[center]
[/center]
لا أذكر أول مرة التقيت فيها الأستاذ، ولكن ما أستطيع أن أؤكده هو أنني لم أتعرف عليه بعد. ولا أملك حين أتذكره إلا أن أشعر بوصمة عار تكلل حياتي السابقة وتتوج كل القراءات والجهود التي بذلتها في تلك الحياة لكي أحاول أن أفهم ولو لمحة واحدة عن هذا العالم الذي نعيشه ، وأحدد موقفا مبدئيا من أحد فروع فروع القضايا التي يغرق فيها هذا العالم.
ولهذا فإنّني كلما رأيت الأستاذ حاولت جاهدا تجنّبه، ذلك أنّه يثير فيّ الحزن العميق، وعندما أتمشى إلى جواره وأتجاذب معه أطراف الحديث، يتضح لي لحظةً تلو الأخرى أنّني عبارة عن كتلة متحركة من الجهل والغباء مقارنة بما عند الأستاذ من علم وبلاغة وطرف وملح وغرائب ومواقف....ولديه المزيد.
والحق أنّني أؤمن أصلاً باستحالة الحديث عن شخص وتقديم صورة كاملة عنه أيّا كان هذا الشخص، وبالغاً ما بلغ من التفاهة وقلّة المقدار وتخلّف الفكر وهذر القول، فلا زلت لا أستطيع أن أقدم تقريراً عمّن يكون هذا الإنسان التّافه بشكل شامل، وهذا بسبب اعتقادي أنّه لا أحد يستطيع أن يفهم أحداً، فيما عدا لمحات منه، ولا أحد يستطيع أن يفهم إلاّ جزءا من نفسه ، شريطة أن يكون مستعداً لبذل جهود لا تحصى ومحاولات لا تكل.
فإذا كان هذا هو موقفي واعتقادي الشخصي من نفسي، ومن التافهين الذين يعيشون على هامش الحياة، فكيف بي وأنا أتحدث عن الأستاذ! ، وكيف يمكن أن يقدم مثلي لمثل الأستاذ؟. ولهذا ترددت كثيرا وهاهي ذي يدي ترتجف أمام سيرة الأستاذ رهبة فلا أعرف ماذا أقول. ولكي أحاول أن أجتاز هذه العقبة الكأداء، فسوف أترك نفسي تتحدث بتلقائيّة وبساطة.
أذكر ذات مرة أن سألني الأستاذ عمّا أعتقده في كيفيّة موت توت عنخ آمون، وعمّا إذا كنت أعتقد ما إذا كان قد مات مقتولاً أم لا، وقد قلت له أنّ الأبحاث الأخيرة كشفت كونه مات ميتةً عاديّة وذلك وفق قراءاتي السريعة في إحدى الدوريات العامّة التي ذكرت أنّ قصة موته مقتولاً كانت غير صحيحة ، وأن الأدلة عليها قد تهاوت.
وهنا ضحك الأستاذ ونظر إليّ بشفقة وقال لي :
- أنا لا أصدق أنّك تمضي وقتك كلّه منذ أن تستيقظ وحتّى تنام في القراءة.
فقلت له : - وكيف عرفت أنّني أفعل هذا يا أستاذ؟.
فقال: - سأخبرك لاحقا.
ثم أخذ الأستاذ يشرح لي بالأدلة المنطقية والتاريخيّة كيف أن توت عنخ آمون مات مقتولاً، وأنّ الذي قتله كان يختبيء خلف عرشه لمدة ربع ساعة كاملة قبل تنفيذ الجريمة، وأنّ الحارس الذي كان يقف عن يمين باب الملك كان على علم بالمؤامرة كلّها.
وأطال الأستاذ الحديث، إلاّ أنّني لم أملّ الاستماع. فالأستاذ كان رخيم الصوت هاديء النبرات واثقها، يعرف من أين تلفظ الكلمة، ومن أين تؤكل الأذن، وقد نجح الأستاذ في أكل أذنيّ.
وكان أيضاً يتحدث بطريقة تجعلني أشعر بالتخدير والراحة عندما أستمع له، ولم أكن أشعر أنّ الوقت يمر، ففي الحقيقة، عندما يتحدث الأستاذ، فإنّ الزمن يقف في صمت وخشوع دقيقةً أو ساعةً أو كما شاء الأستاذ ، حتى ينتهي الأستاذ من كلامه فيأذن للزمن مرة أخرى بمعاودة مسيره.
وبعد أن أنهى الأستاذ كلامه، وكنت أنا تحت تأثير المخدر، قال لي :
- إن جفن عينك يحتوي تجاعيد لا تخطؤها عيني، وقد عرفت من خلال قراءة هذه التجاعيد أنّك تقرأ الكتب يومك كلّه. وهذه إجابتي على سؤالك عن كيف عرفت أنّك تقرأ كثيرا.
فقلت له: - وهل هناك طريقة لمعرفة سلوك الشخص اليومي من خلال قراءة التجاعيد حول عينيه؟
وليتني ما سألت الأستاذ هذا السؤال، فأنا الذي أوقع نفسي مع الأستاذ في المأزق تلو الآخر، وهذه المرة ، أشعرتني نظرته المعاتبة بمقدار ما كنت عليه من جهل، فأخذ يحدثني برفق عن علم قراءة تجاعيد العين وتاريخ هذا العلم بدءا من الهند وحتى العصر الحديث...وأفاض الحديث.
ثم سألني عن نوعية قراءاتي فقلت له أن أكثر ما أقرأ فيه هو تخصصي في علم المعلومات، فأخذ يحدثني عن تخصصي ويعد لي إحصائيّات لم أسمع عنها من قبل عن مدى تضخّم الإنتاج الفكري في مجال أبحاث الخصية اليسرى عند المرأة، ولم أسقط هذه المرة في فخ الإحراج، ولهذه لم أسأله عمّا إذا كان للمرأة خصية يسرى، فالأستاذ بسعة علمه واتساع مداركه قد أصابني بقهر نفسي جعلني أندم في كل لحظة على ما ضاع من عمري زيفاً فيما سميته عن جهل منّي " طلب العلم " ، وإذا به يعلّمني حتى في مجال تخصصّي الذي أمضيت فيه سنوات طويلة ما بين قراءة وإعداد بحوث وجري إلى هذه المكتبة أو تلك. لهذا لم أسأل الأستاذ عن خصية المرأة اليسرى، ذلك أنّني لم أعد أحتمل أن ينظر لي نظرة لوم أخرى، فكفاني ما أنا فيه من قهر واحتقار للذات أمام هذا العلاّمة الجهبذ، وكفاه دليلاً على صحة كلامه ما يورده لي من أرقام دقيقة عن حجم الإنتاج الفكري عن خصية المرأة اليسرى في جامعات أمريكا وأوروبا ومقارنتها بحجم الإنتاج في نفس الموضوع في جامعات اليابان وكوريا ونيبال.
التقيت بالأستاذ بعد تلك المرة كثيراً، فقد قررت أنّه عليّ أن أبدأ بداية جديدة، وأن أنبذ أوهام التخصّص التي زرعها أساتذتي الجامعيّون الجهلاء المضلّلون في رأسي طيلة سنوات الدراسة.
وعندما توجّهت إلى الأستاذ بعد ذلك ، بدأ في تعليمي بأن حكى لي تاريخ العالم منذ نشأته ثم عرج على الآداب وقص عليّ تاريخ الأدب الصيني والعربي والأفريقي والعبري والأوروبي والهندي وكل أدب العالم دولة دولة وأمّة أمة وقبيلة قبيلة، ثم علّمني تاريخ العلوم ونشأتها، وفلسفات العالم بكل مذاهبها وتشعباتها ، والمنطق والرياضيات والهندسة والأديان والطب والجغرافيا وأخبار الحروب وتفاصيلها ، ولا زلت ألتقي به كي أتعلم اللغات وأسرار المخابرات وأصول السياسة والقانون وكيفية الرسم والنحت والتصوير ، وقد رتّب معي في المستقبل أن يعلّمني الموسيقى حتى أحترفها والطب البديل حتى أتقنه ، والتصوّف حتى أستنير، وأن يعلّمني اليوجا حتى أدخل في سم الخياط لا يضرني ذلك شيئا.
وفي كل تلك المجالات كان الأستاذ يدقق في أشد تفاصيلها تعقيدا وجدلا، ويستبصر من لدن نفسه براهين ترد حجج المتخصّصين أنفسهم، ويطرح من جوامع فكره ما يبطل به أطروحاتهم الجامعية.
وكان الأستاذ في كل ذلك يعرف كيف تلفظ الكلمة ويعرف من أين تؤكل الأذن، وآه، كم أكل الأستاذ من أذنيّ حتى أفناهما.
غير أنّ الشيء الذي تعجبت له في الأستاذ، هو أنّني كلما فتحت باب البيت وجدته في وجهي، أو نزلت إلى الشارع فإذا به يسير إلى جواري، وإذا ما ركبت المواصلات وجدته يقود الباص أو التاكسي، وإذا ما دخلت إلى الإنترنت، وجدته يكتب في كل الساحات بحماس واقتدار وتثبّت ، وإذا ما فتحت الجريدة رأيت عموده اليومي الذي لا يكل قوامه ولا ينقطع مداده، وإذا فتحت الساتالايت صادفته إمّا في لقاء مباشر أو حوار مسجل، وفي كل هذا وذاك لم يطلب الأستاذ منّي أجرا، وكل علمه كان بالمجّان، وكان مبدؤه الإحسان.
وبدأت أدرك أنّ الأستاذ بعلمه وفنّه وإحاطته بكل شيء موجود في كل مكان، ويحيط بكل شيء علما، ويحاصرني من جميع النواحي ، يخرج لي لسانه ويعيّرني بجهلي وقلّة معرفتي، ثم يرمقني شذراً ويرمي لي بطرطوفة من نسل معلوماته التي لا ينقطع قذفها، ولا تغيب نشوتها، ولا يجرؤ على انتقاص كمالها أحد.
فسبحانك أيّها الأستاذ كيف أنّك تدرك كل شيء، وكتبت في كل مكان، وتكلّمت عن كل شيء، حتى أن حارس الفرعون الأيمن وخصية المرأة اليسرى لم يغيبا عن سعة علمك وفنّك.
ولم تكن هذه إلا لمحة عن الأستاذ.
فمن يجرؤ بعد هذا على أن لا يمجّد الأستاذ؟!
فالآن بعد أن عرفت الأستاذ بعلمه، وبعد أن حررني بتعليمه.
لا أقول إلا : تبّا للمتخصّصين، والمجد كل المجد للأستاذ.
Albert Camus