معركة "الميليشيات" بدأت في العراق!
12كانُونُ الثَّانِي/يناير 2007 -
يمكن القول في قراءة "عراقية" سريعة لإستراتيجية الرئيس الأمريكي الجديدة للعراق أنها محاولة لبناء نظام أمني إقليمي جديد،
محورها العراق، لكنها للمنطقة برمّـتها بدءً من إيران، وليس انتهاء بسوريا.
الرسائل التي وجهها بوش، الذي "لا يقبل بأقلّ من النصر الكامل"، لا تخفي كذلك الهدف العراقي الأول من هذه الضجة، المتمثل في نزع سلاح الميليشيات التي توصف أو تُـصنّـف بأنها "موالية لإيران أو قريبة منها".
بالفعل، اختار الرئيس الأمريكي تدشين إستراتيجيته الجديدة بتوجيه رسالة قوية للإيرانيين من خلال إغارة قوات أمريكية على مقر القنصلية الإيرانية في أربيل بكردستان العراق واعتقال موظفيها، ومضمونها أن الولايات المتحدة عازمة على "تقليم" أظافر إيران في العراق، بانتظار الفرصة المواتية لضرب نظام الجمهورية الإسلامية على وقع تطوّرات الملف النووي أو وضع إيران بشكل متواصل تحت مرمى التهديد.
وواضح أن إرسال بوش أكثر من عشرين ألف جندي أمريكي جديد إلى العراق وتأكيده على ضرب أهداف في إيران (وسوريا)، بزعم أنهما توفِّـران دعما لوجيستيا للمسلحين، وعزمه على نصب صواريخ باتريوت في المنطقة وإرسال سفن حربية جديدة إلى الخليج، كلها رسائل لا تخفي بالطبع الهدف العراقي الأول من كل هذه الضجة، وهو نزع سلاح الميليشيات التي توصف أو تُـصنّـف بأنها موالية لإيران أو قريبة منها.
سيناريو خطير
المعلومات التي حصلت عليها سويس انفو، تتحدث عن سيناريو خطير لعراق ما بعد إعدام صدام حسين، يتمثل فيما يمكن تسميتها بـ صفقة بين بوش والفاعليات العراقية الرسمية المنخرطة في العملية السياسية، سُـنة وشيعة وأكراد، طرفها الأول، الموافقة على إعدام الرئيس العراقي السابق، مقابل قيام الحكومة أو مشاركتها مع الجنود الأمريكيين بنزع سلاح جيش المهدي، وباقي الميليشيات "الحكومية" المسلحة، عدا الجماعات المسلحة الرافضة للعملية السياسية، لأنها ليست طرفا في هذه الصفقة.
هذه المعلومات أكّـدت أن السُـنة المشاركين في العملية السياسية، كالحزب الإسلامي وجبهة التوافق، رضوا بأن "يهربوا" بعيدا عن مسرح إعدام صدام بكل ما رافقه من طقوس ولم يعارضوه، بل وخفّـفوا كثيرا جدا من لهجتهم النقدية لعملية الإعدام بالتوقيت والأسلوب، لأنهم حصلوا على وعد أكيد من الرئيس الأمريكي، الذي حصل بالمقابل على تأكيدات من قادة عراقيين شيعة أن عام 2007 - وقد دخلوه من دون شبح صدام وعقدة عودته للحكم - لن يمضي إلى نهايته مع سلاح التيار الصدري وجيش المهدي التابع له.
مصادر عراقية رسمية ذكرت أيضا أن اللقاء الأخير بين السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، والمرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني، إنما رُتب في منزل السيستاني لبحث مخاطر رفض نزع سلاح جيش المهدي على موقع الشيعة في معادلة الحكم مع إعلان بوش إستراتيجيته الجديدة، والتي رسمت للمالكي خريطة طريق تكفّـل "مشاركةً أوسع للسُـنة ورفع القيود عن البعثيين"، لأن الحكومة العراقية التي تطلق خطتها الأمنية الجديدة بشكل رسمي بعد إعلان الرئيس الأمريكي، لا تستطيع القيام بهذه المهمة من دون غِـطاء مرجعي، ومن السيستاني تحديدا، وهو الذي رفض في السابق محاولات أطراف حكومية شيعية استغلال أزمة النجف للقضاء على التيار الصدري وقتل زعيمه مقتدى الصدر في عهد رئيس الوزراء المؤقت أياد علاوي.
ومن هنا، سارع مستشار الأمن القومي موفَّـق الربيعي إلى السيستاني بعد اللقاء الأخير مع مقتدى الصدر، ليعرف منه موقف الزعيم الشيعي الشاب من مُـجمل هذه التطورات، في ظل أحاديث عن أهداف تسريب شريط الدقائق الأخيرة عن إعدام صدام، وزج إسم مقتدى الصدر في حفل الانتقام المدروس، ومنها سهولة التخلص من مقتدى الصدر بعد تشويه صورته.
ويُـقال في هذا الصعيد، إن مقتدى الصدر - وقد بدا هذه المرّة أنه يُحسن استخدام الجمل التكتيكية - استجاب لدعوة السيستاني في عودة التيار الصدري عن تعليق مشاركته في الحكومة والبرلمان، وهي بداية جيّـدة ترافقت مع إعلان رموز التيار الصدري، أنهم لن ينجرّوا للقتال مع القوات الأمريكية التي ما انفكّـت تستفِـزهم باستمرار، خصوصا في الغارات التي تقوم بها على منازل في مدينة الصدر أو حي الشعلة في بغداد.
لكن الصدر (المنحدر من أسرة عِـلمية مرموقة، غيّر كثيرا من الصورة النمطية التي ظهر عليها إبّـان حرب النجف، وأظهر مؤخرا الكثير من الحِـنكة، بما يجعله يبدو للعِـيان لاعبا سياسيا أكثر منه مجرّد زعيم ديني شاب)، رفض مبدئِـيا نزع سلاح جيش المهدي، لا لأنه يريد إحراج رئيس الوزراء نوري المالكي وباقي أطراف حزب الدعوة الإسلامية التي ساندته في أزمة النجف عام 2005، بل لأنه لا يُـقرّ بأن جيش المهدي يشكل ميليشيا شبه عسكرية، وإذن فإنه لا ينطبق عليها قانون حل الميليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة، ويعتبر أن السلاح الذي بِـيَـد عناصر جيش المهدي، هو من الموجود لدى مُـعظم العراقيين.
صحيح أن جيش المهدي يتألّـف من عناصر مُـدمجة في الدولة بشكل أو بآخر، لأنه يضم موظفين حكوميين وطلاّب مدارس وعناصر في الشرطة والجيش وعمالا، وهؤلاء هم جُـزء من الحكومة، فلا حاجة لدمجهم إذن، إلا أن الكسَـبة والعاطلين عن العمل، وهم الذين يشكِّـلون القاعدة الرئيسة والقوة الأساسية لجيش المهدي، بما يجعلهم الرقم الصعب في معادلة الاندماج وحل الميليشيات.
وتجدر الاشارة هنا الى أن المالكي يجد نفسه في وضع لايُحسد عليه مع التيار الصدري الذي كان السبب في أن يتولى هو (ومن قبله إبراهيم الجعفري) رئاسة الوزراء، لأن أصوات الصدريين داخل الائتلاف الشيعي هي التي رجحت الكفة في منافسة مرشح المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عادل عبد المهدي، وبالتالي فان التيار الصدري باصطفافه مع حزب الدعوة (بشقيه) كان له الدور الأكبر في مجيء القياديين في حزب الدعوة إلى رئاسة الحكومة. ومع ذلك فان المالكي يحاول هذه الأيام التقرب الى حزب الفضيلة لكسب أصوات أعضائه داخل الائتلاف اذا ما أضطر إلى ضرب التيارالصدري,
وفي هذا الواقع، ومع وجود سقف زمني حدّده بوش للمالكي حتى نوفمبر المقبل لكي يضبط الوضع الأمني، وفي ظل وجود شق اقتصادي في خطة المالكي المعتمدة أساسا على إستراتيجية بوش، يظل التيار الصدري وجيشه العقائدي (هكذا يصفه مقتدى الصدر) الهَـمّ الكبير الذي يُـؤرق المالكي الذي وُضع الآن بين فكّـي كماشة: بين الضغط الأمريكي للسيطرة على الأمن من خلال نزع سلاح الميليشيات، وما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس من أن "للصبر على المالكي حدود"، حتى نوفمبر القادم، وبين موقف التيار الصدري المُـتأرجح بين كونه مقاومة سياسية للاحتلال داخل الحكومة والبرلمان، والتحول إلى مقاومة عسكرية، وهذه المرّة مكشوف
الرأس والظهر تماما، في ضوء معلومات متداولة تؤكِّـد أن طهران تعهَّـدت للرئيس العراقي جلال الطالباني أثناء زيارته الأخيرة لها، بـ "مساعدة العراق في نزع سلاح الميليشيات"..
والمطلوب من المالكي، الذي أمر القوات الأمريكية في شهر نوفمبر 2006 بفك الحِـصار عن مدينة الصدر، إقناع باقي الأطراف المشاركة بنزع أسلحة ميليشياتها، قبل أن تتكرر عمليات عسكرية مشتركة تنفِّـذها القوات الأمريكية مع القوات العراقية، على غِـرار ما حصل مؤخرا في شارع حيفا والعلاوي والمشاهدة، بانتظار عمليات مماثلة في أحياء سُـنية أخرى، كالعدل والجامعة، وهذا الأمر يُـحرِجه أمام الأمريكان، إذا لم ينجح مع حلفائه الشيعة.
ويجب التَّـأكيد أن بوش، الذي لا يقبل بأقلّ من النّصر الكامل في العراق، جعل نصب عينيه ما سماه "النصر الكامل على الإرهابيين"، والمُـهم جدا بنظره، أن هزيمة "الإرهاب" يجب أن تتحقّـق في كافة الساحات، وفي مقدمتها العراق، ومنها بالطبع بناء مؤسسات ديمقراطية وأمنية تساعد فيها القوات الأمريكية في القضاء على المسلحين، وتمكِّـن القوات العراقية من مقاتلتهم، وهذا لن يُـكتب له النجاح، إلا إذا وافقت الميليشيات "الحكومية" على الاندماج الكامل في الدولة العراقية، لإيجاد وضع مستقر.
"وكالة بلا بواب"
إستراتيجية بوش الجديدة عزّزت مخاوف الأغلبية الشيعية في العراق من التقارب الأمريكي ـ السنّي، وبات العديد من الشيعة ينتقِـدون الاحتلال الأمريكي للعراق، ولا يُـخفون الرّغبة في انسحاب القوات الأمريكية من بلادهم، بشرط أن تبقى مفاتيح الحكم بأيديهم، بمشاركة سُـنية فاعلة.
ويرى العديد من الشيعة في إستراتيجية بوش، أنها تمثل "انقلابا" على كل طموحاتهم في مُـمارسة الحكم بشكل شِـبه مطلق، ويعتقدون أن تأكيد بوش على توسيع المشاركة السُـنّية وتمهيد الطريق لمشاركة أكثر رسمية للبعثيين، مُـؤامرة خطيرة عليهم، لاسيما مع الضغوط الأمريكية لتفكيك الميليشيات الشيعية، التي يعتبروها محاولة لإضعاف دِفاعاتهم ضِـد المسلحين السُـنّة.
ومن هنا، وحين السّماع بنقل السفير الأمريكي زلماي خليل زادة، المُـتهم من قِـبلهم بالتقرب إلى السُـنّة، سارع أقطاب نافذون في الأحزاب الشيعية إلى التعبير عن رضاهم، لكنهم لم ينسوا أبدا سابقة عام 1991، عندما تخلى الرئيس بوش الأب عن الشيعة الذين انتفضوا لإسقاط نظام صدام بعد حرب تحرير الكويت، وهو ما تجلّـى بوضوح في مطالبة النائب عبد الكريم العنزي (حزب الدعوة - تنظيم العراق)، أن يناقش البرلمان العراقي إعلان بوش إرسال قوات إضافية إلى العراق، ومتسائلا عمّّا إذا كان العراق "وكالة بلا بواب"، وأنه لم يستعِـد سيادَته بعد.
والمُـلفت في مجلس النواب، بعد ساعات من خطاب بوش، أنه حاول تجاهُـل مُـناقشة "تساؤلات" العنزي، التي انضم لها سكرتير الحزب الشيوعي حميد مجيد، في وقت حرِص النائب المعروف بالجُـرأة "مثال الآلوسي" على أن يكشِـف للملأ العام في الجلسة التي كانت تُـبَـث علنا، أن بوش تفاهم مع جميع القيادات العراقية حول إستراتيجيته، ومنها إرسال قوات إضافية إلى العراق.
ومع كل ذلك، فإن المخاوف الشيعية تبدو جدّية أن تُـحوِّل الولايات المتحدة اتِّـجاه البَـوصلة من الجماعات المسلحة، التي رأى فيها تقرير للكونغرس الأمريكي أنها مقاومة، إلى ميليشيات شيعية تتَّـهمها بارتكاب أعمال القتل.
ويقول النائب علي الأديب، القيادي البارز في حزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء المالكي، إنه رأى التحوّل في توجّـهات طائفته نحو الولايات المتحدة بعد تفجيرات سامراء في فبراير 2006 "قبل حادثة سامراء وحينما كان الشيعة يُـذبحون، فإنهم (أي الأمريكان)، كانوا يظلوا صامتين، وفيما بعده انفجروا".
فهل بدأت بالفعل معركة "الميليشيات"؟
نجاح محمد علي - دبي
http://www.swissinfo.org/ara/front/detail....y=1168615498000