مشروع ليبرالي عالمي، أم ديمقراطية وطنية؟
(قراءة في ليبرالية د. خالد شوكات)
كاظم محمد
كانت بلداننا ومجتمعاتنا ومنذ قرون عديدة، تنوء تحت حكم السلاطين والملوك، واصبحت فيما بعد مستعمراتٍ محتلة وتابعة لدول رأس المال ومصالح شركاته الكبرى، والتي تعرضت لابشع انواع النهب والاستغلال الاقتصادي والسياسي، وفرض عليها نظام الاعاقة والتخلف الاجباري، بالرغم من وجود الامكانيات البشرية والطبيعية التي تؤهلها لانطلاقتها الطبيعية بدورة النمو الاقتصادي والاجتماعي وبناء انظمتها السياسية التي تضمن استمرارية هذا النمو ومعالجة عواقبه الثانوية من خلال تكريس اسس انظمة وطنية ديمقراطية ودول المؤسسات الدستورية، التي تتفاعل بروح المصالح المتكافئة مع محيطها الدولي .
ان نظام الاعاقة والتخلف والتبعية المفروض من الدول الاستعمارية، لأجل استمرار نهبها الاقتصادي ولأجل الاهداف السياسية الاقليمية والعالمية لهذه الدول، استدعى لجم مجتمعاتنا وبلداننا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا، واصبح ذلك سمة تميزت ولازالت تتميز بها الدول المحتلة والمستعمرة. وبالمقابل اصبحت المقاومة وبكل اشكالها واساليبها المختلفة، سمة تُميز القوى الاجتماعية والاقتصادية الناهضة. ولذلك كانت دعوات التحرر والحرية والاستقلال والديمقراطية، والتي نادت بها تيارات اسلامية وقومية وماركسية. اي ان شعوبنا وطلائعها الوطنية قد فرض عليها الموقف المقاوم النابع اصلآ من الرغبة الانسانية في رفض الظلم والاستعباد والاستغلال، وشعوبنا وتياراتها ليسوا من هواة الصدام، بل بموقع الدفاع ومن على ارضهم ضد مشروع الهيمنة العسكرية والسياسية، العائق لرسم مسار تجاوز التخلف والتبعية المفروض، والاستمرار في نموها الطبيعي الذي يحتاج الى بيئة سياسية واقتصادية صحية، تستطيع من خلالها تصليد ركائزها وتنويع عناصر انطلاقتها ، مستندة الى موروثها الحضاري والثقافي وما تمتلكه من قدراتها الخاصة ونتاج فكرها وجهدها الاجتماعي، لتصيغ لنفسها طريقها المتواصل مع مجمل التغيرات والتطورات المحيطة بها.
هل يوجد مشروع ليبرالي دولي؟
انه ليس بالغريب، مع المتغيرات التي حدثت في اواخر القرن الماضي وبالاقتران مع ترتيبات النظام العالمي لصالح القطب الواحد وطغمته الفاشية، ليس غريبا ان يترافق استخدام القوة العسكرية للغزو والاحتلال مع الترويج لثقافة وفكر العصر الامريكي، باستخدام ترسانة هائلة من وسائل الاعلام ومراكز البحوث والدراسات الامريكية للتأثير على اتجاهات الفكر والثقافة لمجتمعات البلدان المستهدفة، في محاولة مستمرة غاياتها الاساسية خلق القاعدة الثقافية والفكرية والسياسية لتقبل استمرار العوق والتبعية المفروضة منذ عقود طويلة، ولكن باشكال وصيغ وبأنماطٍ حديثة وتحت مسميات مشاريع الليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان.
يدعو السيد خالد شوكات (الى اندماج العالم العربي في اطار المشروع الليبرالي العالمي) وهو خلاصة ما اراد ودعا اليه في مقالته المنشورة في القدس العربي بتاريخ 9-1- 2006 ، بعد ان وضع شعوبنا وتياراتنا القومية والاسلامية وتأريخ هذه المنطقة على مشرحة التزوير والتضليل والتعمية، ليضعها في قفص الاتهام التاريخي وليحاكم مقاومتها وفكرها وطرق نضالها وثقافتها وليشهر سوطه الفكري بجلدها على ما ارتكبت من اخطاء طفولية مغامرة وليدعوها لأن تتأدب وتتعقل وتعرف حجمها ازاء اسيادها، وان لا تقترب وتنافس الاخر بما هو مهيمن فيه وتبحث لنفسها عن موقع يرتضيه لها صاحب العصى الغليضة في دورة الاقتصاد العالمي، وتنسى انها محتلة او مستلبة وبالتالي تكن وتستكين وتندمج في مشروع (الليبرالية العالمي) لتطور من قدراتها الوظيفية في خدمة مشاريع المحررين الجدد.
ان قلب الحقائق بتلبيس شعوبنا و التيارات القومية والاسلامية المنطق الجيني للصدام مع ما اسماه السيد خالد شوكات وبكل لطافة (الموضوع الدولي والغربي)، هي محاولة ليست بجديدة لأنكار وتبسيط وتسفيه طبيعة الصراع واهدافه، وطبيعة المشروع الذي يدعو له ومراميه، فهو في الوقت الذي يضع شعوبنا في موقع البرابرة الجهلة الذين لايمتلكون مقومات التعاطي الحضاري مع اشكال هذا (المشروع الانقاذي) الا من خلال الصدام المستمر، يتناسى عن عمد او قصور التاريخ الاستعماري والسياسي لطبيعة العلاقة وقانونها الذي حكم ويحكم بين دول الشقاء والغازين المستعمرين.
ماهية هذا المشروع الليبرالي العالمي
وللأجابة على هذا السؤال الذي ربما يدركه السيد خالد شوكات، نشير الى ان الفكر الليبرالي كنتاج لمرحلة ونمط انتاج، استدعى اضفاء جو من الحرية والانفتاح على النشاط الفردي والمؤسساتي، واطلاق العنان لدورة راس المال لتأخذ مداها عبر المنافسة المطلوبة، والذي بدوره عمل على زيادة وتيرة النمو الاقتصادي واضافة قيمٍ جديدة له. أي ان ولادة هذا الفكر السياسي هي موضوعية في سياق التطور الطبيعي للمجتمعات الصناعية، بعد ان افرزت الراسمالية قوانينها الخاصة وقيمها الاجتماعية والفكرية والسياسية.
لقد سبقت الليبرالية كفكر سياسي لمرحلة التنافس الراسمالي الحر وبديمقراطيته الواسعة، سبقتها ديمقراطية البرجوازية بهوامشها المحدودة، وهي الولادة السياسية الاولى للنظام البرجوازي الاوربي، والتي اتسعت افقها طبيعيآ مع التوسع لنمط الانتاج وتمركزه، وانتجت بدورها فكرها السياسي المتلائم مع طبيعة سيادة هذا النمط من علاقات الانتاج، لتتيح فيما بعد لنمط اوسع واشمل من الديمقراطية الليبرالية التي تحقق الحرية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المطلوبة، والمولودة طبيعيا لتلبي حاجات المجتمع. فأين هي مجتمعاتنا من هذا النمو الطبيعي المتطور الذي يفرز نمطآ انتاجيآ معينآ، ليبرر بدوره الحاجة الى ليبرالية منفتحة تلبي متطلبات مرحلتها؟ فأذا نظرنا الى مجتمعاتنا وبلداننا فأنها لازالت تعاني من تشوه بنيتها الاقتصادية والاجتماعية كنتيجة طبيعية لنظام الاعاقة والتخلف الخارجي الذي فرض عليها، مترافقآ بقمع سياسي وفكري وجسدي لأنظمة حكمٍ منصبة وتابعة، مارست التعويق الداخلي للحركة الشعبية وتياراتها بتحقيق طموحاتها في الحرية والتحرر، وصادرت كل عناصر التنمية المرجوة اجتماعياً واقتصادياً، وبتعضيد ودعم استعماري لضمان استمرار بقاءها.
وبعد ان نجحت حركة بعض التيارات الوطنية العسكرية والمدنية في اقامة انظمة حكم وطنية في بعض البلدان، استبشرت فيها شعوبنا بمستقبل افضل ، في هامش الحرية والتحرر والتنمية، فحوصرت وتعرضت لأساليب العوق الخارجي، لأجبارها على التراجع والانخراط في قطيع التبعية، شاءت ام ابت، بالضغط او بالغزو.
اشكالية نمط التفكير والتصادم
ان قرع طبول الليبرالية ومشروعها العالمي كما يسميه السيد خالد شوكات والموجهة بشكل خاص لمجتمعاتنا، يتناقض مع ضروراتها الاقتصادية والاجتماعية في بلداننا، ويشير بشكل ساطع الى اهداف هذه الدعوات التي تترافق مع الغزو والاحتلال وتتناغم مع متطلبات العولمة الامريكية (وليس العولمة الانسانية) في اعاقة شعوبنا من تشكيل وصياغة ثقافتها وتطورها. انها نظام السلوك السياسي المتبرقع بالليبرالية والديمقراطية، انها ديمقراطية عصابات السياسة والنهب الموجهة بالاساس لدول المحيط الجغرافي بأسرائيل ومجتمعات النفط العربية.
ان النظر بسطحية الى العروبة من خلال تداعيات الانظمة الاستبدادية والوراثية ولبوسها القومية والدينية، وكذلك النظر الى الاسلام من خلال بعض ظواهر الاسلام السياسي واطره وممارساته، والخلط المتعمد مع الارث الروحي والحضاري والثقافي والنضالي، وما تمتلكه شعوبنا من قدراتها الخاصة، هو طرح متعمد يبغي التشويه والتضليل والتعمية للوصول بنا، كما يريد السيد خالد شوكات، الى نبذ خصوصيتنا، وهي عندنا حالة سوية كما عند المجتمعات الاخرى، ويدعونا للتخلي عن رفع الصوت الاحتجاجي او المقاوم ولندخل في تجريبية القبول المقترحة من قبله، والاستكانة امام الاحتلال ومنحه فرصة اللعب بمصائر الاخرين كما يستشهد في حالة العراق، ويدعو الى التخلى عن نمطية التفكير المعارض والعقلية التصادمية ، ليتسنى التحاقنا بمشروعه الوهمي، متناسيا اننا نمتلك قدراتنا على صوغ طريقنا الديمقراطي الوطني المتفاعل مع المحيط الانساني بمختلف انظمته والقادر على فتح المجا ل الحيوي لبدايات التكامل الاقتصادي والاجتماعي لشعوبنا، والذي يوسع الافاق الرحبة للتفاعل الانساني.
جميل ان يتساءل السيد شوكات، فيما اذا كان بمقدور العرب تجريب منطق اخر للتحليل السياسي ولو لمرة واحدة، فيما يخص القضية العراقية ، عبر نحت تجربة مميزة كما فعل اليابانيون والالمان والكوريون ... ، فرغم ان مقاربة ومقارنة شوكات تتعارض في اسسها الموضوعية والتاريخية، فقد تناسى السيد شوكات ان هذه البلدان لاتمتلك مصدر الطاقة المغري ونسي انها دعمت بمشروع مارشال من اجل المواجهة المقبلة مع القطب الصاعد (الاتحاد السوفيتي) وعناصره الجغرافية في اوربا واسيا.
لم يعد العرب والمسلمون فقط ينظرون الى منظومة الافكار والسياسات الامبريالية كتهديد جدي لثقافتهم وخصائصهم واستلاب حريتهم ونهب مواردهم، فهاهي بلدان اوربية ومكونات غربية وتيارات سياسية واسعة غربية وامريكية، وكذلك بلدان من مختلف القارات ترفض وتقاوم هذا النهج السياسي والعسكري للطغمة الامريكية، وهاهي بعض دول امريكا اللاتينية تتحدى وبقوة عنجهية النهج الامريكي من خلال ديمقراطياتها الوطنية الغير معلبة او المتبرقعة (بديمقراطية) ونهج الطغمة الفاشية، والتي افرزت حكومات وطنية النهج والطموح، قوية بشعبها، رافضة الرضوخ للاستغلال والتبعية.
لقد عبر الرئيس البوليفي المنتخب افضل تعبير عن وطنية النهج والتفاعل الايجابي مع المحيط الدولي، عندما اشار، لا يوجد شئ نتعلمه من امريكا في مجال حقوق الانسان والديمقراطية!
وفي الوقت الذي يصر السيد شوكات وغيره من من دعاة الليبرالية الامريكية ومشروعها الموجه لمنطقتنا، على ديمقراطية ليبراليتهم المفروضة بقوة الاحتلال والخنق، والمرتبطة بتوجهات مشروع قوة دولية وطغمة وحشية، سعت وعملت وتسعى الى اعاقة المشاريع الوطنية الديمقراطية لمجتمعاتنا، فأن العديد من اقطاب السياسة، ومن رحم هذا النظام الامريكي، قد سخروا من مشروع الادارة هذا ومن مجمل النهج المتبع للادارة المتصهينة. لقد قال السيد (بريجينسكي) مستشار الامن القومي السابق في لقاء مع الفضائية العربية يوم 13/1 (ان الديمقراطيات والاصلاحات يجب ان تنبع من هذه البلدان بدون فرض او قوة).
فهل الأقوم لنا نهج (التحرير) الليبرالي، نهج الاغتراب والنهب والتدمير، وتحقير وتسفيه الموروث الحضاري والثقافي والاجتماعي لشعوبنا؟ ام النهج النهضوي والانمائي الوطني الديمقراطي العادل، الذي يستأنف مسيرة النضال التحرري الانساني بمنجزاتها وخبراتها وتجاربها الوطنية والاقليمية والاممية التي تقطعها كل مرة سياسات الهيمنة الامبريالية المركزة باقنعتها المتجددة والعازمة على رفع فواصل الاستعباد الداخلي عن الخارجي لتوحد عالمها تحت ناموسية شفافة خارقة القوة. فلا حدود للجشع ما دام امبراطور السادة واحد في هذا العالم فهو مهيئ ليستعبد العقول قبل الابدان لما له من قدرة على الادهاش التي منحته اياه آلهة راس المال الفلكي، وما يترتب على ذلك من حقوق مكتسبة يجب ان يخضع لها القريب والبعيد. لكن الشعوب لن تتنازل عن منجزاتها ومكاسبها التي حققتها بنضال قاسي ومتفاني وبتضحيات جبارة سوف لن تذهب هباءً منثوراً، وانها لن تستسلم للبربرية المخملية التي ستنهار حتما تحت ضربات وصرخات الحرية القادمة لا محال.
http://www.kanaanonline.org/articles/00768.p
df