لم تشتهر بجمالها ، فقد كانت صغيرة الجسم ، ضعيفة البنية ، ولكن سواد شعرها وعينيها وبشرتها المحمّصة كالقهوة تحميصًا خفيفاً جعلها محبّبة .. كانت تسحر برقّتها، ورشاقتها ، ودماثة أخلاقها، وحصافة عقلها.. بيتها منتدى بل معهد للفتيات والنسوة صغيرات السن ،
تعلّمهن.
إحدى فتياتها تقدّمت في السنّ نسبياً إلى أن جاءها " النصيب " في شهر آذار بداية الربيع وتفتّح الأزهار.. جمعت سافو فتياتها في فناء معهدها المظلّل بأشجار اللوز المتألّقة ، وضبطت أوتار قيثارتها ، وانطلقت تصدح لتزف العروسة الجالسة على المرتبة ، وعريسها يجلس إلى جانبها ، وفتياتها يضربن الدفوف ، ويسحجن في حلقة دائرية ، ويتناوبن الرقص الواحدة تلو الأخرى ، وهي تغني ، وهن يردّدن :
يا عروسُ ! ألعريسُ عزّه يدومْ
ياعريسُ ! ألعروسُ نجمةُ النجومْ
ياعريسُ ! ألعروس غصنها يميسْ
ياعروس ! العريس شبه أدونيس
فانعما بالرفاءْ مثلما نشاءْ
غرسُكم مجيدْ ، وحظّكم سعيدْ
فافرَحْنَ ياعذارى واشربْنَ الكؤوسْ
فالعريسُ والعروسُ منية النفوسْ
***
تلكم هي سافو التى تعتبر أشهر شاعرة غنائية على الإطلاق، طبّقت شهرتها الآفاق في حياتها وبعد موتها ،لايضاهيها في شهرتها غير هوميرس .. تفوّقت بشعرها على شعراء يونانيين كثيرين منهم أرخيلوخوس وبندار وترباندر وثيوقريطس شاعر الأناشيد الرعوية الأول وأناكريون وألكايوس الذي تودّد إليها ، وخاطبها مرّة قائلاً :
يامنيةَ النفس ِ يا ســــافو متوّجةٌ
لكِ ابتسامةُ زَهْرِ الروضةِ الخَضِل ِ
ما أبتغي منك إنّي لا أبـــوحْ به
فإنّ بوحـــــي به يدعـو إلى الخجل ِ
فأجابته بقولها :
لوكان ما تبتغي أمـــراً له صلةٌ
بما يُشـــرِّفُ من قـــولٍ ومن عمل ِ
لما خجلـــتَ بـــــه لكــنْ دناءتُهُ
وأنت أهــــل لهـــا أدتْ إلى الخجل ِ
لايُعرف عن سيرة سافو إلا القليل، ومن المرجّح أنها ولدت حوالي سنة 600 ق.م في مدينة ميتليني بجزيرة ليسبوس في بحر إيجة قرب شاطىء آسيا الصغرى الشمالي الغربي ، وقد اشتغلت مثل ألكايوس بالسياسة والتآمر على حاكم الجزيرة فنفيت كما نفي هو أيضا .
ومن أخبارها أنها تزوّجت من رجل ثري ورزقت منه ابنة أسمتها " كليس " على اسم والدتها ، إلا أن التاريخ لم يتغلّب كعادته على فضوله بخصوص شاعرة الغزل والحب والجمال فجعلها بطلة قصة حب عنيف وغرام لهيف . وكان كافبا أن تذكر في قصيدة لها صخرة " لوكاس" الشامخة
حتى يقال إنها قفزت منها إلى البحرلأن ملاحا يونانيا يدعى " فاوون " وكان أجمل فتى في بلاد اليونان، وقد عشقته حوريات البحر، لم يبادلها الحب بمثله فانتحرت .
بلغت أشعار سافو تسعة أسفاربلهجة إقليمها العامية الأيولية، ولكن أيدي العبث والزمن أتلفت معظمها إلا أنّ ما بقي من آثارها يكفي لأبراز أصالة شاعريتها إضافة ألى شهادات رجال عظماء منهم سقراط بقوله : إنها نحلة بيريا لعذوبة شعرها . وكذلك أفلاطون الذي رأى فيها Muse( موساي) أي ربة من ربّات الفنون :
يقولون إن ربّات الفنون تسع
ألا ما أشدّ غباءهم !
فليعلموا أن سافو الليسبوسية
هي العاشرة !!
ويقول فلوطرخس :إنها كالخمرة تمتزج باللهب .
واما صولون الحكيم وكان سياسيًا وشاعرًا مشرّعاً فإنه قال عندما سمع لها أغنية يغنيها أحدهم : أريد أن أتعلم هذه الأغنية ولا أبالي بعدها بالموت .
يقول جلبرت موراي في كتابه الأدب اليوناني القديمThe Literature of Ancient Greece : " تفوّقت سافو على معاصريها من الشعراء الرجال ، وتأثّر بها من جاءوا بعدها ، وظهر بتأثيرها شاعرات في مختلف الأصقاع اليونانية منهن كورينا وبويتيا وإيرينا " .
لايحفل شعر سافو بالتشابيه والإستعارات والكنايات والصور الشعرية إلا أنه يمتاز ببساطته وعمقه وصدقه وعفويته ورهافته وحرارته وحيويته ، وهو شديد الالتصاق بالطبيعة يطفح بالنجوم والطيور وينفح بالرهور والعطور ، فالقمر والثريا وزهرة اللوتس والعندليب " رسول الربيع المتحدّث بلسان الحب" كل ذلك يتناثر في قصائد تعلن عن تجربتها في الحب والغزل وأغاني الزواج والمودّة الرقيقة والغيرة والهجر والقلى وتباريح الغرام وربما الميول إلى بنات جنسها.
إنّ أشعار سافو مترجمة إلى معظم لغات العالم ، ومنها ترجمة نثرية إلى العربية بقلم الدكتور عبد الغفار مكاوي . أما ميشيل مارتين في كتابه قصائد الغزل العالمية The World,s Love Poetryفقد اختار من شعرها تسع قصائد أرى أن أقدّمها معرّبة شعرأ بتصرّف ، رغبة مني في النأي عن الترجمة الحرفية ، وأبدأها بقصيدة ابتهال إلى" كبريس " وهي أفروديت إلهة الحبّ والجمال :
إيهِ أفروديـــتُ يا ذاتَ الكمال ِ لا سواك ِيعتلي عرش الجمال ِ
زفـــسُ ربّـــــاك ِوأنـــت ابنته عشت ِ فـــي عــزّ لديه ودلال ِ
ولقد زفّـــك للأعـــــــــــرج إذ لم تجيبيـــه إلى فعــــل المحال ِ
كم أناديك بشعــــــري فاعلمي ما أعانيــــه بصبــــر واحتمال ِ
أسرعـــي نحـــويَ في مركبة تسبق الطيــر وتجري لا تبالي
واهبطي فالأرض سوداء ترَيْ كيف بَلبـــالُ الهــوى بلبلَ بالي
يا لَبشـراي السنونـــــو قد أتت بكِ مثلَ الحلــم أو طيف الخيال ِ
قلتِ لــي : مــــاذا تريدين وما بك يا سافــو أجيبي عن سؤالي
ما الذي أضنـــاك ِحتى قد غدا جسمُك الناحل عوداً في الهزال ِ
قلتُ : من أحببتها قد أعرضتْ ونأت عنّـي ولم ترأفْ بحـــالي
وهي لا تقبل ما أهـــــــدي ولو كان ما أهدي لها روحي ومالي
قلتِ لي : ســوف تغاديـــك بما يثلــج الصــــدر ببــــذل ونوال ِ
وهدايـــاك ِغــــداً تقبلهـــــــــا ويجـــيء الشكـر منها بالتوالي
وستهديك هـــدايـــــا جمّــــــة ً وتوافيــــــك بحـــــبّ ووصال ِ
قلتُ : ما أرجوه منــك رحمة ففؤادي عن هواهـــا غير سال ِ
حالفينـــي أنـــــت إن حالفتني أهزم ِاليـــأس وصولات الليالي
وأنا عبــدة مـــن أعبـــــــدها وبذا سدتُ علــــــى كلّ الرجال ِ
لك أفروديــــتُ صلّيـــتُ ألا فاقبلي منَــي صــلاتي وابتهالي
لي شهود من دموعي في الهوى وخشوعي وخضوعي وامتثالي
أنـــت لن تلقَـيْ كمن أحببتها وأنا في الحب لـــن تلقـَي مثالي
يتجلّى ملمح ذكاء سافو في هذه القصيدة منذ البداية بإظهار تعاطفها مع أفروديت فقد عانت هذه من والدها زفس ( زيوس) الذي زوّجها إلى الإله الأعرج ، وهو هفستوس ( فولكان) كما يسمّيه الرومان ، وهو ابن زيوس وهيرا ، وقد أصابته عاهة العرج عندما ركله والده زيوس . وأمّا زفاف أفروديت إلهة الحسن والجمال إلى إله قبيح أعرج حدّاد يضرب بالمطرقة على السندان بجانب موقد مجلل بالسواد ومكلل بالدخان فكان قصاصاً لها لأنها لم تجب زيوس إلى ما يبغيه ، فقد أبت وتمنّعت عندما راودها عن نفسها . فاعجب لهذا المدخل النفسي الفني من قصيدة سافو لاستدرار عطف إلهة الحب والجمال ، وقد نجحت وأظهرت براعتها في شرح حالها كعاشقة فافت بعشقها الرجال جميعهم فضلا عن النساء .
http://www.arab2000.net/wnewsDetails.asp?i...id=29712&cid=53