجد أن مجرّد وجود الغريزة الإنسانيّة التي تدعو للحفاظ على النوع (والتي هي حيوانيّة قبل أن تتطوّر لإنسانيّة) .. كغريزة التناسل مثلاً .. يدل على أن الفطرة الإنسانيّة تتماهى بالإنسان في المجموع .. قبل أن تتماهى في الذات ..
سواءً كان الإنسان إجتماعي بأصله أو لا .. فالإنسان وصل لمرحلة وضع فيها بعض "البروتوكولات" الحياتيّة في التعامل مع الآخر .. فأصبح حزنه وفرحه .. وحبّه وكرهه .. متعلّقاً بالمجموع وبالآخر .. يجب أن لا نهمل هذا الإنسياق للآخر .. أنا قد أضحّي بنفسي من أجل شخص أثدى لي الكثير .. وأعطاني الكثير ..
أنا ربّما بذلك أضحّي بنفسي لدوافع "عقليّة" قبل أن تكون غريزيّة .. لكن من قال إنّ الغريزة الأم.. وإن كانت هي المتحكّم الأكبر بالإنسان .. هي الصواب ..
الفكر الإنساني .. تطوّر .. وأمسى مؤثّراً بالغريزة .. كما هو المتأثّر الأكبر .. والوعي الإنساني تطوّر لدرجة أمسى بها يؤثّر باللاوعي .. علينا ألا نهمل هذا الجانب ..
حينما أجبت على الإستفتاء بنعم .. فقد كنت أقصد أنّي أضحّي بنفسي من أجل "والديّ" مثلاً .. وهذا أوّل ما خطر ببالي .. مع إنّك لن تجد غريزة "التضحية مقابل من أسدى لك الكثير" في قاموس الغرائز الإنسانيّة .. الصافية ..
خوليو