مقال مهم :
250 سنة على ولادة موزار (1756 1791)
ليس موسيقياً، إنه الموسيقى
بشير صفير
موزار
يحب بعض الناس الكتب التي تتخذ أفعل التفضيل معياراً لمضمونها. ككتاب <<غينس>> الذي يصدر سنوياً، حاملاً الأرقام القياسية الجديدة التي حطمت أرقام السنة المنصرمة بالإضافة إلى تلك التي لم يتم تحطيمها. أكره جدياً هذا النوع من الكتب، لكنه حدث أن قرأت عندما كنت صغيراً كتاباً من هذه الفئة، يتناول مسألة الشهرة، أن الشخصية الأشهر في العالم هي النبي محمد، يلي النبي محمد السيد المسيح ومن ثم عالم الفيزياء اسحق نيوتن (... الديانات السماوية الثلاث!) الخ... وافقت وقتئذٍ على هذه المعلومة واعتبرتها صحيحة وعلمية. أما الآن فتأكدت بأن ما نسميه براءة عند الأطفال هو مرادف للسذاجة عند الكبار. يعطي الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا في كتابه الأخير <<الستار>> (Le Rideau) تعريفاً علمياً للإنسان المشهور، فيقول ببساطته ووضوحه المعهودين: <<يصبح الإنسان مشهوراً، عندما يتخطى بشكل ملحوظ، عدد الذين يعرفونه، عدد الذين يعرفهم>>. انطلاقاً من هذا التعريف العلمي الجميل، يصبح بالنسبة للمؤمنين فقط النبي محمد والسيد المسيح من الشخصيات الأقل شهرة في التاريخ، فهم يعرفون كل البشر الأحياء منهم والأموات. أليس هذا ما يقوله الدين؟
أما إذا تناولنا هاتين الشخصيتين من جهة صفتهما البشرية فيصبح ما قرأته في الكتاب عندما كنت صغيراً أقرب إلى المنطق، وربما يكون صحيحاً. وهذا مريح لأسباب عدة.
أما السؤال الذي نطرحه على أولي الألباب فهو التالي: من هي الشخصية التي ستحتل رأس قائمة الشهرة بعد مئة ألف سنة؟ الجواب سهل وأكيد، والشخصية التي ستزداد شهرتها في الوقت الذي ستتقلص فيه شهرة الآخرين، وردت شهرتها في عنوان المقالة.
في 27 كانون الثاني 2006 أطفأ موزار شمعاته ال250. كل عام وموسيقاه بخير.
كلما ازدادت عظام هذا العبقري تأكلاً وتفتتاً في مقبرة القديس ماركس في فيينا، ازدادت موسيقاه حياةً وانتشاراً وازداد تقدير البشرية لها، وازدادت هي جمالاً. إنها معادلة علمية تخضع لقوانين الطبيعة وعلم الأحياء.
عندما قررت الكتابة عن المناسبة، لم يخطر إلى ذهني سرد قصصي يتناول سيرة موزار أو أخباره غير العادية، أو تحليل لمجمل أعماله. أردت الكتابة بولع وجنون عن علاقتي به وبموسيقاه وقررت إلقاء الضوء على إحدى خصائص عبقريته مستنداً إلى بعض الأمثال التي تبين أن الجملة الموسيقية الجميلة بعد موزار أصبح خلقها أصعب. لن أكتب عن موزار سيرة أو تحليلاً وذلك لسببين: الأول هو أن البعض يعرف عن حياة موزار وأعماله الكثيرة، الكثير. وستكون قراءة ذلك بالنسبة إليه تكراراً مملاً. السبب الثاني هو أن حبراً كثيراً سيسيل في هذه الفترة للكتابة عن حياة موزار العظيم وحِبره (بكسر الحاء) الأعظم. وسيكون ذلك مملاً للفئة التي آنف ذكرها ولكنه سيكون مفيداً لغيرها، الفئة التي لم تجد في هذه المقالة سيرة حياتية لموزار. المهم أن لا يضلل بعض الصحافيين القراء بمعلومات خاطئة كتلك التي نسبت إلى ألبرت آينشتاين الفيزيائي كتاباً عن موزار بسبب تشابه الأسماء بينه وبين كاتبه، عالم الموسيقى ألفرد أينشتاين. Attention!
ما سألت يوماً أحداً من المهتمين بالموسيقى عموماً وبالموسيقى الكلاسيكية خصوصاً عن الموسيقي الأهم بالنسبة إليه أو الأحب إلى قلبه إلا وأجابني: بيتهوفن، أو باخ، أو شوبان، أو رخمانينوف، أو هايدن،... وأحياناً يقول: <<عندما بدأت أستمع إلى هذا النوع من الموسيقى كان فلان هو الموسيقي المفضل لدي أما الآن ففلان>>.
موزار هو الموسيقى
فعلاً، لم أسمع مرة أحداً يقول موزار. عرفت الآن لماذا. كان علي أن لا أذكر عبارة موسيقي في السؤال. موزار ليس موسيقياً. موزار هو الموسيقى. الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة <<غلطة>> بحسب الفيلسوف الألماني نيشه. الموسيقى هي الحياة. موزار هو الحياة.
أردت يوماً أن أكتب جملةً صغيرة صادقة ومعبرة، تصف موزار، وذلك أسوةً ببعض الذين كتبوا عنه، وعلى غرار الجمل الجميلة التي تنفجر عند قمة التعبير عن شيء أو حالة ما أو شخص نحبه. كتبت: أسمّي موسيقى الموسيقى قبل موزار، وأسمّي موزار الموسيقى بعد موزار.
أتتني هذه الجملة/ الاستنتاج بعدما اكتشفت أنه قبل موزار كان خلق جملة موسيقية جميلة ممكناً، فبعد حوالى 700 سنة من الموسيقى المكتوبة أي منذ القرون الوسطى، استطاع على سبيل المثال المؤلف الألماني باخ (17501685) أن يكتب الكثير من هذه الجمل. جملاً فريدة لا تشبه أي جملة في التاريخ، لأن الاحتمالات كانت لا تزال كثيرة. باخ توفي عام 1750. موزار ولد عام 1756 وبدأ بالتأليف عام 1760/1761 ومات عام 1791. بيتهوفن ولد عام 1770 السنة التي منح فيها موزار أهم وسام تقدير في أوروبا. أربعة عشر عاماً هي تاريخ من الموسيقى. الأعوام الأربعة عشر الأولى وليست أي أعوامٍ. موزار هو ملك الجملة الموسيقية الميلودية. كتب الآلاف منها، أنهى الاحتمالات في علاقة النوتات بعضها ببعض من حيث التتالي والوقت والهارموني فأصبح إيجاد احتمال جديد مهمة صعبة، طبعاً إذا أخذنا بعين الاعتبار المعايير الموزارية في الجمال والبساطة والكمال.
كتب بيتهوفن سيمفونيته الثالثة عام 1803 فأصبحت من أهم الكتابات السيمفونية في تاريخ الموسيقى وما زالت. أهداها إلى نابليون بونابرت وعاد وتراجع عن هذا الإهداء بعد سنة عندما أعلن الأخير نفسه إمبراطورا.
زال الإمبراطور، أما هذه السيمفونية فما زالت. العمود الفقري لهذه السيمفونية هو الجملة الموسيقية التي تحمل الحركة الأولى منها، التي تحمل بدورها الحركات الثلات التالية. الجملة هي نتاج عبقرية بيتهوفن على عمر ال33. أما الجملة ذاتها فهي نتاج طفولة موزار على عمر ال12 سنة في افتتاحية عمل أوبرالي صغير بعنوان Bastien und Bastienne.
مثل آخر من بيتهوفن، الموسيقي الأهم منذ موزار. كتب الموسيقي الألماني العنيد الكثير من الأعمال. في مقدمة هذه الأعمال تأتي الأعمال السيمفونية في الصدارة من حيث الأهمية: تسع سيمفونيات. إذا أخذنا الثماني الأولى تأتي الخامسة في الصدارة والبعض يختار الثالثة لهذا المنصب أو السادسة. أما إذا أضفنا التاسعة فنحصل على إجماع مطلق لاحتلال قمة الأعمال السيمفونية ويتخلى أنصار الخامسة والثالثة والسادسة عن مرشحهم الأول مصوتين لمصلحة التاسعة. التاسعة من أربع حركات، وتحمل استثناءً (آنذاك) في تاريخ الكتابة السيمفونية حيث أضاف بيتهوفن كورالاً إلى الاوركسترا في الحركة الرابعة لتأدية ما يعرف بأنشودة للفرح، وهو نص للأديب الألماني شيلر. ما من بشري وجد على هذه الكرة الأرضية وعرف بوجود بيتهوفن إلا وعرف أقله بوجود سيمفونيته التاسعة. وما من عارفٍ بالسيمفونية التاسعة لم يعرف الحركة الرابعة. وأكثر من ذلك، ما من بشري اليوم سمع بوجود الموسيقى إلا وعرف الحركة الرابعة من هذه السيمفونية حتى ولو لم يعرف بوجود بيتهوفن ولا بالسيمفونية: كل ما يعرفه هو دندنة هذا اللحن الشهير أينما سمع نوتاته الأولى. إنه اللحن الأكثر شهرة وجمالاً في تاريخ الموسيقى. حتى أصدقاؤنا على الكواكب الأخرى من الممكن أن يكونوا قد سمعوه بعدما أرسله علماء الفضاء من جملة ما أرسلوا إلى الفضاء في تلك الكبسولة الشهيرة التي ذهبت نحو احتمال وجود حضارات أو حيوات أخرى في الكون الفسيح لتعطيها فكرة عما صنع سكان كوكب الأرض، قبل انقراضهم. هذه الجملة الموسيقية ذهبت باسم بيتهوفن ولكنها من صناعة موزار.
أقدمه على بتهوفن وبيزيه
ولكن ماذا لو وصلت إلى موزار إذا كان الإنسان ينتقل إلى كوكب آخر بعد الموت؟ لن يحدث شيء. سيقول ضاحكاً: <<مساكين البشر، ما زالوا يحاولون!>> اللحن الجميل، شرف البشرية، كتبه موزار عام 1775. هي جملة موسيقية تمرّ مرور الكرام في بداية عمل ديني صغير بعنوان Misericordias domini، تعزفها الفيولونات بعد حوالى دقيقة من البداية ولا يعوَّل عليها لاحقاً. لم يكترث موزار لما صدر عنه، وربما قال: << هذا اللحن عظيم جداً، وهو قاعدة يمكن بناء عمل ضخم استنادا إليها، أي إذا قمت بتطويره وتضخيمه وتكراره... لكني سأتركه وأمشي ليكون لبيتهوفن شيء يقدمه عندما يصبح عظيماً، فهو الوحيد القادر على ذلك والجدير به>>. من المؤكد أن بيتهوفن لم يسرق اللحن، فهو أشرف من السموأل كما يقول العرب، لكن موزار هو الذي قتل كل احتمال خلق جملة موسيقية ذات معايير جمالية عالية، بخلقه كل الاحتمالات. كنت سأكتفي بهذين المثلين ولكنني سأذكر مثلين أيضاً بعيداً عن بيتهوفن لكي لا يؤخذ علي أني أحاول التقليل من شأنه في حين أعتبره من المؤلفين المفضلين لدي إن لم يكن أفضلهم. إذ بعيداً عن بيتهوفن، انطلقت الثورة الفرنسية عام 1789. لم يبق ربما من هذه الثورة سوى النشيد الفرنسي أو ما يعرف بال Marseillaise . ولو خلالها عاش أكثر منها بكثير. هذا النشيد وضع كلماته روجيه دوليل (Claude Rouget de Lisle) عام 1792. ألفه ليكون نشيد حرب قبل أن يصبح النشيد الوطني الفرنسي. باختصار، اللحن الموجه لهذا النشيد ورد في الحركة الأولى من الكونشرتو رقم 25 للبيانو والاوركسترا لموزار. عمل كتبه عام 1785 وككل مرة اللحن يمر سريعا، لأنه ليس عند موزار وقت للزهد والتأمل والنرجسية، فعليه الانتقال سريعاً إلى لحن آخر، فالحياة قصيرة، وحياته أقصر ومهمته كبيرة: <<الموسيقى كلها موجودة في رأسي، أحتاج فقط للوقت لوضعها على الورق>>. كما كان يردد دائماً.
أما المثل الأخير فيطال المؤلف الفرنسي جورج بيزيه (18381875) الذي إذا أردنا اختصار أعماله، وحتى الأعمال الأوبرالية الفرنسية التي كتبت في القرن التاسع عشر، يمكننا أن نكتفي بالأوبرا الشهير الذي كتبه عام 1875، كارمن، الذي بدوره يمكن اختصاره بالأغنية التي نالت شهرة وشعبية واسعة في الموسيقى الفرنسية وهي بعنوان l'amour est un oiseau rebelle. اللحن هو غاية في الجمال والروعة، لكنه ليس إلا تطويراً للجملة الموسيقية نفسها التي تفتتح، قبل أن تغيب سريعاً، الحركة الرابعة من رباعي وتريات رقم 13، كتبه موزار عام 1773.
هناك الكثير من الحالات المماثلة التي نصادفها، ليس فقط في الموسيقى الكلاسيكية، وهناك أيضاً الكثير من حالات التشابه هنا وهناك مع ما كتب موزار لم نكتشفها بعد لأن ذلك صعب جداً. ولكني على يقين بأن العبقرية في مجال التأليف الموسيقي بعد موزار حكم عليها دون أن تدري بتكرار ما يمكن أن تكون قد قالته عبقريته أو ما كان من الممكن أن تقوله.
250 سنة على ولادة موزار. 2006 هي سنة موزار. تعالوا نحتفل ونفرح ونرقص والكل مدعو. فموسيقى موزار هي تلك الرقصة الدائرية حيث نشبك الأيدي: سعداء كنا أو محزونين، كباراً أو صغاراً، أذكياء أو بسطاء، موسيقيين أو غير موسيقيين، عشاقاً أو مجرمين. حتى الحيوانات والنباتات مدعوة إلى الحفل. وإذا دعونا الله للانضمام إلينا فسيقول: هذا شرف لي.
في المقالة الكثير من المبالغة واللاعقلانية في طرح الأفكار والتعبير عن هذه الحالة، حالتي. نعم. ومن قال إن الحب إذا أصبح عقلانياً ومنطقياً لا يفقد أحد أهم عناصره: عقله ومنطقه. فصديقي <<نسمة>> ما فتئ يعلمني هذا في <<أقواله>> كل يوم جمعة في جريدة <<السفير>> منذ عدة سنوات. في المقالة الكثير من ال<<أنا>>. نعم نعم. فأنا أكتب عن موزار وكأن من البديهي أن اسقط بين الكلمات. لقد سقطت سهواً، دون أن أدري، لأنني أكتب عن موزار. لقد سقطت لأن الإنسان عقل وقلب كما يقال. لذا كلما أراد أحدنا الكتابة عن الإنسان الأكثر حضوراً في حياته، ينطلق قسم من الحبر من عقله وقسم من قلبه ويلتقيان في اليد. يسيلان حتى أطراف الأصابع، فالقلم، قبل أن يسقطا على الورق.
وأخيراً، هذا النداء الإنساني: من لم يسمع موسيقى موزار بعد فليبدأ فوراً بذلك قبل انقضاء الحياة. فالموت حتمي، أما أيامنا، فالكمية محدودة، عدا عن أننا لا نعرف حجمها.