حرق الكنائس.. وثقافة التكفير
بقلم: عبد الناصر النجار
أحداث الأسبوع الماضي، التي تخللتها نيران أحرقت كنائس ومؤسسات فلسطينية مسيحية، نهشت ما تبقى (إن تبقّى)، من وحدة وطنية، ربما نشعر اليوم أنها بُنِيت، وللأسف، على أسس واهية، انهيارها أسرع بكثير مما يعتقد النافخون في قربتها المثقوبة!!
سؤال مشروع، ومرير، ولكن لا بد من طرحه؛ لماذا أُحرِقت الكنائس؟! ومَن هو الفاعل الحقيقي؟ ولمصلحة مَن؟ وإلى متى سيقودنا الغوغائيون والمتخلّفون وأصحاب الضمائر الميّتة، والمدفوع لهم من الداخل والخارج.. والإعلام الجاهل والموجّه، الذي تفوح منه رائحة النفط، التي أصبحت تزكم الأنوف..؟!
سؤال آخر يحمل في طياته جرعات ألمٍ أدمت قلوب بعضنا -الذي ما زال يملك ضميراً حيّاً- وهو: قبل أشهر، وفي ظل موجة الرسوم الكاريكاتورية، استُهدِفت أملاكا عربية فلسطينية مسيحية، فماذا فعلنا، حكومة ورئاسة، أحزاباً وقوى سياسية.. مثقفين وأدعياء ثقافة.. أصحاب عمائم وحَمَلَة سلاحٍ استعراضيٍّ؟!!
هذا السؤال أُثير في الأيام الأخيرة، خلال نقاشات حول الاستهداف المتعمَّد لفئة هي الأصل في شعبنا الفلسطيني، وليست الاستثناء.. (ليس على قاعدة العدد، وإنما الوجود).
للإجابة عن السؤالين السابقين، وربما أسئلة كثيرة أخرى، لا نرغب في إثارتها حتى لا ننبش في الجرح النازف، أكثر مما ينبش فيه رؤوس الفلتان الأمني والديني؛ فإنه لا بد من وضع كثير من النقاط على حروفها، وهي:
إن حرق الكنائس والاعتداء على أملاك فلسطينية مسيحية، ليس وليد اليوم، أو الأسابيع أو الشهور الماضية، وإنما هو وليد ثقافة طويلة الأمد ومترسخة فينا منذ الطفولة.
هذه الثقافة كانت، وما زالت، تقوم على أساس أن المسيحيين هم الآخر الغريب المجهول، حتى أن غالبية كبيرة في القرى والمخيمات والمدن، لا تعرف عن الفلسطينيين المسيحيين سوى القليل النادر، المبني على قاعدة انهم غير مسلمين.
هذه الثقافة تقوم على ما كنّا نتعلم في المراحل المدرسية المختلفة، أن المسيحيين كفار، ولا أخفي عندما أقول إنني شخصياً، وحتى انتهاء المرحلة الثانوية، أقنعني أساتذتي بتلك الفكرة..
أيضاً، هذه الثقافة قائمة على تلقين تاريخي مغلوط.. أرضعونا إياه منذ طفولتنا، خاصة عندما كانت تُطرَح قضية الحروب الصليبية، التي تُربَط مباشرة بالمسيحيين. فغالبية معلّمي التاريخ وكتب التاريخ، والمناهج السابقة، لم تكن تفصل بين المسيحية كدين وبين الحروب الصليبية. وكانت المعلومات تُبنى على أن الحروب الصليبية هي حروب دارت بين المسلمين والمسيحيين، حتى انتصر المسلمون على المسيحيين، وطردوهم من الأراضي المقدسة.. ما ولَّدَ فينا استعلاءً ونشوة بالنصر التاريخي، الذي ما زال كثير منّا يعيش في أجوائه حتى اليوم..؟!!
ومن الملاحظ أن العلاقات المسيحية - الإسلامية، بُنِيَت على صورة مجموعة من رجال الدين الذين يمسكون أيدي بعضهم، وربما يرفعون شارات النصر.. ويتحدثون في مؤتمراتهم الصحافية ولقاءاتهم الكثيرة، عن الوحدة والاخوّة.. وكأن الوحدة والأخوّة هي قرار فوقي.. وربما مثل هذه الصورة، وهذا الاعتقاد، ساهم أيضاً، في تنمية ثقافة خاطئة، ولم تساهم في بناء نسيج مجتمعي قوي وحضاري..
أما الأمر الثالث، فيتمثل بمواقف السلطات الثلاث ..التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهي أكثر عجزاً مما نتوقع.. فمثلاً، كيف نفسر إحراق الكنائس في نابلس علناً.. وقيام مجموعات بإطلاق النار في الهواء.. رغم وجود مسؤولين كبار.. لا يحرّكون ساكناً، سوى تصريحات صفراء تثير في النفس الغيظ أكثر من (...)؟!!
وكيف يخرج وزير داخليتنا بتصريح "جهبذي" بتكثيف الحراسة على الكنائس.. ثم تُحرَق كنائس في اليوم التالي.. أما بنك التصريحات الذي تتكدس فيه "بضاعة" فاسدة ومنتهية الصلاحية.. فالسّحب منه لا ينتهي، لأنه بلا ثمن!!
الملاحظة الرابعة، هي وسائل الإعلام.. وللأسف، فإن وسائل الإعلام، خاصة بعض الفضائيات، نفخت في كور الحقد والكراهية.. فماذا يعني التركيز على صورة لنساء يبكين احتجاجاً على تصريحات البابا، أو الرسوم الكاريكاتورية سابقاً.. وماذا يعني أن تبدأ نشرات الأخبار بصراخ "الله أكبر"، وكأنه التحريض للجهاد والانتقام.. ولماذا هذا التكرار المملّ والمتعمد للصورة والكلمة السلبية... وما هو الدور الخفي الذي تلعبه مثل هذه الفضائيات، ولمصلحة مَن؟!!.. ربما بحث علمي إعلامي صغير عن تناول بعض الفضائيات لتصريحات البابا، وأثرها على حرق الكنائس، يؤكد أن هناك شبهات!!
أما إعلامنا المحلّي، فهو ناقل ليس إلاّ... غير مُحلِّل.. ومتجاهل في بعض الأحيان..
وعلى سبيل المثال، لماذا تجاهل إعلامنا المحلي حرق جمعية الشبان المسيحية في قلقيلية؟! التي يستفيد من خدماتها 99% من المسلمين، ولمصلحة مَن؟! وهل أُلقِيت خطب في بعض المساجد تحرّض ضد الجمعية؟!! أسئلة ربما على فعاليات قلقيلية الوطنية والإسلامية الإجابة عنها..
في مقال سابق قبل أشهر، طالبتُ بضرورة وقف الهجرة المسيحية، واليوم أطالب بجسم أو بملتقى مسيحي - إسلامي، يُشَكَّل من القاعدة، وليس من قمّة الهرم.. لإعادة صياغة الثقافة، وللمراقبة والنشر.. وإيصال المعلومات الصحيحة، خاصة في القرى والمخيمات والمناطق المهمشة.. وزيارة المساجد.. والبيوت، وتوزيع النشرات وإجراء المسابقات.. ربما نحتاج عدة سنوات لنشر ثقافة مغايرة.. وهذا أفضل كثيراً من الوصول بعد سنوات، الى المواجهة التي، لا سمح الله، لن تقتصر على وضعنا الداخلي، وإنما سيستغلها أيضاً، الخارج، بحجة الدفاع عن الأقليّة!!!
صرخة ألم ومرارة نطلقها اليوم، فهل تجد مَن يعلّق الجرس؟!!
الأيام الفلسطينية