لا يستطيع أي منا - مهما إختلفت توجهاته الفكرية - أن ينكر أن المجتمعات الإسلامية عامة و الشرق أوسطية بخاصة تعيش أزمة كارثية نرى تداعياتها في كل مجالات حياتنا:
إقتصاديا: لا مجال و لا داعي لشرح كم الفقر و ضعف الإقتصاد.
أخلاقيا: جرب أن تقرأ أي صحيفة عربية و أتحداك ألا تجد مقالة عن الإنحدار الخلقي و ...إلخ. هذا غير المعلوم من تفشي الفساد و الرشاوي.
العنف غير المبرر بمجتمعاتنا. و القتل العشوائي و الإنتحار العشوائي. و إختلاط مفاهيم المقاومة و الجهاد و الحرية ...
علميا و تعليميا: و لا يلزم تعليق.
و الأهم و الأوضح: إنتهاء الشرعية التي نحكم بها أنفسنا - فبلا إستثناء تقريبا إنتهت شرعية و صلاحية حكامنا و حكوماتنا - و تباعا جميع الدساتير التي نحكم بها و معظم القوانين و بتنا نعيش حالة من الحراك الإجتماعي و السياسي غير الصحي نظرا لعدم وجود هدف محدد لهذا الحراك سوى الإنفجار و لا نعلم متى ولا لأين.
لا نختلف إذا على حالة الأزمة الكارثية و إن كنا نختلف لدرجة القتال حين يسوق كل منا تبريراته لأسباب الأزمة.
فالإسلاميين سيسوقون البعد عن الدين كتبرير للأزمة.
و الليبراليين سيسوقون الكثير من الأسباب أولها ديكتاتورية الحكومات و الحكام تارة و عدم إحترام الحرية و حقوق الإنسان تارة ..إلخ. و ستصبح الحكومات و أجهزة الأمن هي السبب المباشر للأزمة.
و الإشتراكيين و الماركسيين سيتمسكون بالإمبريالية العالمية كأبر العوامل المسببة للأزمة.
و فيما عدا ذلك ستجد غابة متشابكة من المبررات - بل ستجد من يخلط - و له كل الحق وسط هذا الظلام - بين أسباب الأزمة و بين ظواهر الأزمة:
كمن يبرر الأزمة كلها بالبعد عن الأخلاق - ناسيا أو متناسيا أن الإنحدار الأخلاقي هو مؤشر لأزمة أعمق و أن الإنحدار الأخلاقي لا يقع في المجتمعات إلا تحت قوى قاهرة و دافعة لتفسخ المجتمع عامة. و لن يبرر لنا حينئذ - ولماذ حدث أصلا البعد عن الأخلاق؟
أو كمن يبررها بفساد التعليم - ناسيا أو متناسيا أن التعليم نشاط إجتماعي و قطاع من المجتمع يفسد بفساده. و ناسيا أو متناسيا بأنه لم يكن هناك أصلا عصرا ذهبيا للعلم و التعليم بمجتمعاتنا لكي يكون البعد عنه أزمة.
أو كمن يبررها بالفساد الحكومي - و أعتبره أكبر تبرير كوميدي - و هو بالضرورة متناسيا أن حكوماتنا الكريمة ليست حكومات غازية بل هي منا - إخواننا و أهلنا - و لن ينضح مجتمع صالح حكومة فاسدة.
و قد يكون لهؤلاء كل العذر في الخلط - فأغلب الظواهر التي هي من الأساس نواتج للأزمة - أصبحت متضافرة و متضامنة مع الأسباب الرئيسية يدا بيد لزيادة الأزمة وصولا بها للإنفجار.
الظواهر الإجتماعية مخادعة تتحول من متأثر لمؤثر تباعا بسهولة.
فمن الممكن لأزمة إقتصادية طاحنة أن تؤثر في نشاط التعليم بمجتمع ما - و الذي بدوره سيأثر سلبا على الإقتصاد .. و هكذا.
بتنا نعيش المأساة كاملة - نعلم بوجود أزمة - و ننتظر الكارثة - و لا نعلم لها سببا واضحا - و يسوق كل منا أسبابه للأزمة و بالتالي روشتة العلاج متناقضا كل التناقض مع الآخرين - مما يذكرنا بمجموعة من النمل التي تتزاحم حول قطعة من الخبز تحاول أن تجرها لبيتها و لكن للأسف تجر كل نملة في إتجاه مخالف للآخرين - و المحصلة أن كلا النمل و قطعة الخبز تظل بمكانها حتى تستنزف طاقة المجموع إنتظارا للكارثة القادمة من السماء لتقضي على المجموع (و هي هنا بهذا المثال حذاء عسكري ثقيل).
الشريط التالي محاولة لتحليل الأزمة ظواهرها و تبعياتها و صولا للعمق - قلب الأزمة و نواتها المتقيحة - و المسبب الرئيسي لمرض كامل البدن.
الشريط مفتوح لكل قلم يضيء لنا زاوية في هذا الكم الذي يبدو لا متناهيا من الظلام و الإلتباس حولنا - سواء إختلف أو إتفق مع طرح صاحب الشريط - فهذا من ضرورات الإجتهاد.
تنويه واجب:
يمكن إعتبار الشريط جزء من مسلسل شرفت بالمشاركة في بعضه و لم يسعدني الحظ بالمشاركة في بعضه و إن كنت قد تابعته متأخرا و أجده ذا صلة بالطرح الحالي - و قد يكون من المفيد للقارئ الرجوع للأجزاء السابقة - و بخاصة أني أنوي إقتباس مداخلات من تلك الشرائط سواء لي أو لكتاب غيري. و المسلسل بالترتيب التنازلي:
الوعي الزائف - الأساطير المؤسسة للأصولية الإسلامية . - بهجت
مستقبل الدين في عالم ليبرالي . - بهجت
مستقبل الليبرالية في العالم العربي - بهجت
نظرية الإطار و استحالة الحوار . - بهجت
التناقض المعرفي .. العلم و الشيطان . - بهجت