صعب علي أن أدون اللحظة.. والأصعب أكثر أن اصيد الاحساس في تلك اللحظة وأن أنشره في كلمات لايقوى قلمي على وصفها.. لكن، من أجل اللحظة والاحساس فليسقط القلم، ولتعذرني آرابيا فيلكس :emb:

قال: كنتِ كأسي الليلة، وابتسم!
ثم، استمر في حديث قصير ولذيذ لا أذكره، لا استطيع أن أذكره فقد أصابني السكر من كأسه؟!

افترقنا.. وككل ليلة أعود إلى سريري الصغير الحجم عرضاً وطولاً، الكبير الحجم ارتفاعاً بسبب كثرة الأغطية والوسائد والأوراق والكتب والملابس الداخلية منها والخارجية، وأشياء أخرى كثيرة تمتد إلى لعب صغيرة الجيران إلى حقيبة ابنة أخي المدرسية أو بعض التحف الطائرة من على أرفف خزانتي المحاذية للسرير، ريموت كنترول التلفزيون أو المسجلة، وأحياناً المروحة الكهربائية إن كان الجو حاراً...
نفضت عن سريري كومته، وتشرنقت تحت لحافي الوثير المبهرج الألوان عنوة، فالألوان المبهرجة تثير في الدفء والطفولة وتدخلني في نعاس عميق كل ليلة، إنها باختصار تلعب دور الشريك المحب الغائب أزلاً.. في أول لمسة لخدي الأيمن على الوسادة قابلت الجدار وقد كان أبرد من سطح الوسادة.. أخبرتهما – أي الوسادة والجدار- بابتسامة عريضة وعينين مقفلتين بأنه قال:
كنتِ كأسي الليلة...
واستطردت بغباء الراوية قليلة الخبرة:
كنتُ كأسه الليلة...
ويحي!!! كيف أقولها؟!!!
انفرجت عيناي إلى آخر نقطة في وسعهما، واختفت ابتسامتي وحل محلها انقباض شديد أشعر بأثره حتى هذه اللحظة..
كيف أملك التاء وأكون فاعلاً – بمفردي- في "كنتُ"، وقد كنت فاعلاً في حضرته حين نبست شفتاه بأن "كنتِ"؟!!! كلا التائين فاعلين، وقد فوضت كل الفعل لصالحه ولطرفه عن طيب خاطر ورجاء وصدق.. لا أريدها معي التاء فاعلاً، ولا أريد "كنتُ"...

يا ما أحلاها الكأس وقد التصقت بملك يمينه "الياء"، كم أحسدها الكأس وهو يضمها إلى ملكوته برفق وحنو وقليل من الانحناء كولي صالح. ألهذا سكرت في ليلتي؟!!! آسفة.. ليست ليلتي، بل ليله، ليل بكامله وأكثر.. أليست الـ "لي" له في ليله؟ نعم، فكل الذي لي له أتنازل عني بحب وكبرياء –وأيضا- بـ بدون رجعة!

سيثير حديثي هذا غضب الكثيرين والكثيرات.. فصديقتي المنكفئة – الآن- منذ الصباح الباكر على كتب الأدب، قد قطعت أميالاً كثيرة منذ ثلاثة سنين بحثاً عن وسيلة تفك بها التاء المربوطة في مضجعها.. ستغضب مني كثيراً وتزمجر وقد تهجيني بأكثر من قصيدة... سأختلف معها في الرأي، وسأدافع عن تاء الأنثى المربوطة الليلة! ستخبرني بأنها، تمقتها التاء، تمقتها في آخر الدمعة، وفي أول الفعل وآخره، وحين يكون اتصالها بها عورة ينبغي وأدها. سأخبرها بأن مالي ومال تائها، فتآئي قد أصبحت تاؤه، وهي تاء أنثى مربوطة في ليله، مربوطة بلا حراك أو سيطرة، هائمة بلاطاقة، سابحة في اللذة... ستعرض عني وتشيح بوجهها، وهي تضمر التوجه بشغف حثيث إلى كتبها، تعيد البحث عنه، وتهديه تاؤها، وتنهي رحلة علمها الطويلة...


صُرح بالنشر بتاريخ 18/11/2005

يطلق –أحياناً- على شارع "حدة" في قلب العاصمة صنعاء بشارع "الحمراء" تيمناً بحمراء بيروت وسخرية من حدة صنعاء.. حياتنا في صنعاء تقليدية ومحدودة وتتداخل فيها كل عشوائية الدنيا، ومسيطرة إلى حد كبير وشارع حدة مثالاً..

في بداية شارع حدة الشمالي يرتكز بيتان قديمان طينيان مزينان بنوافذ خشبية بينية وعقود زجاجية ملونة ونقش جيري أبيض، وخلفهما يسكن سوق لبيع القات.. أما بعدهما، فنجد سلسلة من محلات بيع العصائر الطازجة يعرض أصحابها كل أنواع الفواكه على مقدمتها، ويشكون المانجو والموز – تحديداً- من طرف مقدمة المحل إلى طرفه الآخر، ثم يسلطون عليها إضاءة قوية، فيشعرك هذا المنظر – لوهلة- بأنك في هاواي.. إذا حثينا السير جنوباً، سنقابل أهم ثلاث مكتبات لبيع الكتب الثقافية بأنواعها، تعلق اثنتان منها صورة الرئيس العربي الراحل "جمال عبد الناصر".. نستمر قليلاً، ونصادف أكبر شركة تحويل نقود وصرف عملة في اليمن، وفي قبالتها نجد أكبر شركة منافسة لها افتتحت حديثاً.. بين كل ماسبق تتناثر المقاهي الشعبية، محلات الملابس والحلويات، محلات العطورات، محلات بيع أشرطة الأغاني والأفلام، الأدوات الكهربائية، محطات البترول أو ورشات إصلاح السيارات والبنشر، وغير ذلك الكثير.. تحتل هذه المحلات أسفل البنايات الطينية تارة أو الإسمنتية تارة أخرى..

لايزال شارع حدة يستطيل جنوباً ليوصلك بأهم مكاتب شركات الطيران، المراكز التجارية الأكبر، كبرى شركات الالكترونيات كـ"سوني" وغيرها من الماركات الأوربية المنافسة.. لاننسى معارض السيارات الكبيرة: "الرينج روفر" و"الفورد" وغيرهما.. ثم المطاعم الكبيرة، ستضحكون إن قلت لكم أن أول مطعم في سلسلة المطاعم العربية الكبيرة ذات الدورين في شارع حدة اسمه "الحمراء"، يمكن لإن صاحب المطعم يعرف كيف يصطاد ميل الزبائن للسخرية قبل ميلهم للأكل.. أما الشيء الأكثر سخرية وضحكاً هو افتتاح مطعم جار للحمراء أسموه "الخضراء".. هناك تصور مفاهيمي لدى اليمنيين بأن اللون الأحمر هو عكس الأخضر، وأظن أن هذا التصور أتاهم من ألوان إشارة المرور، أو ألوان أكبر فريقي كرة قدم متنافسين في اليمن سواء في شماله أو جنوبه!
وفي السنوات الأخيرة، انتشرت ظاهرة مقاهي الشيشة ومحلات بيع المعسلات بأنواعها وكذلك محلات بيع العباءات والأغطية السوداء المنمقة الخليجية للنساء، والأغطية المزركشة الملونة والقمصان أو الأثواب الخليجية –أيضاً- للرجال.. وحدة وحدها تحتضن كل ذلك سواء على خط شارعها الرئيسي أو على فروعه..

بعد ذلك سيلبس حدة وجهاً ضخماً من الجدية ترسمه لافتات أعظم مكاتب شركات النفط العالمية، والمكاتب التجارية المحلية والإقليمية والدولية، ومنظمات التنمية، السفارات، والمعسكرات!!! لاتتعجبوا، فمدن اليمن الرئيسية تتحرى وجود أربعة أمور رئيسية: مكتب المحافظة، سجن المحافظة، معسكر المحافظة، وصور الرئيس.. هناك نكتة في اليمن تصدر قبيل كل انتخابات، تقول: لماذا تعداد سكان اليمن –اليوم- 40 مليوناً؟!! الإجابة هي: أن 20 مليوناً هو عدد سكان اليمن الأصليين، و20 مليوناً هي صور الرئيس.. ماعلينا..
سيآخذنا شارع حدة إلى مستشفياته الخاصة ذات الأدوار العديدة، محلات المفروشات الباهية الغالية الثمن، فيلات تتسلق السماء لتجار ومسئولي دولة حريفين ومعجزات.. لكننا لن ننسى أن ننتبه للمقاهي الصغيرة، تبيع القهوة أو الشاي أو السندويتشات الملفوفة بأوراق كراسات الطلبة أو الجرائد، مكشوحة بين كل هذه الكيانات الهوليودية في رأيي.. لن ننسى العربات المليئة بالحلوى والشيكولاته والسيجارة وبائعيها الفقراء، لن ننسى المتسولين الكثار والبائعين الحفاة من الجنسين والأطفال ينشرون في كل الطيات والزوايا، لن ننسى بعض الشجيرات المغروسة على الجزر أو المتدلية من أسوار بعض البنايات.. هناك –في حدة أيضاً- دور للنشر لبعض الصحف ومطابع للكتب وللإعلانات.. فنادق وشقق مفروشة، سوبر ماركت عديدة وكبيرة، وصالونات للتجميل النسائية والرجالية.. وماذا بعد؟! مكاتب للبريد، حدائق وملاهي للأطفال والكبار.. نعم، نوادي للرشاقة والرياضية النسائية، معاهد تعليم الكمبيوتر أو المحاسبة أو الإدارة، مدارس خاصة، محلات بيع القرطاسية، وبيت الرئيس وابنه، وبعض من معارضيهما الذين لقوا حتفهم والذين ينتظرون...

لم أكن معجبةً يوماً بشارع الحمراء البيروتي، لم تجذبني كثافته المكثفة والثقيلة على قلبي، بل على العكس كانت كثافته تطردني باطراد نحو الشارع المحاذي الأكثر اتساعاً وتخصصاً، نحو الروشه والكورنيش والرملة البيضاء وبعض المقاهي أو المطاعم أو الملاهي المحدودة العدد والزبائن.. كذلك حمراؤنا في حدة لاتعجبني!!! حتى وإن كنت أكن لها المن والفضل في تشكيل معظم ذكرياتي منذ المراهقة والشباب إلى يومي هذا، حتى وإن عرفتني وجمعتني بأحب أصدقائي وشبكاتي الاجتماعية، حتى وإن كانت تحتفظ بوقت من عمري ثمين، حتى وإن احتضنتني عاملة مثابرة بين شقوقها ولازالت..

لا أحبك أيها الشارع المربك، لا أحبك حدة.. ولاتعذريني!!! لأنني لن أحبك مرة ثانية أيضاً وإن عذرتيني ألف مرة.. لا أملك أي موقف شخصي ضدكِ، صدقيني.. كل مافي الأمر أنكِ امتلكتِ دوني كل الفرص، وألقيتِ بي في كل الشوارع صفراً .. لا دخل لي بالشوارع فهي أقوى من أن تدافع عنها مارة مثلي، ولكن لي دخل بالصفر الذي ألقيتيه في يدي وحيداً، واحتفظتِ أنتِ بكل الأرقام وبقية الأصفار مجتمعة..

لا أحبك..



[SIZE=2]صرح بالنشر بتاريخ 21/11/2005م

الساعة الآن الثانية عشرة من منتصف ليل هذا اليوم أو منتصف يومه أو نهايته. أعرف أنها الساعة الثانية عشر من منتصف الليل –فقط- من أضواء غرفتي الباهتة، بالسكون القاتل تحت شباك غرفتي، وبالسواد الحالك خلف بابها الصغير المؤدي لبهو الشقة الصغير بدوره. أعرف أنها الثانية عشرة من منتصف الليل بوجه مرآتي الضخم الملتصق على كامل باب خزانتي والمتطلع لي بتحدي كلما نظرت إليه. أعرف أنها الثانية عشرة من منتصف الليل من مناداة الكمبيوتر المصرة إن حي على الانترنت وحي على الماسنجر وحي على نادي الفكر. لكنني سأقاوم، سأقاوم بهرجة الأضواء وسأطفئها بعد قليل، وسأقاوم مناداة الكمبيوتر وأنزع عنه سلك الهاتف، ثم سأتجه غير مباشرة إلى سريري لأنام، وأقصد بالامباشرة أني قبل السرير سأمر على مرآتي لتخبرني كم يوم كبرت، وكم يوم سأنقذ لو اتجهت إلى سرير مبكراً قبل أن تداهمني ساعات الفجر الأولى.

أما الآن، فأنا أتطلع لوجهي الصغير في المرآة، أراه منهك، يميل إلى السمرة والضمور نوعاً ما. هناك تحت عيني المتعبتين منطقة من السواد، وعندما أركز النظر أكثر بإغلاق عيني قليلاً لضعف وقصر نظر فيهما، تبرز خطوط كثيرة على كل أقطار عيني بوضوح جلي. شفتاي ينقصهما اللون، وأسناني بدأت تظهر عليهم نقط صفراء، ناهيك عن كل أضراسي العليا والسفلى التي نخر السوس فيها حفره ببراعة.
سأنقل أصابع يدي اليمني واليسار إلى شعري، وستظهر المرآة أن أصابعي مكسوة بالكرمشة، وأن لونها أدكن من كل بقاع جسمي، وأن سطحي يدي الخارجيين خشنان وسطحيهما الداخليين يفتقدان لأوليات النعومة.

أعرف أن نمط حياتي نمط يعجل بالعمر. ساعات نومي عشوائية حسب العدد أو التوقيت المناسب للنوم، فأحياناً أطبق برنامج "التطبيق"، و"التطبيق" هذا هو أسلوب لانوم حياتي علمني إياه صديق لصديق لي من مصر، منتمي لحزب التجمع ومتطوع في إحدى منظمات حقوق الإنسان وموظف دولة متواضع. يعتمد أسلوب "التطبيق" على مواصلة اليوم الأول بالثاني للذهاب للعمل مبكراً أو للسفر في ساعات الصباح الأولى مع الاحتفاظ بالسهر حتى آخر دقيقة تسبق الذهاب للعمل أو السهر أو فعل أي أمر آخر كالقراءة أو الاستماع للموسيقى، ويستحسن صرف آخر دقيقة في حضور الأصدقاء أو الرفاق أو أعضاء المنظمة. أسلوب "التطبيق" يعني أن تنام ثمان ساعات من كل 48 ساعة، أي أن تطبق يومين على بعضيهما. الفرق بيني وبين صديق صديقي المصري أنه مواظب على أسلوب "التطبيق" كنظام وبرنامج نومي، في حين أني أمارسه بانتقائية.
يأخذ مني العمل في أحسن الظروف ثمان ساعات يومية، ولكنها مضنية بين إجابات طويلة وقصيرة ومتتالية على الهاتف، قراءة البريد والرد عليه، الاستجابة لطلبات مدرائي ومديراتي وزملائي وزميلاتي، كتابة التقارير، وضع الخطط، إرسال الفاكس أو استقباله، استقبال الضيوف وحضور الاجتماعات داخل وخارج مكتب العمل، السفر المتكرر لمواقع برنامجي المترامي والمتشتت الأطراف من أجل المراقبة والمتابعة والتقويم... و... و... قد استمر في العمل إلى أكثر من 15 ساعة عند سفري إلى مواقع البرنامج والتقائي بكم هائل من العاملين والعاملات في البرنامج. تستنزف تلك الساعات كل مخزوني الغذائي والروحي وما أملكه من سر الزمن والعمر في داخلي أو خارجي.
في عطلة نهاية الأسبوع، أقوم بالتواصل مع كل شبكات الأصدقاء والصديقات القديمة والجديدة والبين بين. شبكات الأهل –أيضاً- جزءاً من تواصلي الأسبوعي. شبكات العمل المحلية أو الإقليمية أو الدولية تستقطع جزءاً كبيراً من عطلة نهاية الأسبوع عندي. قد أفعل أكثر من نشاط في يومين أو يوم: كالذهاب في رحلة، الغذاء خارج المنزل، العشاء خارج المنزل، حضور حفلة، تخزين القات، أو الإفراط في تدخين الشيشة واكتساب كمية نقط صفراء إضافية على أسناني، أو غير ذلك...
عند سفري للخارج، أكثف جهودي الاستكشافية والعملية والاجتماعية والسياحية. لا أتذكر أني قضيت ولو يوماً واحداً بمفردي على شاطئ بحر هادي وفي يدي كتاب. لم يحدث ذلك أبداً حتى لحظتي هذه! ما يحدث دائماً، أني أمرض لشهر كامل بعد عودتي من سفراتي الخارجية نظراً للإنهاك والضعف اللذين يصيبان جسدي وعقلي، ونظراً لتغير الجو في طقسه أو ثقافته أو غيرهما...
هل أخبرتكم أن نصف عائلتي يعيش بمدينة والنصف الآخر في مدينة تبعد 550 كم، الأمر الذي يستدعي مني الانتقال للزيارة والاطمئنان كلما جرني الشوق لفعل ذلك، وهذا الشوق قد يأتي شهرياً أو أسبوعياً.. كيفما شاء..
أما الأكل، فلا يعني لي شيئاً...

تعبت..

أعود لأفتش شعري بأصابعي تلك أمام المرآة. ما أراه هو شعر كث مجعد وإن كان المشط يمر خلاله بسهوله إلا أن تدرجاته طاغية. المرآة الروسية والجيدة الصنع والعتيقة ويساندها الأضواء تكتشف عن تقصفات كثيرة على شعري سواء في أطرافه أو في كل مكان منه. المرآة والأضواء يكشفون أن شعري ليس بالأسود الحالك ولكنه يميل إلى اللون البني ربما هناك نقص في علبة اللون تحت فروة رأسي! ثم تمتلئ أصابعي بالقشرة، ولا أدري ماسبب إنتاج شعري وفروته كل هذا الكم من القشرة رغم أنه غير قادر على التنفس فما بالك بالإنتاج.. أصبحت أعادي هذا الشعر وهذه الفروة، ألا يكفيهم أني أغسلهم بالشامبو كل يومين وأضع عليهم بلسم مرطب.. لكن طـز.. قبل سنتين ونصف.. كانت كمية شعري تساوي ضعف كميته الآن أمام المرآة، وكان يستجيب لرغبتي في إطالته كلما أردت ذلك، وكانت أجزاؤه متساوية في الكثافة عكس ما تظهره المرآة الآن من نقص جهة شعري اليمين عن جهته اليسار.. غريب هذا التمرد..
قررت أن أمشطه وأحزمه للخلف، وبدأت هذه العملية من ناصيتي. فرز المشط ناصيتي بيسر، وبيسر أكبر كشف عن شعرة بيضاء بزغت بالقرب من ناصيتي جهة اليمين الأقل كثافة والأقل جاذبية!!! شعرة بيضاء، لأول مرة أراها، ولأول مرة يتجاسر جسدي أو جزء منه في اتخاذ موقف منطقي من دون مراعاة لأدنى معايير العطف أو اللطافة معي.. ترددت في تصديق لون الشعرة الأبيض، قلت في نفسي ربما كان بنياً وبفعل الأضواء ومادة المرآة أراه –زيفاً- أبيضاً.. لا، تأكدت من كل الاتجاهات، إنها شعرة بيضاء صغيرة مزروعة على ناصية شعري جهة اليمين. ابتسمت.. ككل حالي عندما أقف في موقف لا ينفع معه حتى الوقوف.. هنا بالذات أتذكر القول المشهور: لا حول ولا قوة إلا بالله أو غيره.. أتذكر أمي وناصيتها المليئة بالشعر الأبيض على الجهتين اليمين واليسار والمحناة بالأحمر دائماً، فتتسع ابتسامتي. أتذكر شعر أبي الفضي منذ ولادتي. أتذكر شعر أختي الأكبر والوسطى الموزع فيه كمية لا بأس بها من الشعر الأبيض. أتذكر صديقين قريبين، أحدهما قال لي في لحظة صدق بأن "شعري الأجعد لم يكن يتسع لشيء حتى لفكرة حميمة".. والثاني يكرر أن "بحزن أحبك" ..
تباً لشعري الكث السمين الآن وهو أمام المرآة وتحت هذه الأضواء، تباً لكائن لم يستطع الاتساع للاحتفال بالأبيض في هذه اللحظة، لم يستطع حب الحزن في هذه اللحظة، ولم يستطع التفكير بالحميمية في هذه اللحظة...


[SIZE=2]صرح بالنشر بتاريخ 24/11/2005م

لم أخطط ولو لدقيقة واحدة، وأنا أكتب مدوناتي هنا، بأن يتقلد اللون، في مدوناتي، هذا الدور الريادي القائد. لقد عنون اللون اثنتين منها، وأوحى لي بفكرة كتابة أخريين – لم تكتبا بعد- وحبسني في إطار حدوده حتى وأنا أكتب بعيداً عنه في اللالون. اللالون المرئي الظاهر في الدمع، أو ذلك نظيره في مربع ترشيح الملح المليء بماء البحر اللالوني. لقد صدقت ياصديقي "زيزس" حين لفت نظري مرتين، وأنت تجيز لي نشر مدوناتي الثلاث الأولى، للطيف. لقد فهمت منك أن أحذر الانجذاب لألوانه، لكنني فرحت به لذكراه المرتبطة بـ "الدببة الطيبون"* وهم يتزحلقون على قوس قزح ويصنعون منه سلماً للغيوم.

قد تكون مدونتي اليوم هي الأسرع من حيث تسجيل اللحظة، لكنها بنفس الوقت، الأكثر تردداً، والسبب هو: بطلة المدونة الليلة! التردد، لا لشيء. لا لشيء أبداً، ولكني أخاف أن تسحبني بطلة كبطلة اليوم من حضن بطلات كثيرات أقل حظاً..

إرشاد منجي، اسم لا يعرفه الكثير والكثير، وأنا منهم، حتى ذلك اليوم الذي عرفني عليه صديقي العزيز، البسطامي. ودعوني أعترف لكم، من جملة الاعترافات التي توالت في مدوناتي السابقة وستتوالى لاحقاً، بإجحافي وبخلي في التعبير عن تقديري وحبي للبسطامي هذا. الآن ابتسم، أنا من يبتسم الآن. فرغم عقدي العزم على الاعتراف بما أخفيه من مشاعر للبسطامي أمامه وأمامكم، إلا أن طبعي غلب عزيمتي، فلازلت أصر على أن اتبع البسطامي بكلمة "هذا"، ولو تعرفون كم تحمل كلمة "هذا" بعده – البسطامي- من حب شديد له ومن حنق أشد من نفسي. طيلة سنين معرفتي بالبسطامي، لم يتوان يوماً على حثي لقراءة كتاب أو رواية ما، على الاطلاع على موقع ما، على التعرف على كاتب أو كاتبة ما، وكل ذلك الـ "ما" الكثير كان كثيرا مرتبطاً بدائرة معرفتي الأقرب -المرأة! لقد شعر البسطامي، ربما، بحبي لـ "ما" المرأة، أو ربما بقدرتي المحدودة التي لا تجيز لي إضافة ماااات أخرى غير المرأة، فحب هو بدوره المرأة، وحب المحدود، وتوسع فيه رأسياً، كما تفعل اليابان في البناء إلى أعلى.. أعلى.. أعلى! البسطامي كان حبوراً بصدور مجلتنا جسور، ووعد ولم يفِ بعرض "الخلل في الإسلام"، كتاب إرشاد منجي المنشور في عام 2003**، لكني عرفت إرشاد منه، وعرفت الخلل منه، ونشرت جسور في عددها السابق الكتاب كاملاً – أيضاً منه.

اليوم هو العاشر من ديسمبر، وهو اليوم الذي صدرت فيه أكثر وثائق العالم شهرة وتجاهلاً، أكثرها احتراماً على المستويات الدولية، وعلى مستوى كتاب "غينيس"! الوثيقة الأعلى أو الأكثر أو الأوفر، الوثيقة التي تسبقها كل عبارات التفضيل الكاذبة أحياناً والصادقة أحياناً أخرى خاصة عندما يتعلق الأمر بأمر عدد لغاتها وكتاب "غينيس". إنها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). وفي هذا اليوم تقام الاحتفالات والمطالبات، تدشن دراسات وحملات ومشاريع، تنتج وعود وتجهز أخرى للسنة المقبلة. وفي هذا اليوم قابلت إرشاد صدفة، فأحببت الصدفة، وأحببت العاشر من ديسمبر، وأحببت من اخترع الاحتفال والمطالبات والتدشين، وازددت حباً للبسطامي.

تحدثنا كثيراً، أو كثيرا – نسبيا- بالنسبة للوقت المحدد للاحتفال بالمناسبة، وبالوقت المجزئ للصحب المحيط، وبالوقت المخصص للأكل، وبالوقت المحجوز سلفاً للوداع وانتظار سيارة الأجرة. جزء كبير من وقت الحديث كان تعريف إرشاد بأخريات على علم بها وبكتابها، وهن بشكل أو آخر معجبات ومتحفظات ولديهن الكثير من الملاحظات. جزء آخر للرد على أسئلتها، آخر لصناعة جو تضامني نسوي بالاختلاف ودياً مع صديق مشترك. آخر للتعرف بإيجاز على عملي. وآخر أخير يكرمها بقدر كافٍ من الدقائق لتطرح سؤالاً، ويشح علي بالإجابة عليه كما أشعر لا كما تمليه علي مقررات العمل وتقنياته.

حين سألتني إرشاد عن مدى مقدرتي وتحملي في التعامل مع أصعب القضايا الإنسانية، من وجهة نظرها، وهي العنف ضد النساء، أجبت بأن خبرتي المكثفة وتدريبي المكثف، منذ شبابي الصغير إلى اليوم، كانا السببين الكافيين في إدراك قوة النساء كونهن إنسان، إنسان فقط، وبغض النظر عن فقرهن أو ضعفهن. ذلك الشعور بإدراك القوة يتغلب على شعوري بالعطف عليهن أو الحزن لأجلهن أو لأجلي كنت مكانهن الآن أو لاحقاً.

بعد ذلك، قرت أن أكمل الوقت بإرادتي، أبعثر ماتبقى من جزئه الأخير في الهواء وبالانشغال في حديثٍ عارض مع صديق قرر الانضمام إلينا.

للأسف، لم أكن صادقة،وكفى، أمامها وأمام نفسي وأمام كل النساء. لم أكن صادقة، لأنني لم أقل لها كم مرة واجهت صعوبة في التفريق بين ماء الدش الساخن المنهمر على وجهي وبين دموعي الساخنة المنهمرة على وجهي أيضاً، بعد كل زيارة لامرأة معنفة. جبانة كنت حين لم أخبرها كم طويلاً نحبت مع أصالة نصري وهي تغني لأبنتها المراهقة بعد زيارتي لطفلتين حوامل إثر اغتصاب بشع. كاذبة كنت حين لم أقدم تقريراً عن عدد القطرات التي تساقطت أثناء نشرات الأخبار تلك الفالحة بعرض المجازر والقهر الإنساني الكوني الذي لا يختلف كثيراً عن قهر امرأة في ريف أو حضر اليمن؛ من قال أن ثورة المعلومات هي من عولمتنا؟!!! إنه الألم عبر ثورة المعلومات هو من أنسنا. كنت رديئة بما يكفي لأخفي عنها شريط تتابع كميات الدمع من عيني مع تتابع صور تماثيل العاصمة لندن بكل حديديتها وفرسانها وسيوفهم ودروعهم ينعكس مباشرة من ذاكرتي القريبة على شاشة عرض فيلم "طروادة" في سينما "سينشري" بالأردن. يالبشاعة العنف، يا ما أقذره، يا لتاريخيته! لقد أصبح التاريخ منذ حينها عدو لي إذ احتفظ في حقائبه بصور وأحداث حقيرة لدرجة العنف. لدرجة الدم في سيوفهم .. دروعهم .. خيولهم .. ملحماتهم .. أفلامهم .. نشرات أخبارهم .. وفي رَجُـلهم.. وكل "هم" اللاحقه هذه قد تعني أي شيء إلا امرأة..


[SIZE=2]------------------------------------------------
* مسلسل افلام كرتوني :23:
** صدور الكتاب بنسخته الأصلية باللغة الانجليزية في 2003 ونسخته المترجمة لعربية في 2004


[SIZE=2]صرح بالنشر بتاريخ 10/12/2005م

ملاحظتان هامتان:

الأولى، وأنا أفكر في كتابة هذا الاعتراف وفي صياغة كلماته، كانت "دينا" حاضرة معي.. لا أعرف.. ربما مجلتها الأربعائية كانت حاضرة معي هي الأخرى في خلايا مخي وعلى أزرار لوحة مفاتيحي.. ما سيأتي، أشعر بأنه "ديني" أكثر منه "فليكسي"..

الثانية، لازلت إلى اليوم أشك بأن الأسود لون، لأنه ليس من ألوان الطيف السبعة، ولا من جملة تدرجاتهم، ولا من خليطهم.. كما أن الأسود ليس دائماً لون الحزن أو الكآبة.. على الأقل من وجهة نظري!


قبل أن أكمل الثامنة تماماً، تعرفت على أوراق جديدة غير أوراق الكتب المدرسية، أي بدأت بالتعرف على القراءة، لأن – وكما هو متعارف عليه- لا تمنح كلمة "القراءة" أو السؤال "هل تقرأ/أي؟" أو النعت بـ "قارئ/ئة جيد/ة" لأوراق الكتب المدرسية وحبرها الأسود بكل بساطة. إذاً، في الثامنة بدأت القراءة، وبالتحديد قرأت الشعر العربي في الأندلس، وبتحديد أدق، قرأت الشعر الأندلسي لأتحدى أبي في سرعة الحفظ!
إذاً، في الثامنة تماماً، قرأت لأتحدى أبي في سرعة الحفظ!

في التاسعة، قرأت "علم السياسة"، ليس كله بالطبع، بل معظم أوراقه التي كانت تتيح لي فرصة الاستلقاء في حضن أبي وهو يمسك ذلك الكتاب.
في التاسعة، قرأت لأستلقي في حضن أبي!

في العاشرة، عدت لحفظ الشعر. هذه المرة الشعر اليمني ذو الطابع الوطني، وبتعبير أوضح، الشعر اليمني الوطني المعارض والجريء والذي يحلو لأبي ولرفاقه ترتيله أثناء جلساتهم الوطنية المتكررة في تلك المرحلة!
يعني بصراحة، في العاشرة، حفظت الشعر اليمني الوطني الجريء لأشارك أبي ورفاقه مجالسهم............ والمرحلة!

في الحادية عشرة، التصقت بجانب أبي وهو يشاهد أفلاماً سينمائية يطلق عليها بكل زهو "أفلام عالمية"، لأنها مقتبسة عن روايات عالمية، هكذا كان يقول...
في الحادية عشرة، تعرفت على الروايات العالمية – كما هو اسمها في قائمة سلسلة الروايات العالمية- وقرأت "الحرب والسلام".. أي أني في الحادية عشرة، قرأت لأشاهد الأفلام العالمية ملتصقةً بأبي!

استمرت قراءتي "العالمية" سنيناً طويلة، قرأت فيها وقرأت.............. وقرأت إلى أن اكتشفت "العراب" التي كان أبي يخفيها عنا، عنا جميعاً. كنت حينها في الخامسة عشرة.
وفي الخامسة عشرة، قرأت العراب ثلاث مرات. يعني... في الخامسة عشرة، قرأت لأكشف مايخفيه أبي!

في السادسة عشرة، سمعت عن اسم "روايات عبير" ينتقل بين زميلات المدرسة المراهقات بكل همس وسرية وسحر.
وفي السادسة عشرة، اقتنيت "أنين الساقية"، وتوالت بعدها العديد من "روايات عبير" التي كانت ترافقني ليلي كقوت احتياطي إذا نفذ مني وقود رواية دسمة ولم يأتني النوم بعد.
نعم! في السادسة عشرة، قرأت حتى لا أتشرف بمعرفة الأرق!

في السابعة عشرة، قرأت "قصة الحضارة" في جزئه الثالث، لأن مدرسة القرآن طلبت منا أن نفسر لها آيات مختارة من سورة"الأنعام" على هيئة بحث مكتبي، فاخترت قوله: ((فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين *)).
في السابعة عشرة، قرأت لأكتب في بحث مدرسة القرآن بأن الله يتطور!

في الثامنة عشر حدث صدع عميق بعلاقتي بأبي فتركت القراءة...

في الرابعة والعشرين، عدت للقراءة ولأشياء أخرى، ولأتخطى مرحلة "ما" صوب مرحلة الإصلاح.. وأنا أتخطى المرحلة الـ "ما" قفزت قفزةً كبيرة أوصلتني إلى باب محل لبيع الكتب أعجبت بزخرفة معروضاته من الكتب فقررت أن أزين بها ديكور غرفتي..
في الرابعة والعشرين قرأت لأنفذ برنامج لـ"إصلاح ديكور غرفتي"!

في الخامسة والعشرين، قرأت لأرتطم – صدفة- بالصفحة رقم (111) وأتنبأ بحظ سعيد!

في السادسة والعشرين، شاهدت صديقاً لي يقرأ لـ "هسه" ويضحك.
في السادسة والعشرين، قرأت لأتعلم مهارات التقليد!

في السابعة والعشرين، كثرت انشغالاتي، ولأن أوراق المدرسة وحبرها الأسود تشبه أرواق العمل وحبرها الأسود والملون أحياناً في عدمية إضفاء كلمتي "قراءة" أو "قارئ" أو غيرهما على من يقرأها، واصلت القراءة وبضغط شديد مني يوصلني، على الأقل، إلى منتصف الكتاب فأشعر بسهولة السفر إلى نصفه الآخر والأخير.
في السابعة والعشرين، قرأت حتى ألمس الصفحة الأخيرة!

وفي الثامنة والعشرين.. وفي التاسعة والعشرين أقرأ لكل ماسبق..

لكن بالله.. لماذا "أنا" أقرأ؟!!!

خذ قلبي وهات قلبك هاتو
يابو قلب حياتي في دقاتو
الحب ده عقد من الياسمين
وقلوب العشاق حباتو

كانت الرحلة متعبة، السفر طويل والوقت يقاس بكثرة الوجوه الجديدة، ومتعة الاكتشاف، وتاريخ المدن، وفروقات درجات الحرارة.. أخيراً تقبل عجلات الطائرة أرضية مطار مدينتي، فأشعر بارتياح لذيذ يسري في عروقي..

كالعادة، يستقبلني رياض بوجهه البشوش النحيل.. أصافح يده بقوة، وككل مرة أتمنى لو أحضنه وتوقفني كثرة العيون الفضولية.. أجمل مافي رياض صوته الراقص الضاحك، وضحكته المتفجرة دوماً كبركان.. ورياض يحترف الرواية وسرد الأخبار والأحاديث اليومية الصغيرة، ولكني – أيضاً- احترف فن الإصغاء..
يخبرني رياض بخطة صغيرة علي أن آخذ حذري في عدم إفشالها.. علي أن أسيطر على زلة لساني المعهودة..قال لي رياض:
- أخبري والدك بأن ابن أختك كان معي في استقبالك..
لازلت لا أعي.. أطير في الهواء.. آخر عهدي برياض كان قبل 8 أيام.. ولم يكن في المشهد أي "أبي".. فأبي يعيش في مدينة أخرى أحضنتنا قبل شهرين تقريبا.. لكني الآن أتذكر.. لقد أتى إلى مدينتي في نفس يوم سفري..
- لماذا، رياض؟
- القصة طويلة؛ فوالدك كان على اتصال دائم بي منذ صباح الأمس لضمان استقبالك استقبالاً دافئاً، وقد أخبرني برغبته في الذهاب إلى المطار هو وأطفال العائلة!!! ولكن المدينة أمطرت وانخفضت درجات الحرارة بشكل كبير، ووالدك لا يستطع تحمل شدة البرد خارج المنزل خاصة في أوقات الصباح المبكرة هذه..
- نعم.. نعم.. أفهم..
- لذا، أمر حفيده وزوجته باستقبالك.. وهما بدورهما فضلا النوم على استقبالك..
انفجرت من الضحك..
- ولم كل هذا!!!
- لا أدري..

ألج شقتي الصغيرة، وأصرخ بأعلى صوتي: مرحبا... أقبل أختي.. أمي فطمطم كانت نائمة لكنها استيقظت وحضنتها واحتضنتني لوقت حنون وحميم. ثم أتى دور أبي.. كانت عيناه مشعتين.. وبسمته كانت أيضا مشعة.. ووجه منفرج متورد.. كحلم... قال:
- لم أكن أرجو قدومك اليوم؟
- لم؟
- لقد اتصلت عاملة مكتب الطيران قبل ثلاثة أيام وأخبرتنا باختفاء اسمك من لائحة المسافرين.
- نعم، أنا من نقلت اسمي إلى قائمة المسافرين المؤكدة، هذا أمر روتيني، أبي..
- لقد اتصلت بمكتبك.. وتحدثت مع أغلب زميلاتك وزملائك، وجميعهم طمأنوني، لكني لم اطمأن.. اتصلي بهم وأخبريهم بسلامة الوصول.. أظنني سببت لهم بعض القلق..
ابتسم، وأضيف:
- بل القلق أن نقلق نومهم في هذه اللحظة..

فراش أبي وثير.. وصدره كما هو –منذ خلقت- دافئ.. يداه عريضتان نوعاً ما، وأصابعه مربعة ووممتلئة.. بنصره اليمين المقطوم في أعلاه أثر شجار شبابي أحبه، وأحب بنصر صديق لي يملك بنصراً شبيه، وأحب صديقي بالنتيجة.. لون راحتيه حمراء قانية وتحمل زمرة الدم A الموجبة، كما أحملها أنا، وأشعر بالفخر كلما قرأتها على بطاقة هويتي.. يقولون أن أطرافي تشبه أطراف أبي، وهذا صحيح 100%، بل وأزيد على هذه الحقيقة، إن عيني تشبهان عينيه خاصة وهما تشعان فرحة.. تقول أمي أن قدمي تشبهان قدمي أبي لدرجة أنهما لا تنفعان لامرأة، وهذا صحيح 100%، بل وأزيد على هذه الحقيقة، أن قدمي شديدتي التحمل كرجل مقاتل، تحملان وزني الستيني وما يضاف عليه من حمولة يومية في حقائب مكتبية أو حقائب للسفر.. تحملاني وتسيران بي مسافات طويلة، تفضلان الوقوف نهاراً كلما أستدعى الأمر الجلوس، وترقصان لساعات متواصلة!!!

كعادتنا كل ليلة – إذا كنا معاً- نقضي الوقت قبل النوم بالتسامر.. هذه المرة قصصت عليه تجربة سفرتي الأخيرة بتفاصيلها الجميلة والمزعجة.. أكثر من ساعتين مضت، لم أتوقف خلالهما عن الحديث، ولم تتوقف أصابعه عن مداعبة شعري وتلمس مواقع الإرهاق في وجهي الصغير بين راحتيه الحمراوين، حتى نطق بـ:
- صغيرتي، أنتِ متعبة؟
- نعم: لم أنم منذ صباح الأمس.. لكن هذا لا يهم، دعنا نكمل الحديث..

منتصف نفس اليوم، أذهب إلى مكتبي ويستقبلني زملائي وزميلاتي الجميلين. كانت البسمة تغطي وجوههم وهم يقصون لي خبر قلق أبي واتصالاته الدائمة.. هم لم يعهدوا هذا التواصل من طرف عائلتي، وقد كانوا مستغربين لهذا التغير الطارئ الذي جعل مني - بين ليلة وضحاها- طفلة ترقب باعتناء مفرط.. قطعت كل تساؤلاتهم بجملة واحدة:
- لا تندهشوا، فأبي في المدينة!!!

زميلتي الشابة المحبة قالت لي:
- لقد تحدثت مع والدتك بالهاتف بعد سفرك، وأخبرتني بأنها قلقة كثيراً من سفرتك الأخيرة هذه، لأنك – ولأول مرة- ودعتي الجميع، واتصلتي بابنة عمك وابن عمك لتودعيهما أيضاً، وظنت أن ذلك –ربما- كان نذير غير جيد أو إنذار بغياب طويل!!!
- آآآآآه! إذاً هي فطمطم من وراء كل هذه القصة.. .. .. يالفطمطم الوديعة الخارقة!

أعود إلى المنزل، فطمطم تحضر لي غذائي المتأخر.. وتختفي..
أشاهد التلفزيون للمرة الأولى منذ ثمانية أيام، تشدني أحلام وهي تصدح بأغنية "ياطيب".. أسرح معها وأتذكر أبي، قصته المثيرة الأكشن، أصابعه وعينيه الأصدق.. وأتذكر قدرته المميزة في التعبير عن حبه بكل سهولة وبكل أناقة وفصاحة، أتذكر شعبيته الكاسحة بين صديقاتي من الإناث وحتى أصدقائي الذكور، إن لسانه غدق رطب حلو حلو.. بعكس فطمطم الجميلة، قليلة الكلام، عديمة التعبير، والتي فاجأتني –لأول مرة- بإفصاحها عن ثلاث كلمات قصيرات قالتهم دفعة واحدة وورا بعض حين هاتفتها الأسبوع الماضي.. فطمطم قالت:
- أنتِ حبيبتي وقلبي وروحي.. ثم ابتسمت على سماعة الهاتف، وسكتت..

انتهت أحلام.. انتبه لغياب أمي.. أناديها: أمـــــــــاه! فطمطــــــــم! فلا تجيب.. لكني أعرف أين هي الآن، وكيف لها أن تكون في أي مكان غيره! إنها هناك في زاويتها الأخرى من بيت الجارة، صديقتها المسنة قليلاً، تشاهدان معاً مسلسلهما العربي الدرامي المعاد قطعاً.. أقاطع انسجامهما.. أقبل الجارة بقوة.. وارتمي بعدها في حضن أمي، وأذكرها:
- أنتِ قلتي لي "حبيبتي وقلبي وروحي" على التلفون، صح؟
تتورد وجنتاها وتجيب:
- أيوه!


والحب ده عمر
وغِيرك مين يقدر يسعدني باوقاتو
صبح اللي يحب
في أيامنا
طيب
وكمان على نياتو

[RAM]http://egyptian2.salmiya.net/songs/angham/ram/angam26.ram[/RAM]

سأتزوج.. أعلن قراري هذا من على منبركم أولاً.. سأتزوج اليوم، أو غداً، أو بعد حين.. لكنني سأتزوج حتماً، وهذا قرار لا رجعة فيه كقرار جيفارا المضي قدماً في غابات بوليفيا الخضراء..

سأتزوج، حتى يكون لي دولاب ملابس .. مرتب!
ليس الدولاب هو المهم، بل الدولاب المرتب..
وخزانة..
نسيت الخزانة.. لحفظ مشط الشعر عن الضياع أحياناً ، وعن كومونة العائلة..

سأتزوج، حتى يكون سريري أكبر حجماً..
وللأحجام منافع كثيرة للناس لو كنتم تعلمون..

سأتزوج، حتى يكون حمامي غير مشتركاً..ولا تقطع طرقات أمي أو أختي أو أخي أو ابن خالتي أو عمتي على باب الحمام رقصة مياه الرشاش المتدفقة فوق رأسي..

سأتزوج، حتى أشتم عطري فوق الوسادة ليلاً..

سأتزوج، حتى أنهي عادة قضم الأظافر.. حتى أستعمل الواكس بدلاً عن الحلاُقة.. حتى أتطرف جداً لدرجة كي ملابسي..

ساتزوج، لتلبس أمي حليها الذهبية يوم العرس.. ويستقبل أبي التهاني..

وسأتزوج، ليجد أصدقائي وصديقاتي مكاناً جميلاً لحشو القات والتدخين..

وربما سأتزوج حتى أصحو مبكرة مسرعة للقاء ساعة بدء العمل دون تأخير..


وأيضاً سأتزوج لأني لم أتزوج من قبل..

بلى، وله ألف لون..
لون المرارة في حلقي الآن..
لون الضيق في صدري،
يصيح ولا ينطق..
لون الشلل،
في غمضة رمشي..
لون الماء المتحجر،
في زاوية العين..
لون الزرقة الباردة
على أطراف أصابعي..
لون الوحشة الغريبة
في سطور أخبار النت..
لون صندوق الاقتراع الأبيض..
لون نتيجة الديمقراطية الكاذبة..
والشعب الكاذب..
والرئيس الكاذب..
واللون الكاذب..
لون الفقر والذل والبلطجة،
المعتمد والموقع بختم محفور بـ 85 صفعة مقدمة..
وأخريات مؤخرات بكثافة،
لسبع سنين آتيات تفتقد الألوان والأضواء والروائح..
لسبع سنين تتخبط في الظلمة..


:rose:

أعترف أني أطفأت لؤلؤة عينيه..
وسحقت فقاعات رحيق لعابه السائل..
تلك الوجنتان المكتنزتان فقأتهما..
أما الشفتان الورديتان فقد حولتها إلى مطفأة سجاير..
يداه القطنيتان غزلتهما دون تخدير موضعي.. أو كلي..
ريش الشعر النابت على رأسه، أحرقته..
نبشت أحشاءه ورميتهم في سلة المهملات..
أحلته لنتوء تافه وبصقت عليه..
قتلته.. وضحت.. ثم رحت أطالب بمحاكة عضو النيابة التي هدد ذكرى بالضرب، قولاً، إلم تعترف..

يوماً سينبت آخر.. أمارس عليه هواية الخلق الأولى.. ربما.. وربما سيكتب له عمر جديد..