http://www.daralhayat.com/culture/01-2005/....txt/story.html

ذو المأساتين
محمد علي فرحات الحياة 2005/01/15

سيقرأ العرب لمدة طويلة كتابي هشام شرابي "الجمر والرماد" و"صور الماضي", فهما يتعديان سيرة المثقف الفلسطيني القومي الى جيل النهضة العربية المتكسرة (بعد انشاء اسرائيل 1948). [SIZE=5]ولا يمكن نسيان المقاطع النهائية الآسرة من "الجمر والرماد" حين تقلع الطائرة بهشام شرابي الى الولايات المتحدة تاركاً خلفه مأساتين متلازمتين: ضياع فلسطين واعدام انطون سعادة الذي صادقه شرابي وانتمى الى حزبه القومي.

صحيح ان كتبه "المثقفون العرب والغرب" و"النظام الأبوي" و"الديبلوماسية والاستراتيجية في الصراع - العربي الاسرائيلي", علامات في الكتابة النهضوية, لكن شأن النهضة والتحديث في عالمنا العربي متغير متحول متأرجح, كحال مجتمعاتنا التي كانت معبراً للقوى الكبرى ولا تزال لا تقوى على تقديم نفسها لنفسها وللعالم كقوة تحمي, على الأقل, صورة هويتها ومسار تطورها, لذلك أتوقع بقاء طويلاً لكتابي شرابي "الجمر والرماد" و"صور الماضي".

ويبدو ان السيرة الأولى في الوطن طبعت باستمرار مسار هشام شرابي, أكاديمياً وكاتباً, في شيكاغو وواشنطن, واخيراً في بيروت, فلم يتخل الرجل عن حلم جيله بالحداثة والتحرير والانفتاح على العالم وبناء انسان متجدد, وإن بدا في إصـراره احياناً شيء من النفرة, خصوصاً في الوسط الأكاديمي الأميركي.

سيفتقده العرب كما افتقدوا ادوارد سعيد, بل أكثر لأن الراحل كان ملتزماً بمسار الثقافة الوطنية في الوطن والمهجر ثم اخيراً في الوطن.

هشام شرابي الى ترابه الذي اشتاقه: كنا شهوداً على مرتبة خلوده



كتب سليمان بختي:

عاد هشام شرابي الى لبنان للمرة الاخيرة ورقد قرب امه. عاد المسافر والباحث الى مرفأه الاخير بعدما طوّح بعيدا في الانحاء والابعاد والجهات. رجع الفلسطيني اللبناني الاميركي العالمي ليحتضنه التراب الذي اشتاقه طويلا وهو في رحاب الغربة. كان مؤثرا حقا موكب تشييع الدكتور هشام شرابي الى مثواه الاخير امس. بدا الموكب مثله تماما هادئا وصامتا يخترق الشوارع القريبة من مستشفى الجامعة الاميركية ويذهب الى عمق المدينة، الى جامع البسطا التحتا القريبة من المصيطبة التي اختبأ فيها هشام ابان الثورة القومية الاولى.

كل الامكنة التي احبها واحبته في لبنان انتعشت قليلا. بسكنتا وصنين وضهور الشوير وكفريا والبحر وشوارع راس بيروت وايضا ليمون يافا وشاطىء عكا.

سيداً وبليغا كان الصمت. واكبوه جميعهم بدمعة تجمدت في الاحداق وشتاء كثيف القلب. كانوا مثل "جمره ورماده" متوهجين ومتعبين في آن واحد. تذكروا انها الرحلة الاخيرة لهشام. فحملوا نعشه مرفوعا على الاكف وكعادته لم يلتفت الى الوراء. كلهم كانوا هناك، رفاق الدرب واصدقاء الايام الاولى والاخيرة، وزملاء التعليم الجامعي وصحبة النضال وتلاميذه واحباؤه من كل لبنان وسوريا والاردن وفلسطين وتونس والامارات والمغرب والولايات المتحدة.

قال لي الدكتور عبد الخالق عبدالله من الامارات: "السؤال هو كيف ندفن هشام شرابي؟". وسأل صديقه خالد كمال من الاردن: "كيف تذهب خمسة وخمسون عاما من رفقة الحياة؟".

كانوا هناك، علي غندور وكمال الصليبي ورجا بارودي ومنير شماعة ومنير خوري ومنير بشور ورفيق سماحة ونبيل رحال ويوسف معوض ورشيد الضعيف واسعد خيرالله وعلي اومليل والطاهر لبيب وغسان صفي الدين ومروان ابو فاضل واكرم سكرية وانيس ابو رافع وصقر ابو فخر وعلي حمية.

وضع جبران عريجي الاكليل فوق ترابه في مدفن الباشورة برقة المعتذر. عاد هشام شرابي تحت سماء زرقاء مثل وضوحه ونزاهته امينا لرؤيته الفكرية المتسعة كالافق وكفضاء الحرية. مضى خفيفا كالطيف نضرا كزهرة برية، وغنيا كالرمز. لا حقائب لسفر جديد ولا اوجاع ولا خيبات ولا ندم.

ماذا كان في انتظاره؟ واخيرا استطاع هشام شرابي ان يستعيد المستحيل، كان دائما يبحث عن بيت قوي ومنيع في هذا الوطن العربي. واعتقد انه اخيرا قد وجده وهو بيت في قلوب الناس الذين احبهم واحبوه. ووقف طوال حياته يكتب ويعمل لقضاياهم.

لم يكن هناك رحيل ولا غياب. كنا شهود على الانتقال الى مرتبة الخلود.

ں في نادي متخرجي الجامعة الاميركية في بيروت، قدم التعازي الرئيس رفيق الحريري والنواب: نسيب لحود، باسل فليحان وغطاس خوري، والوزيران السابقان فؤاد السنيورة وعباس خلف، ورئيس الجامعة الاميركية جون واتربوري

بين الجمر والرماد و صور الماضي للمفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي: عن الاحباط والمرض.. ونهاية الحياة التي لم تعد تثير في نفسي شعورا مفجعا
2005/01/17


ابراهيم درويش
رحيل المفكر الفلسطيني هشام شرابي ليلة الخميس الماضي يمثل نهاية حقبة فكرية طويلة في حياتنا الثقافية، فهو احد ابناء جيل عاشوا في خضم الهزيمة العربية وفترة المد الثوري وصعود الافكارالجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وساهموا في قراءة معالمها والبحث عن مكمن الخطأ واسباب التراجع العربي، في وقت كانت الامة العربية تتغاضي فيه عن الفكرة وتؤمن بحتمية الانتصار، كما صور مثلا في ذكرياته الشهيرة عن الحياة العادية في فلسطين قبل ايام من السقوط الاخير وتكشف حجم الهزيمة والخيانة.
ولكن شرابي كان اكثر مجايليه فهما لازمة المثقف العربي والثقافة العربية بشكل عام، فقد تعامل مع الازمة في اطارها الفكري وتجربته الحزبية القومية السورية (انقطعت عام 1955) ومن ثم الثورية الفلسطينية ـ اليسارية، ومركزه الاكاديمي الذي شغله في الجامعات الامريكية، وفوق هذا الحقل الفكري الذي اختاره ولم يندم عليه ابدا، وهو الفكر والفلسفة التي ساعدته علي تشريح بني الخطاب العربي الحديث واشكاليات العلاقة بين الحداثة والمعاصرة وبني التخلف والتقدم في المجتمعات العربية. وكان شرابي من المبدعين والمنجزين في ميدانهم، تحول من فكرة التفلسف التي وصف فيها تجربته بالجامعة الامريكية وتجربه اساتذته الي الفلسفة الحقيقية متأثرا بمدرسة شيكاغو واستاذه برجستراستر، الالماني الذي لم ينس وطنه ولم يتحدث مثل غيره من الالمان المهاجرين من المانيا النازية عن امريكا باعتباره بلدنا فقد ظل المانيا، في الفكر والموقف.
والحسرة الوحيدة التي عاشها شرابي هي ابتعاده عن المكان الفلسطيني الذي ظل يستعيده في كتاباته الجمر والرماد و صور الماضي وروايته الوثائقية الرحلة الاخيرة ولانه غادر فلسطين وهو في العشرين من العمر فقد ظلت ذاكرة الايام والاماكن طرية في ذهنه، وكان قادرا علي استعادة طراوة المكان الفلسطيني الذي خبره في ثلاثينيات القرن الماضي، عكا بشاطئها الذي يعتبر اجمل شواطئ العالم، السيارات الذاهبة الي رام الله، حيث درس في مدرسة الفرندز ، دروس اللغة العربية، وكتب خليل السكاكيني راس روس ، وترجمات كامل كيلاني لروائع الادب العالمي، جدته المؤمنة التي ظلت تخوض معاركها الخاصة مع جده المتحرر والارستقراطي العثماني الذي خدم فترة في مدينة البصرة العراقية.
اعاد شرابي بعد اكتشافه انه مريض بالسرطان في صور الماضي حكاية طفولته وشبابه في فلسطين وبيروت الحرب العالمية الثانية والحرب الاهلية، في صور الماضي، هنا كانت الذكريات محاولة لاسترجاع الماضي، في محاولة لتقبل الوضع، تماما كما كان بطل شرابي كيركيجارد مهووسا بفكرة الموت، باعتبارها قمة الخلاص الديني، وهو يعترف، اي شرابي في صور الماضي انه كلما اقتربنا من المرحلة الاخيرة من حياتنا يزداد تذكرنا للماضي، فيتقلص المستقبل غذ يزداد تجاهلنا له..... .
شرابي الذي كان مسكونا بحسرة اللاوطن، اي فكرة وجود وطن يعود اليه ويساهم فيه، يعتبر نفسه محظوظا، ويعترف انه لم يعان كثيرا، كما عاني الفلسطينيون من فكرة الهجرة، فقد غادر فلسطين عام 1947 وفي نيته العودة بعد الدراسة الي وطنه، ولم يجرب الهجرة بالنسبة لشرابي هجرة قسرية، فقد كان يخطط للعودة للبنان في السبعينات ولكن الحرب الاهلية اندلعت، فعدل عن الفكرة وعاد لامريكا، والاخيرة رغم كل ما حقق فيها من انجاز اكاديمي وفكري لم تكن بلدا له، وظل غير قادر علي فهمها، ولكن موقفه منها عندما كتب عن ايام تكوينه الثقافي، اي عندما كان شابا كانت اكثر راديكالية، مقارنة مع ما كتبه في صور الماضي . ومن هنا فان قراءة سيرة المفكر الفلسطيني، علي الاقل من خلال الكتابين الانفين الجمر والرماد (1978) و صور الماضي (1993) يلاحظ ان الكاتب وان لم يعد كتابة الاحداث الا انه سردها بطريقة جديدة فيها تصالح اكثر مع الماضي. فالكتابان يتحدثان عن نفس الاحداث والوجوه ـ بخلاف ان الجمر والرماد في بعض الاحيان يتحدث عن اسماء الرفاق العاديين، رفاق المدرسة والجامعة في بيروت وشيكاغو.
ولكن صور الماضي يختار نفس المفاصل الهامة التي اكدت تجربة او اسهمت في تجربة شرابي واختزلها بطريقة جديدة، لا شك ان شرابي كان مسكونا بهاجس اكتشاف ما سيجدث له، فهو يبدأ صور الماضي بمكالمة مع طبيبه الفلسطيني سعيد الكرمي الذي اخبره بنتائج التحليلات، وبعد ذلك رحلته في المستشفي والعلاج، وعبر هذا ولدت صور الماضي من جديد، حيث اعاد تذكر صور الاصدقاء والمدرسين ـ وهو وان لم يقم بتغيير السيرة بشكل راديكالي، اذ ظل ناقما علي الفكرة الابوية في الحياة العربية، التي تحرر منها عندما سافر للولايات المتحدة، ... كنت من المحظوظين من المثقفين العرب، الذين تمكنوا من الافلات باكرا من ربق الثقافة الابوية وانظمتها السياسية، واصدار بحوث ودراسات وخوف من سلطة او رقابة فكرية... وفي الوقت الذي لا يذكر شرابي في الجمر والرماد اباه وان ذكره فانه يتحدث عنه لماما، ومن خلال منظور الوضع في فلسطين، باعتباره جزءا من الافندية وحرب الحطة ـ الكوفية والطربوش ففي الوقت الذي لم يستطع الاب فيه مواصلة لبس الطربوش في يافا فانه لبسه في بيروت في اشارة الي ان اي شيء لم يتغير. ولكن في صور الماضي يستعيد صورة اكثر حميمية لوالده الذي صار لاجئا في عمان، والتقاه في بيته مثل الضيف، حيث قال وكان يتدفأ حول كانون النار الجو سيكون دافئا غدا ، وفي وداع شرابي لوالده قائلا انه سيلتقيه مرة ثانية في يافا، فكانت اجابة والده باذن الله يا حبيبي وهو اللقاء الذي لم يتم حيث توفي والده عام 1956.
كان والده وكل الفلسطينيين الذين خرجوا من وطنهم قد قر في انفسهم ان رحلة المنفي ستكون طويلة، لوضع لم يكن متخيلا، ففي الجمر والرماد يشير الي عادية الاشياء في فلسطين عشية الكارثة، حيث يقول امس كنا في القدس، في اوتيل كلاريدح بالقطمون الذي يديره فريد عطايا، بعد الظهر ذهبنا جوزيف سلامة وأنا لمشاهدة فيلم حبيب العمر لفريد الاطرش وسامية جمال في سينما ركس، كانت القاعة ملآي بالمشاهدين والحياة تسير كعادتها كأن شيئا لم يحدث في فلسطين .
كانت فكرة الحرب بعيدة عن الافندية الفلسطينية، فالذين يقاتلون ويستشهدون كانوا من ابناء الفلاحين وليس من ابناء الاغنياء الذين واصلوا حياتهم وكأن كل شيء علي ما يرام.
في مرحلته النضالية سيذهب شرابي الي بيروت ليعمل مع المقاومة وكان يخطط الانتقال من امريكا والاستقالة من وظيفته في جامعة جورج تاون، ولكن الحرب الاهلية في لبنان افشلت المخطط وبقي في مركزه الجامعي، ومع ذلك ففترة عمله في مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1970 لم تمر دون انتفاده لفكرة الانتماء والولاء لفكرة التنظيم اكثر من القضية، ولهذا ظل مثل عدد من المثقفين الفلسطينيين اختاروا العمل من اجل فلسطين ولكن خارج مؤسسات صنع القرار الفلسطيني.
سجل شرابي اهم المفاصل التي اكدت تطوره الثقافي، فهو وان درس في جامع الجزار، وكان يأخذ الدروس الدينية في الفجر علي يد شيخ لم يحمل له الا الاحترام، ولكنه انقطع عن الدرس عندما حاول الشيخ تدريسه باب اليتيم، وفي هذه الفترة كان شرابي مثل جده متحررا ومتسائلا، يقبل شعائرية جدته في الدين، ومحاولتها قراءة التمائم عليه وايمانها بان البابونج هو شفاء لكل دواء. وهذه النزعة المحافظة كانت علي طرفي نقيض مع الجانب التحرري في مواقف جده، وعقليته (اي شرابي) المتسائلة، تبع ذلك تلقيه تعليمه في مدرسة ذات نظام غربي في رام الله، ومن ثم خروجه للدراسة في مدرسة تحضيرية في بيروت. في الجامعة الامريكية بدأت المحطة الثانية او الثالثة في حياة شرابي، حيث عايش الحرب العالمية الثانية التي كانت نذرها الاولي قد بدأت اثناء تواجده في فلسطين، وفي بيروت لم يشاهد الناس الحرب العالمية، بل سمعوا بها وكانت سنوات الحرب اعوام خير للناس هناك.
وهو هنا، يشير الي انواع المثقفين العرب، الذين تلقوا ثقافتهم في الغرب، ويصنفهم الي صنفين، الاول من تعلم واتقن لغة الغرب واخذ يتعامل مع العالم العربي عبر المنظار الاستشراقي، بعد اندماجه كليا في مصالح المجتمع الغربي، اما الثاني، فهو الذي هاجر الي الغرب، للدراسة او لاسباب سياسية، وافراد هذا الصنف حافظ علي علاقة انتماء نفسي والتزام فعلي بقضايا المجتمع العربي، وكان شرابي من الصنف الثاني، مضيفا الا اني معظم من كلا النوعين لم اضح من اجل وطني، عشت عيشة آمنة ومرضية علي الصعيد الشخصي، الا ان حياتي بقيت مليئة بالاحباط، وما زال الاحباط الاكبر الذي اشعر به الان في نهاية حياتي الناشطة، وهي عدم تمكني من العودة الي وطني والتوصل لموقع استطيع من خلاله المساهمة الفعالة في قضاياه بشكل او بآخر،اقتصر نشاطي علي عدم التدخل من الداخل، وعلي الكتابة النقدية والممارسة النظرية .
في الجامعة الامريكية ستبدأ رحلته الاولي في التفلسف، والنظر الي نفسه باعتباره متميزا فلتة ، وعن ايام الدراسة يقول ان التفلسف كان طابع الطلاب، الذين كانوا يشعرون انهم افضل من اقرانهم الذين اختاروا موضوعات تافهة، مثل الهندسة والاقتصاد، والنخبوية في التفكير والصداقة التي عاشها طلاب قسم الفلسفة الذين كانوا يعدون علي الايدي. كانت الثقافة زيا مثل شراء الكتب الكثيرة التي لا تقرأ، يحق عليها وصف الشاعر الاردني عرار والعلم في عمان ازياء .
في الجامعة يتذكر شرابي بنوع من الحيوية استاذ اللغويات انيس فريحة واستاذه شارل مالك، الذي يمدح اسلوبه في التدريس ويقول انه كان اول من فتح عينيه علي النصوص الفلسفية القديمة، ولكن مشكلة شارل مالك انه كان لا يقرأ وكان متحدثا لبقا، سخر نفسه في مرحلة سابقة للهجوم علي اليسار، وانضم بل اصبح المؤدلج الحقيقي للفكر الانعزالي اللبناني، وعندما يتذكر هذه المرحلة من حياته، يشير الي الابوية في التعليم والسطحية في استعراض الافكار، فهنا مدرسون يلقون محاضراتهم بدون مذكرات او ملاحظات ويتلذوذن في اظهار معرفتهم وجهل طلابهم، وفي نفس الوقت لا يعرفون شيئا عن النفدـ الاحتمال، التحليل، المفهوم وهي المصطلحات التي ظلت بعيدة عن تفكير الشاب شرابي حتي وصل الي امريكا، حيث اكتسبت معرفة خاصة ومعاني جديدة. في مرحلته اللبنانية تعرف شرابي علي ميخائيل نعيمة، الذي زاره في منسكه في بسكتنا، وكان نعيمة في الستين من عمره، قد بدأ مرحلة جديدة في التنسك والزهد البوذي، وعرض اثناء الزيارة علي شرابي وصديقه فكرة انشاء رهبانية خاصة، او منسك. كان شرابي عندما التقي نعيمة في العشرين من عمره، في مرحلة التفتح الفكري، وهي المرحلة التي يقول انها كانت مرحلة النهم للعلم والمعرفة والتساؤل العقلي، ولم يكن مستعدا في ذلك الوقت للدخول في رحلة روحية وزهدية، يقول ان كلماتها جميلة لكنها خاوية من الافكار، وهو ما وصف به افكار نعيمة، التقي شرابي نعيمة مرة ثانية في السبعينات من القرن الماضي، كان الاديب والزاهد في الثمانينات لا زال في معتزله يدخن سيجارته ويتأمل العالم. ومع ذلك يعتبر شرابي كتاب الغربال وكتاب المقدمة من الاعمال الكاملة لشارل مالك الذي لم يصدر منه الا الجزء الاول مع كتاب نشوء الامم لانطوان سعادة من اهم الكتب التي الفت بالعربية بالقرن العشرين. شارل مالك كتب المقدمة لاعماله الكاملة وهو في السبعين من عمره، ويتذكر شرابي ان لازمته الاثيرة هذا موضوع يحتاج الي جلسة طويلة جدا جدا ومات مالك قبل ان يجد الوقت لهذه الجلسة.
ومن بين كل الذين تعرف عليهم وتعلم منهم ترك انطوان سعادة زعيم الحزب القومي السوري الاثر الاكبر علي حياته، وارتبط به وبفكره طويلا، ومع انقطاعه عن الانتماء الحزبي في الخمسينات من القرن الماضي بعد اغتيال عدنان المالكي الا انه ظل فكريا مرتبطا بافكار انطوان سعادة مع انه تساؤل مرة انه لو ظل سعادة حيا ولم يعدم أكان سيظل في الحزب وهو السؤال الذي اجاب عليه بالسلب. وكانت فترة انتمائه للحزب من اكثر الفترات التي تركت اثرها علي حياته، حيث يقول ان كان التأثير الذي تركه سعادة في نفس طاغيا الي درجة اني لم اكن اري لنفسي مستقبلا خارج الحزب ولا عملا الا داخله.. زال التردد الذي احدثه في نفسي انتقالي من منطق القومية العربية الي مفهوم القومية السورية. وتقلبت في الحل الجدلي الذي طرحه انطوان سعادة . انتمي في اثناء دراسته بالامريكية الي القوميين العرب الذي لم يكن من اسسها وكان يحضر اجتماعاتها السرية التي يقول انها مملة، وعن السبب الذي دعاه للانتماء الي هذه الفكرة يقول انه كان يبحث عن طريق راديكالي او فكرة ينتمي اليها. والغريب ان انتماءه للحزب القومي السوري جاء من خلال بحث اعده للجامعة، حيث كان الحزب محاربا في الاعلام، وكان زعيم الحزب في ذلك الوقت بالارجنتين، ومن خلال بحثه ولقائه من ممثلي الحزب في بيروت، كون فكرة جيدة عنه حولته من الشك لليقين. ويعتقد شرابي ان سعادة كان اول مفكر قومي يطرح تحليلا جيدا للقضية الفلسطينية، فمن بين ما قاله الزعيم هو ان العرب دخلوا لاحتلال ما بقي من فلسطين وليس تحريرها، ولكن علي الصعيد الفكري كان سعادة اول من قدم جدلا فكريا منسجما مع الوضع الفلسطيني. لم يكن انتماء شرابي للفكر القومي السوري تخل عن هويته العربية فهو يقول لم يراودني شعور بالذنب باني تخليت عن هويتي العربية فسورية امة عربية تجمعها بمصر والجزيرة العربية والمغرب لغة واحدة وتاريخ واحد ومصير . يبدو ان تقبل شرابي لفكرة القومية السورية لانها خاطبت جانبه العقلي اكثر من الفكرة العربية التي دعت للوحدة الكلية العربية بناء علي خطاب عاطفي، كما ان ما جذبه الي فكر انطوان سعادة هي الحداثة الاصلية النابعة من السياق المحلي وليس تلك الحداثة الليفانتية القائمة علي الاستيراد من الغرب والتي دافع عنها اساتذته في الجامعة الامريكية مثل شارل مالك. ومن هنا ظل شرابي متمسكا بمثله الفكري، سعادة حيث اعتبر ان الزعيم الذي طابقت صورته افكاره لم تكن لديه حياة خاصة، وعندما اعدم لم يفقد هذه الحياة، فقد نسي نفسه، كما قال لتحيا سورية . بعد المحطة اللبنانية التي تتداخل في مرحلته الامريكية والثورية، قضي شرابي حياته مفكرا ومتأملا ومحاضرا في الفكر الاوروبي الذي تدرج فيه ايضاـ حيث بدأ متأثرا بالفكر الوجودي التي يمثلها كيركجارد ونيتشة وسارتر، وفيما بعد الفلسفة الماركسية، ماركس وانجلز ومدرسة فرانكفورت والماركسيين الاوروبيين: ادورنو ولوكاتش وميرلو ـ بونتي وهابرماس، ونظرية النقد الحضاري، فرويد ولاكان وبارت وفوكو ودريدا . وفي شيكاغو، الجامعة (حاز فيها علي شهادة الدكتوراه عام 1953 ، اكمل شرابي مرحلة النضج الفكري، وبدأ سلسلة من عمليات النقد، التي جاء كتابه النظام الابوي ، و المثقفون العرب والغرب ، مقدمات لدراسة المجتمع العربي .
يعترف شرابي بوجود حس من الاتكالية عنده، وفي صور الماضي هنا خشية واحدة رافقته، وهي انه كان لا يحب المرض، فقد ظل يشعر انه لم يتغير كثيرا، الا انه كان يعرف انه شاخ عندما كانت الفتيات والصبايا يتجنبنه.
تمر بي الفتيات في الطريق، فلا يرنني، تلتقي عيناي بعيونهن، ولا اري ما ينبيء بانهن يشعرن بوجودي، لقد انقطع التيار السحري، وانطفأت الشعلة، هكذا اعترف ان عهد الشباب قد انتهي .
لم يحب بعد اكتشافه انه مريض، ان يعرف احد بمرضه، ونومه الباكر وانطوائه علي نفسه في الايام الاولي لظهور التحليلات، واحلامه بعكا وشاطئها، كانت تشير الي انه كان يحلل الوضع الجديد، وهو هنا يتذكر رسالة لصديقه الشاعر ادونيس يقول فيها في شبابنا نري (اري) الموت شابا، وفي الشيخوخة، تصور: الموت شيخا، موتان في اللحظة الواحدة، قد يكون الموت شابا جميلا، اما الموت ـ الشيخ، كأني اراه يدب علي عصاه متهالكا يتجه نحوي. منظر لا يسر . ويعلق شرابي قائلا لا تخيفني الشيخوخة يا ادونيس،اتوقعها كما اتوقع سفرا الي بلد بعيد لا اعرفه وان كنت اعرف عنه الكثير، ما يخيفني هو نهاية الصيف، نهاية حياة منفتحة علي العالم، اقشعر عندما ار نفسي وحيدا، منغلقا علي نفسي، ليس في حياتي الا صحتي، والطبيب والدواء . هذا الشعور بالتوحد امام فكرة المرض التي تفضي الي الموت رافقه من خلال تساقط الرفاق، وموتهم شبابا، لدرجة انه كان يعتقد بنهاية حياته شابا، يقول في الجمر والرماد لامس الموت حياتي في فترات مختلفة، فقد اختطف زملاء في عهد الطفولة، وفي مطلع الشباب اختطف اعز اصدقائي واحدا تلو الاخر، ثم اختطف سعادة..وكنت اشعر انه سيخطفني باكرا، وايقنت في الثلاثين ان حياتي قاربت النهاية.. وفي الخامسة والثلاثين اعتقدت اعتقادا راسخا بأن ما تبقي من عمري لا يتعدي السنوات، وتأكدت ان الموت لا مفر منه لما اصبحت في سن الاربعين، في الحقبة التي توفي فيها كيركيجارد (43) وسعادة (45) وكامو (47) لكن الموت لم يأت، ومنذ بضعة ايام احتفلت بعيد ميلادي التاسع والاربعين، وها هي الخمسينات علي الابواب، اصبحت مؤمنا ان الموت غض الطرف عني، لهذا لم اعد اتوقعه، واصبحت اري المستقبل يمتد امامي الي ما لا نهاية.. نهاية الحياة لم تعد تثير في نفسي شعورا مفجعا .
ناقد من اسرة القدس العربي
0