الإطار الرابع: الإستقرار عند التوجه الحداثي بعد مرحلة الإنهيار التام للأوضاع الحالية (فيما سماه الغرب بالفوضى الخلاقة). و بوضع حساسيتنا من هذا الطرح جانبا - بسبب شخصيات متبني هذا الطرح - فيمكن تلخيصه في حالة ما بعد الطوفان - حيث الفشل و الإنهيار التام لجميع الأيديولوجيات الحالية (قومية/دينية/قبلية...إلخ) و باتت الأمور أكثر وضوحا بعد إنقشاع السحب و الغيوم الفكرية التي سببت الإنهيار.
ما يقصد بالإنهيار هنا - هو إنهيار منظومة المرجعية المعرفية للمجتمع - و شيوع الفوضى الثقافية.
و المرجعية المعرفية لمجتمع ما هي الأساس الذي يستمد منه هذا المجتمع يقينه على كافة المستويات. و هي تمثل البنية التحتية لهذا المجتمع و التي تتأسس فوقها باقي المنظومات التي تشكل هوية هذا المجتمع: مثل المنظومة الأخلاقية و التي تحدد بدورها القوانين والدساتير التي تحكم المجتمع و منظومة الحكم و المنظومة الإجتماعية و الطبقية و كذلك المنظومة الإقصادية للمجتمع و وسائل و طرق و حجم الإنتاج و التوزيع ... و ليس إنتهاءا بالعلاقات التي تحكم هذا المجتمع بالعالم من حوله.
و تبعا لطبيعة هذه المرجعية المعرفية و مرونتها أي مقاومتها من عدمه للتغيير و التجديد - قد يأتي إنهيارها أولا و قبل باقي المنظومات أو قد تتزامن إنهيارات كافة المنظومات - أو قد يحدث أن تنهار كافة المنظومات الأخرى من حولها تاركة إياها لتواجه وحيدة ضرورة التغيير في مشاهد عبثية.
عوامل الإنهيار:
إنهيار المرجعية المعرفية الضعيفة تحت وطأة منظومات أشد قوة هو إنهيار حتمي و لكن تبقى الكثير من العوامل المؤثرة و المساعدة بسرعة و كيفية و كذلك نتيجة هذا الإنهيار:
- العامل الإعلامي:
و تمت تغطية تأثير و نواتج هذا العامل بمداخلة السيد بهجت:
أنقر هنا
- العامل الإقتصادي:
قد يبدوا للعيان أن الوفرة الإقتصادية لمجتمع ما تشكل جدار يحميه من إنهيار منظومته المعرفية و باقي المنظومات تباعا - إلا أن واقع الأمر مختلف.
صحيح أن الإنهيار الإقتصادي يعتبر عامل محفز لسلسلة الإنهيارات تباعا لكن وفرة الإقتصاد لن تمنع أبدا الإنهيار في وجود هذا الإنفتاح الإعلامي - بل ستعمل على تأخير مظاهره إلى حين بينما تنخر باقي العوامل بأساس الخلفية المعرفية لهذا المجتمع. فما يبدوكأنه وضع إستقرار لا يعدو أن يكون ثبات مؤقت غير مستقر - ينتظر الهزة الإقتصادية مثلا لكي يبدأ سلسلة إنهياراته.
كما يجب أن نعلم أن جميع العوامل هي مؤثرة و متأثرة - و الإقتصاد إن لم يكن موجه و منظم و مدروس علميا أي إقتصاد منتج و ليس عشوائي إستهلاكي - فالإنهيار مصيره عاجلا كان أم آجلا.
- عوامل أخرى عديدة لا مجال لحصرها: مثل التركيبة الطبقية و الطائفية لهذا المجتمع و مدى إستقرارها و مدى الإنفتاح السابق لهذا المجتمع على غيره و مساحة سطح إحتكاكه مع مجتمعات أخرى و شكل المنظومة التعليمية به ...إلخ.
أشكال الإنهيار:
في مجتمعاتنا العربية - مجال دراستنا الحالية - نتمتع بخلفية معرفية مغلقة غير مرنة و ليست ذات قابلية للتجديد و التغيير و المراجعة - و لذا فهي آخر ما سينهار من منظومات هذه المجتمعات.
لكن تتغير أشكال الإنهيار الحادث بالفعل تبعا للعوامل المختلفة التي تؤثر بكل منطقة على حدة:
-
ففي مصر و الشام و المغرب العربي حيث حدث إنفتاح قسري على العالم الخارجي لحين (بسبب الإحتلال الأجنبي) سبب و حتى بعد زواله إنفتاحا نسبيا للمجتمع و محاولات تحديث تبنت أطر قومية إنتهت للفشل - تجد الإنهيار الحاد بجميع منظومات المجتمع:
إقتصاديا:
و بالرغم من المقومات الصلبة و القوية لإقامة إقتصاد قوي يعتمد عليه - و خذ مصر كمثال بنهرها الجاري و مساحاتها الزراعية الهائلة ناهيك عن المقومات الإقتصادية الأخرى مثل السياحة ...إلخ كل هذا مع وجود عامل القوى البشرية الضخم - بالرغم من كل هذا إلا أن جميع تلك الدول وصلت لمراحل الإنهيار الإقتصادي و الأدهى من ذلك عدم وجود أي أمل شعبي في إصلاحه - أليس في هذا ما يدعو للدهشة و التساؤل؟؟
أخلاقيا:
و هنا نأتي لأشد المشاهد هزلية و غرابة - حيث أنه وضع تاريخي غير مسبوق - و الموضوع ليس ببساطة الإنهيار الأخلاقي على المستوى الفردي و المعاملات اليومية كما يبدو - فمنظومة القوانين المستوردة التي تحكم و تشرع للمجتمع - هي غير شرعية في وجهة نظر نفس المجتمع !! هكذا و ببساطة.
فالمرجعية الأخلاقية التي إعتمدناها في قوانيننا المدنية هي ناتج مرجعية معرفية لا نعتمدها بل و لا نعرفها و تناقض في أغلبها مرجعيتنا الأخلاقية الحقيقية.
فنظرة لمنظومة القوانين المصرية - ستصطدم بغابة متناقضة في بعضها من القوانين التي لا تشكل في مجملها إتجاه ثقافي أو إقتصادي أو معرفي واضح - و تشكل في مجملها إصطداما مع المرجعية الأخلاقية الناتجة عن ثقافتنا النصية - و الأمثلة عديدة بل و كوميدية في محاكمات ذات أهمية على المستوى الإعلامي كقضية إغتيال فرج فودة مثلا حين تم استدعاء مشايخ الدين لكي يفتوا أن قتله هو مجرد مخالفة إفتئات على الحاكم و ليس جريمة مما يستوجب عقاب القتل! و مثال قضايا التفريق مثل قضية نصر حامد أبو زيد - و ليس إنتهاءا بالمناشدات العدة التي وجهها القضاة أنفسهم للمشرع بتغيير القوانين لتتوافق مع الشريعة.
و على مستوى الأفراد تبقى الأسئلة الحائرة عن حرمانية التهريب مثلا أو أموال البنوك و تبقى التساؤلات شرعية إقتصاد السياحة (المباركة من القانون و الحكومة - و الإنتاج الإعلامي ...إلخ).
هذا التناقض الحاد بين قوانين مجتمع و قيمه هو كارثة بكافة المقاييس و هو إنهيار شديد بمنظومة أخلاق المجتمع - إنتهى عند إنهيار الأخلاق على المستوى الفردي. و محاولة العودة الشعبية للمنظومة الأخلاقية النصية الدينية لتضمن له التوازن النفسي و الإجتماعي. و كحصن أخير لمنع الإنهيار التام.
و على مستوى المنظومة الطبقية و العلاقات الإجتماعية:
نظرا للإنهيار الحادث في منظومة القوانين و الشرعية و حتى الأخلاق الفردية - فما يحكم هذه المجتمعات واقعيا هو قانون الغاب بمعناه الإجتماعي و الإقتصادي - مما نتج عنه إنهيار واضح في طبقاته المتوسطة و إنكماش حاد لصالح الطبقة الفقيرة عدديا و لصالح الطبقة العليا ذات السلطة و المال إقتصاديا.
أما بدول الخليج الأشد إنغلاقا من جميع النواحي لكنها ذات إقتصاد وافر:
الدول العربية البترولية أقل حدة في مظاهر الإنهيار اليومي و بالرغم من هذا لم يمنع إقتصاد الوفرة حالة عدم الإستقرار السياسي و الأمني التي تعيشها هذه المجتمعات - بالرغم من الحكم بالحديد و النار - و ظهور الإرهاب يطل برأسه عليها يوميا.
و بالرغم من أن الوفرة الإقتصادية و قلة الإنفتاح على الخارج قد منعت أو قللت من إنهيار باقي عوامل المجتمع - إلا أن وضع تلك الدول يكاد يكون أسوأ من سابقتها:
فإقتصاد تلك الدول يقوم على مادة خام تم إكتشافها بأرضها بواسطة الغير - و هو يستخرج و يصنع و يباع و يدار بواسطة الغير و لهم و لا شئ آخر و فوائض إنتاج هذا النشاط يذهب للغير - و غير ذلك لا يعدو أن يكون إقتصادا إستهلاكيا متطفل.
و طبقا لجميع قوانين الإقتصاد فهو إقتصاد منهار حتما - و بإنهياره ستفقد الحكومات شرعيتها و سيتعرض المجتمع لإنهيار جميع نظمه مرة واحدة - و لن يكون لهذه المجتمعات العودة للعزلة و الصحراء كما كان بالأمس - بل لطبيعة هذه المجتمعات فالإحتمال الأكبر هو الوقوع تحت براثن الحروب القبلية و العرقية.
نتائج الإنهيار:
بالرغم من حتمية إنهيار المرجعية المعرفية غير المرنة تحت وطأة مرجعيات أقوى - إلا أن النتيجة من هنا ليست حتمية - و الإرادة البشرية تمثل عامل فعال في ما يمكن أن يؤول له مصير المجتمعات التي تستند لها.
يتبع ،،