مجموعة شرح دلائل النبوة ( بالصوت ) للشيخ العلامة ياسر برهامي .
سأحاول في الأيام القادمة اختصار كتاب (
الرسول
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بهذا العمل ..
قال رحمه الله :
من بين المخلوقات الحسية التي تعد بالبلايين يظهر هذا الإنسان بشكل متميز جداً ، وتميزه عن بقية المخلوقات يجعله عالَماَ وحده ، تنطوي فيه العوالم ويبقى بعد ذلك بقية من التفرد .
ونواحي هذا التفرد في الإنسان كثيرة نشير إلى بعضها :
1 –
في خلقته : قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } فما من شيء في الإنسان إلا وقد ركب وصور على أحسن مثال وأجمله وأعدله وأكمله ، قارن بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر من حيث الخلقة تجد تشابهاً في ما لا بد منه للحي كحي ، ثم ترى بعد ذلك أوجه التمايز .
2 -
في علمه : قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا } وقال : {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فالإنسان أعطي ملكة التعلم بشكل لا مثيل له عند غيره
3-
في إرادته: قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} إن العلم شيء سلبي ، والذي يجعله إيجابياً هو الإرادة ، وكلما كانت الإحاطة في موضوع أتم كان مجال الاختيار أوسع ، ولما كان الإنسان أكثر علماً فهو أوسع إرادة ، ومجال الإرادات أمامه أكثر وهو بالتالي يملك أكبر قدر من الإرادة
4-
في مكانته وإمكاناته : إن مكانة الإنسان في الوجود هي السيادة ، وذلك أن كل شيء مسخر له : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} . {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وإمكانيات الإنسان تبلغ أن تستفيد من طاقات هذا الكون . فقدرة الإنسان هائلة يكفي لمعرفة تميزها على سبيل المثال أن نذكر أن كل الحيوانات لا تستطيع أن تصنع فأساً بينما صنع الإنسان الأقمار الصناعية والقنابل الذرية .
5-
في ملكة البيان عنده : قال تعالى : {الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} إن الحيوانات كلها لا تخرج من أفواهها إلا أصواتاً مبهمة ، أما الإنسان فإنه يستطيع أن يخرج هذه الأصوات وزيادة على ذلك فإنه يستطيع أن يخرج سبعاً وعشرين حرفاً تتركب منها مليارات الكلمات في كل لغات العالم يتكلم بها الإنسان . فيسخر ويضحك ويبكي ويفسد ويصلح ويشعر أو ينثر ويبين عن خلجات الخاطر وإشراقة الوجدان ، وقوانين الكون والسماء والأرض ويغني وينشد ، إن تميز الإنسان في ملكة البيان من أبرز خصائصه .
6 –
في عقله وإدراكه وخياله وتصوره : إن الحيوان يشترك مع الإنسان في حواسه ولكن يمتاز عنه إدراكاً وتصوراً وخيالاً بشكل أرقى وأعلى .
7–
في استعداده الأخلاقي . وعنده استعداد ليكون في أحد حيزي الخير أو الشر أو يخلط بين الجانبين .
على حين الحيوان يبقى ذا خلق واحد في الغالب ، فالغل والحقد والحسد والغش الكبر والرياء والغضب والطمع والبذخ والبطر والفخر والخيلاء والصلف والمداهنة والعجب والمكر والخيانة والمخادعة والقوة والفظاظة والجفاء والطيش وقلة الحياء وقلة الرحمة ، ثم تأتي أضداد هذه المعاني كلها وأمثال هذه وهذه كثير ، كل ذلك مما يمكن أن يتخلق به الإنسان ومن ثم كان استعداد الإنسان الأخلاقي سمة بارزة تميزه عن أي مخلوق آخر ...
والسؤال الآن هو : ماذا يترتب على الإنسان نتيجة لهذا التفرد ؟
إن القاعدة : "على قدر ما تعطى تطالب ضمن استطاعتك" هي قاعدة هذا الموضوع ، فإن الله جلت حكمته الذي سخر الكون للإنسان قد رتب على ذلك أن جعل الإنسان هو المسؤول الوحيد أمامه من هذه المخلوقات المرئية كلها فقال :
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وقال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} وقال : {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}
فالله عز وجل جعل الإنسان بهذا التفرد خليفة في الأرض فقال : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقال : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} والاستخلاف يعني ما يلي :
1. إن المستخلف في الملك ليس مالكاً أصيلاً .
2. أن عليه أن يتصرف حسب أمر المستخلف لا حسب أمره هو .
3. ألا يشق عصا الطاعة ويتعدى الحدود المقررة له .
4. أن يفعل ما يريد المستخلف لا ما يريده هو .
وهذا كله يعني أن الإنسان ليس حراً بل هو عبد الله الذي أقامه هذا المقام في الوجود قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فسيادة الإنسان على الكون تأتي في مقابل عبوديته لله .
وما لم يعط الإنسان عبوديته لله يكون قد أقام نفسه مقام الجماد والنبات والحيوان غير المسؤولين . لذلك نرى القرآن عقد ألح على عدم إنسانية من لا يلتزم بطاعة الله فقال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} وقال : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } وقال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} وقال : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وقال : {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} .
إن القيام بأمر الله هو وحده الذي يطلق طاقات الإنسان كلها في طريقها الصاعد نحو الكمال ، وترك أمر الله يعني إطلاق الطاقات نحو الحيوانية الحرة .
[CENTER]* * * * *[/CENTER]
ولا يقوم الإنسان بأمر الله إلا إذا عرفه حق معرفته وعرف ما يأمر به ، ولا يتم للإنسان هذا إلا بمعرفة الرسول الذي يصطفيه الله للقيام بهذه المهمة ،
ذلك أن الله لم تقتض حكمته أن يتصل بكل إنسان على حدة ليبلغه أمره ، بل اقتضت حكمته أن يصطفي من الناس رسولاً يقوم بهذا نيابة عنه ..
يتبع ..
:redrose: