يقول ابانوب :
اقتباس:بنات الله اللات وعزة ومناة الثالثة ليس لهم علاقة بالمسيحية .. ولكن علاقتهم بالإسلام وثيقة .. فقد تعبد لهم محمد رسولك وسجد لهم .. فقد قال عنهن : تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهم لترتجى ثم سجد .. فقليل من الحياء يا تابع عابد الأوثان محمد بن عبد اللات
و هو افتراء و عدم حياء يلازم كل كلامهم , و الا فهل يقول عاقل ان الاسلام له علاقة وثيقة بعقيدة اولاد الاله و بناته !
مشركوا مكة كانوا يعظمون كفرة اهل الكتاب و منهم اخذوا عقيدتهم , و لكن الفرق بينهم و بينكم يا ابانوب انكم اثبتم للرحمن سبحانه ولدا ذكرا تم ختانه !
اما هو فكانت اصنامهم تماثيل للملائكة التى يعتقدون انها بنات الله تعالى
قال تعالى :
( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى 20 أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى ) النجم :19-21
فاللات و العزى و مناة كانت تماثيل للملائكة التى يعتقدون انها بنات الله سبحانه , لذا قال تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى )
و قال تعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا } النساء : 117
يقول ابن كثير فى تفسيرها :"قال جويبر عن الضحاك في الآية: قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: فاتخذوهن أرباباً، وصوروهن جواري، فحكموا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون: الملائكة
وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى:{ أَفَرَءَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى }[النجم: 19] الآيات، وقال تعالى:{ وَجَعَلُواْ الْمَلئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـنِ إِنَاثاً }[الزخرف: 19] "
و قال الدكتور جواد على فى كتابه " المفصل فى اديان العرب قبل الاسلام "صفحة 207:
"كانت قريش تتعبد للعزى , و تزورها و تهدى اليها , و تتقرب اليها بالذبائح , و ذكر ابن الكلبى - فى كتابه " الاصنام /81- انها كانت اعظم الاصنام عند قريش , و ان قريشا كانت تطوف بالكعبة و تقول :" و اللات و العزى و مناة الثالثة الاخرى , فانهن الغرانيق العلا , و ان شفاعتهن لترتجى " و كانوا يقولون : هن بنات الله "
و هذه المقولة التى كان المشركون يقولونها " انهن الغرانيق العلا .." هى التى نسبتها الروايات السنية الى الرسول صلى الله عليه و آله فى رواية الغرانيق , حيث زعمت روايات اهل السنة ان الشيطان القى هذه الكلمات على لسان رسول الله صلى الله عليه و آله
فالطامة في عقيدة المشركين كانت تتمثل في ادعاء وجود أبناء وبنات لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً ،
وتعددت الآيات التي تتحدث عن اعتقادهم الباطل بوجود أبناء لله تجدها في عدة مواضع :
منها قوله تعالى ( وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة / 116 ، وقوله عز وجل ( قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) يونس / 68 ، وقال عز وجل ( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) الكهف / 4 .
و قال سبحانه :
( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)الأنعام /100- 102
================
بحث فى اسطورة الغرانيق بقلم عالم من علماء شيعة المصطفى صلى الله عليه و آله
غرانيق قريش ومحاولات التغطية على البخاري !
الغرانيق جمع غرنوق ، وهو طائر أبيض من طيور الماء يشبه الكركي ، يعلو في طيرانه. وقد شبهت به قريش أصنامها الخاصة بها: اللات والعزى ومُناة ، ووصفتها بالغرانيق العلى ، لأن مقامها عند الله بزعمهم مقامٌ عال كطائر الغرنوق ! (النهاية:3/364 ، والعين:4/458 ، ولسان العرب:10/287) .
قال الرازي في تفسيره:24/12والغرانيق تصعد في الجو جداً عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب ، أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يلزم به بعضها بعضاً ، فإذا نامت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها ، إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس ، فيسرع انتباهه وإذا سمع جرساً صاح ). انتهى.
وقد كان موقف النبي من الأصنام من أول بعثته موقفاً صريحاً حاسماً لامساومة فيه ، رافضاً لها كلها ، داعياً إلى عبادة رب العالمين وحده لاشريك له ، وكانت سور القرآن تتوالى مهاجمةً الأصنام وعُبَّادها ، مسفهةً أحلامهم ، حتى قال القرشيون: إن محمداً قد سب آلهتنا وسفه أحلامنا !
في ذلك الجو نزلت سورة النجم بعد أكثر من عشرين سورة من القرآن ، كلها صريحة في رفض الأصنام ، ومنها سورة الكافرون ، وقل هو الله أحد ! لكن سورة النجم تميزت بأنها ذمَّت أصنام قريش الثلاثة بأسمائها ، فقال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الإخرَى.أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى. إِنْ هِىَ إِلاأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاالظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى. (19-23) فكان ذلك إعلاناً بتسفيه أصنام قريش (اللات والعزى ومناة ) وإسقاطها إلى الأبد !
ومن الطبيعي أن يكون تأثير ذلك على قريش كبيراً ، وأن يثير كبرياءها وردة فعلها العنيف ، وهذا ما حدث بالفعل حتى وصلت إلى قرار قتل النبي ، فأنجاه الله بالهجرة.
في هذا السياق القطعي من السيرة لايمكننا أن نفسير قصة الغرانيق إلا بأنها ردة فعل قرشية ، وأن أصلها أن أحد المشركين القرشيين أجاب على ذم أصنام قريش في سورة النجم: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثى ، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ، إِنْ هِىَ إِلاأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاالظَّنَّ وَمَاتَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى. فقام بتحريفها إلى مدح للأصنام وقال:أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى ! فأعْجَبَ ذلك القرشيين وتمنوا لو أن القرآن قال هذا المديح في آلهتهم ، بدل ذمها وذمهم !
ومن المؤكد أن قصة الغرانيق وضعها رواة قريش بعد وفاة النبي ، ولم يكن لها عين ولا أثر في سيرته في مكة ، وإلا لرفعها المشركون علماً ، وطبَّل بها اليهود وزمَّروا !
لكن السؤال ما هو غرض طلقاء قريش من ترويج هذه القصة بعد وفاة النبي ونسبتها اليه مع أن أصنامهم انتهت وهدمت، وتبرؤوا منها ودخلوا في الإسلام تحت السيف ثم رضوا به ؟!
الجواب: أن الغرض منها إثبات أن النبي لم يكن معصوماً عصمة مطلقة حتى تكون كل تصرفاته وأقواله حجة ، بل كان يخطئ حتى في تبليغ الوحي! وبذلك يمكن تبريرمخالفة الخلفاء والسلطة لأوامره !
فالمهم عندهم تبرير مخالفةالنبي وليكن ثمن ذلك قصة الغرانيق التي تزعم أنه ارتكب خيانة في نص القرآن والعياذ بالله ، وكفَر ومدَح أصنام قريش لكي ترضى عنه ، وسجد لها وسجد معه مشايخ قريش وكل من كان في المسجد ، وزاد البخاري أن كل الإنس والجن سجدوا يومها !!
وزادت الرواية المزعومة أن زعماء قريش طاروا فرحاً بخيانة النبي في نص القرآن ، وطبيعي أن يطير المستشرقون فرحاً بهذه القصة !!
وأخيراً المرتد سلمان رشدي والحكومات الغربية !!
البخاري يروي فرية الغرانيق في ست مواضع !
روى البخاري:2/32: (عن عبدالله(رض)قال قرأ النبي(ص)النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً...
وعن عبد الله(رض)أن النبي(ص)قرأ سورة النجم فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال يكفيني هذا ، فلقد رأيته بعد قتل كافراً...
وعن ابن عباس(رض)أن النبي(ص)سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجن والإنس ! ورواه ابن طهمان عن أيوب ).
وفي:4/239: (عن عبد الله(رض)قال: قرأ النبي(ص)النجم فسجد ، فما بقي أحد إلاسجد إلا رجل رأيته أخذ كفاً من حصى فرفعه فسجد عليه وقال: هذا يكفيني ، فلقد رأيته بعد قتل كافراً بالله ). وفي:5/7: بنحوه.
وفي:6/52: (قال فسجد رسول الله(ص)وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، وهو أمية بن خلف ). انتهى. فهذه ست روايات رواها البخاري على الأقل.
ورواه مسلم بنحوه في:2/88 ، ورواه في:6/52 ، وسمى الذي سجد بأنه أمية بن خلف) .
وقال الحاكم في المستدرك:1/221: (عن عبد الله قال: أول سورة قرأها رسول الله على الناس الحج ، حتى إذا قرأها سجد فسجد الناس ، إلا رجل أخذ التراب فسجد عليه فرأيته قتل كافراً. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين بالإسنادين جميعاً ، ولم يخرجاه إنما اتفقا على حديث شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله أن النبي قرأ والنجم ، فذكره بنحوه ، وليس يعلل أحد الحديثين الإخيرين ، فإني لاأعلم أحداً تابع شعبة على ذكره النجم ، غير قيس بن الربيع. والذي يؤدي إليه الإجتهاد صحة الحديثين، والله أعلم) .
ومعنى كلام الحاكم: أنه كان الأولى بالبخاري ومسلم أن يرويا السجود في سورة الحج لأنها أصح ، ولكنهما تركاها ورويا السجود في سورة النجم !!
وقال البيهقي في سننه:2/314عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي(ص) سجد فيها يعني والنجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس. رواه البخاري في الصحيح عن أبي معمر وغيره عن عبد الوارث .
وصححه في مجمع الزوائد:7/115 ، قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى...عن ابن عباس فيما يحسب سعيد بن جبير ، أن النبي(ص)كان بمكة ، فقرأ سورة والنجم حتى انتهى إلى: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى ،فجرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى الشفاعة منهم ترتجى. قال: فسمع بذلك مشركو أهل مكة فسرُّوا بذلك فاشتدَّ على رسول الله(ص)فأنزل الله تبارك وتعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ. رواه البزار والطبراني... ورجالهما رجال الصحيح ، إلا أن الطبراني قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس عن النبي(ص)وقد تقدم حديثٌ مرسل في سورة الحج أطول من هذا ، ولكنه ضعيف الإسناد).
ويقصد بالحديث المرسل الحديث الذي يضعفه بابن لهيعة وقد وثقه عدد من علمائهم ، وله شواهد صحيحة تجعله حسناً ، وهو في مجمع الزوائد: 7/70، وفيه:
(حين أنزل الله السورة التي يذكر فيها والنجم إذا هوى ، فقال المشركون: لوكان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر. فلما أنزل الله السورة التي يذكر فيها والنجم وقرأ: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى ، ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت ، فقال: وإنهم من الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى، وذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك ، وذلقت بها ألسنتهم واستبشروا بها ، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله (ص)آخر السورة التي فيها النجم سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان كبيراً فرفع ملء كفه تراب فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله(ص) ، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين. وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي(ص)وحدثهم الشيطان أن النبي (ص)قد قرأها في السجدة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة! فلما سمع عثمان بن مظعون وعبدالله بن مسعود ومن كان معهم من أهل مكة أن الناس أسلموا وصاروا مع رسول الله(ص)، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، أقبلوا سراعاً ! فكبُر ذلك على رسول الله(ص)فلما أمسى أتاه جبريل فشكا إليه ، فأمره فقرأ له ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل ! وقال: معاذ الله من هاتين ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك ! فلما رأى ذلك رسول الله(ص)شق عليه وقال: أطعتُ الشيطان وتكلمتُ بكلامه وشرَّكني في أمر الله ! فنسخ الله ما يلقى الشيطان وأنزل عليه:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِىٍّ إلا إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإن الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ). الحج:52-53 فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته ، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم. فذكر الحديث وقد تقدم في الهجرة إلى الحبشة. رواه الطبراني مرسلاً وفيه ابن لهيعة ، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة).
وقد أورد السيوطي قصة الغرانيق بعدة طرق بعضها صحيح في الدر المنثور:4/194وقال في ص366: (وأخرج البزار ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال: إن رسول الله(ص)قرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ! ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا. فجاء جبريل فقال: إقرأ على ما جئتك به ، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى! فقال: ما أتيتك بهذا ! هذا من الشيطان فأنزل الله:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِىٍّ إلا إذا تَمَنَّى..إلى آخر الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، بسند صحيح عن سعيد بن جبير... !!). انتهى.
بهذا يتبين لك أن حديث الغرانيق أو الآيات الشيطانية رواها البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيد صحيحة ، فكل هؤلاء يتحملون وزرها ! ويتبين لك بطلأن دعوى من قال إن الواقدي تفرَّد بها وأن الصحاح لم تروِها !!
ويتبين لك مصيبة أن بعض الحفاظ يكذبون ليغطوا على البخاري !!
قال ابن كثير في تفسيره: قد ذكر كثير من المفسرين هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من مهاجرة الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها من وجه صحيح .
وقال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير واحد من الأئمة حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولارواه أحد بسند متصل ، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون عن الصحف كل صحيح وسقيم ) !
ونقل عن أبي بكر بن العربي الإمام المالكي: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له ) !! (هامش عصمة الأنبياءللرازي ص94).
وذكر عبد الله النعيم في كتابه الإستشراق في السيرة النبوية- نشرالمعهد العالمي للفكر الإسلامي1417، أن المصادرَ التي روت حديث الغرانيق هي: طبقات ابن سعد:1/205 ، وتاريخ الطبري:2/226 ، وتاريخ ابن الأثير:2/77 ، وسيرة ابن سيد الناس:1/157. وقال في ص97: (يعتبر الواقدي أول من روج لهذه الفرية ، ثم أخذها عنه ابن سعد والطبري وغيرهم).
ونقل في ص93 نقد القرضاوي في كتابه كيف نتعامل مع السنة النبوية ، وجاء فيه: (ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن ، ولهذا كان حديث الغرانيق مردوداً بلا ريب ، لأنه منافٍ للقرآن ). انتهى .
وقال في ص98: (ولم يروِ ابن إسحاق وابن هشام هذه الواقعة إطلاقاً. ومهما يكن من أمر فالواقدي هو أصلها. إن ما يدعو للتساؤل هو: كيف أمكن تمرير هذه الواقعة مع علم أصحابها بعصمة الرسل؟! ). انتهى .
ثم نقل نقد القاضي عياض في كتابه الشفا لحديث الغرانيق سنداً ومتناً .
وكلامهم يشبه بعضه في تبرئة البخاري من الغرانيق!! ولكن عدداً منهم يعرفون أن البخاري روى فرية الغرانيق بأكثر من رواية ، وروتها صحاحهم بطرق متعددة ، يكثر فيها الإسناد الصحيح !
غاية الأمر أن البخاري ومن شاكله حذفوا منها إسم الغرانيق وأبقوا سجود النبي المزعزم بعد مدحه لأصنام قريش وسجود المشركين معه ، وقد سموا من زعماء المشركين الذين سجدوا أمية بن خلف ، وأبا أحيحة وهو سعيد بن العاص! وهم يعرفون أن سجود المشركين بعد سماع القرآن لم ينقله مصدر على الإطلاق ، في أي قصة على الإطلاق ، إلا قصة الغرانيق !
لذلك من حقنا أن نشك في أمانة النافين لرواية البخاري والصحاح لها ، كالذين تقدم كلامهم ، وكالفخر الرازي عندما قال في تفسيره:23/49:
(وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي(ص)قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق ! وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق) !!
تناقض الفخر الرازي في حديث الغرانيق !
وقد بحث الفخر الرازي هذه الفرية في كتابه عصمة الأنبياء عليهم السلام وفي تفسيره:23/49 ، فدافع عن النبي ونفاها عنه ، ودافع عن البخاري وغيره من صحاحهم ! ثم عاد في أواخر تفسيره واتهم بها النبي !!
قال في عصمة الأنبياء عليهم السلام ص93:
(الشبهة الثانية:تمسكوا بقوله تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إِلاإِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قالوا إن ظاهر الآية يدل على أن الشيطان ملقٍ في قراءة الأنبياء ما يؤدي إلى الشبهة ، فإذا جوَّزنا ذلك ارتفع الوثوق !
روي أنه(ص)شقَّ عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به ، فتمنى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه ، وذلك لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، وأحب يومئذ أن لا يأتيه شئ من الله فينفروا عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، فقرأ رسول الله(ص): أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى ، ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ! فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله(ص)في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها ، فسجد المسلمون وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولاكافر إلا سجد ، إلا الوليد بن المغيرة ، وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنةً من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود !
وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر! فلما أمسى رسول الله(ص)أتاه جبريل وقال: ما ذا صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم أقل لك ؟! فحزن رسول الله (ص)حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً ، فأنزل الله هذه الآية ) !!
الجواب الذي يدل على أنه ما غير ومابدل وجوه خمسة:
الأول: قوله تعالى:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. الثاني: وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَىَّ. الثالث: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا. وَ لَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قليلاً. الرابع: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. الخامس: قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى .
وإذا ثبت ما ذكرناه فلنشرع في الجواب عن الشبهة فنقول:
التمني، جاء في اللغة لأمرين: أحدهما تمنى القلب، والثاني التلاوة ، قال الله تعالى:وَمِنْهُمْ أمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاأَمَانِيَّ ، أي إلا قراءة...
إذا عرف ذلك فنقول: من المفسرين من حمل الآية على تمني القلب ، والمعنى أن النبي متى تمنى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لاينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ، ويأتيه بما يرشده إلى ترك الإلتفات إلى وسوسته.
وهذا ضعيف ، لأنه لوكان كذلك لم يكن مايخطر بباله فتنة للكفار ، وذلك يبطله قوله تعالى: لِيَجْعَلَ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد.. الآية: فثبت أن المراد بالتمني القراءة ، ثم اختلف الذاهبون إلى هذا التأويل على وجوه....
فإن قلت: لعله قد ذكر ذلك استفهاماً على سبيل الإنكار ؟
قلت: هب أنه كذلك لكن قراءته في أثناء قراءة القرآن مع كونه على ذلك الوزن توهم كونه منه ، فيعود المحذور المذكور.
أما السهو فغير جائز أيضاً ، لأنه لو جاز وقوع السهو هاهنا لجاز في غيره وحينئذ ترتفع الثقة بالشرع ! ولأن الساهي لايجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ مطابقة لوزن هذه السورة وطريقتها ومعناها ، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق فيه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
الثالث، أن يكون الشيطان أجبر النبي(ص)على التكلم ، وهذا أيضاً فاسدٌ لوجوه ثلاثة......
الخامس ، أن المتكلم بذلك بعض الكفرة ، فإنه عليه الصلاة والسلام لما انتهى من قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها ، فقال بعض من حضر من الكفار:تلك الغرانيق العلا ، فاشتبه على القوم ، لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته ويكثرون من الكلام طلباً لتغليطه وإخفاء قراءته. وممكن أن يكون أيضاً في الصلاة لأنهم كانوا يقربون منه في حال الصلاة ويسمعون قراءته ويلغون فيها ، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات ، فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الواقعات فتوهم القوم أنه من قراءته عليه الصلاة والسلام ، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته حصل ، أو لأنه جعل ذلك المتكلم شيطاناً.....
ولقائل أن يقول: إذا جوزتم أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بما يشتبه على كل السامعين حتى يظنوه كلاماً لرسول الله (ص) بقي هذا الإحتمال في كل ما يتكلم به الرسول(ص)فتفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع !
الجواب: أن ذلك الإحتمال قائم ، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس.....
السادس، أن المراد بالغرانيق الملائكة ، وقد كان ذلك قرآنا منزلاً في وصف الملائكة ، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته ) !!. انتهى.
والتهافت في دفاع االرازي واضح ، فقد نفى أولاًأن يكون النبي غيَّر أو بدَّل في قراءته فقالالجواب الذي يدل على أنه ماغيَّر ومابدَّل...)، لكنه عاد وفسر آية:ألْقَى الشَّيْطَان فِي أمْنِيَّتِه ، بذلك ! وضعَّف الإحتمالات التي تنزه النبي أو سكت عنها ، كالوجه الخامس الذي استفاده من الشريف المرتضى!
أما في تفسيره الكبير ، فقد بدأ قوياً في استدلاله ، لكنه ضعف في ختام كلامه ، وعاد إلى تبني اتهام قومه القرشيين للنبي ، وينبغي أن تعرف أن الفخر الرازي قرشئ تيمي ، من عشيرة أبي بكر وقيل من ذريته !
قال في الجزء 23/49: ( المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول(ص)لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى....الى آخر ما ذكره في كتاب العصمة ، ثم قال:
هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه...وأورد الآيات المتقدمة وغيرها ، ثم قال:
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة ، وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .
وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي(ص)قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن ، وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوز على الرسول(ص)تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .
وثانيها: أنه ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .
ورابعها: قوله: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ، وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً ، أولى .
وخامسها: وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها ، لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لايعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة...). انتهى.
أقول: إلى هنا يبدو الرازي منسجماً ، فقد وافق محمد بن إسحاق صاحب السيرة على أن القصة فريةٌ من وضع الزنادقة القرشيين على النبي بأنه مدحَ أصنامهم وسجد لها ، وسجد معه القرشيون ، وكل من في المسجد !
لكن الرازي دخل مدخلاً صعباً في الدفاع عن البخاري وبقية مصادرهم التي روتها بطرق متعددة وصححتها ! وادعى أن البخاري لم يرو حديث الغرانيق ، مع أنه رواه وحذف منها إسم الغرانيق ، كما رأيت !
ثم دخل الرازي مدخلاً أصعب في تفسير قوله تعالىوَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، لأنه اقتفى أثر مفسري السلطة القرشية وحبس نفسه بتفسير أُمْنِيَّتِهِ بذهن النبي وقراءته للقرآن !
بينما التمني أمر ذهني ، لكن الأمنيَّة قد تكون ذهنية ، وقد تكون خارجية ، وهي في الآية خارجية ، وإلقاء الشيطان إنما هو في الأمنيَّة الخارجية ، وليس في ذهن النبي :
ونلاحظ أن كلام الرازي الطويل بلا طائل ، فقد قال:
(ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمنى القلب والثاني: القراءة )...
ثم أخذ في تعداد الإحتمالات على تفسير الأمنية بالقراءة ، وردها جميعاً فقال: (فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة. وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي(ص)متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الإلتفات إلى وسوسته ، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه.... واختار منها الرابع ، وختم بقوله:
(ورابعها: معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. وكقوله: وأما يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ .
ومن الناس من قال لايجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله(ص)فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ. والجواب: لايبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار. فهذا آخر القول في هذه المسألة ). انتهى.
وبذلك ختم الرازي بتبني الفرية على النبي بأنه يتمنى فيلقي الشيطان في ذهنه فينشغل به خاطره ، فيحصل له السهو في أفعاله ، فيكون ذلك فتنة!!
فأين صار استنكاره لفرية الغرانيق ، وأنها من وضع الزندقة ؟!
بل صرح في تفسيره:32/141 ، بنسبة الكفر إلى النبي وهو يعدد الفوائد لكلمة"قل" في(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) قال:
(الحادي والثلاثون: كأنه تعالى يقول: يا محمد ألست أنت الذي قلت: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم ، وحتى أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه: لاتخاف السلطان قال: ولم ؟ قال: لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين ، وأما أن يعتقدوا أن السلطان متدين ، لأنه يخالطه العالم الزاهد ، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله ، وكلاهما خطأ ، فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك ، لاسيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك:تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فأزل عن نفسك هذه التهمة و: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) ! انتهى.
فأين حملة الفخر الرازي على الزنادقة واضعي فرية الغرانيق ، ونصه على أن النبي لم يغيِّر في سورة النجم ولم يبدِّل؟!!
نعوذ بالله من هذه الفرية على سيد الموحدين ، التي بلغ من تأكيد مصادرهم عليها أنها أوقعت الفخر الرازي وهو العالم المتبحر والفيلسوف المتضلع في هذا التهافت المشين ، فنقض ما كتبه بيمينه في الجزء الثالث والعشرين ، وعمي عن أن سورة الكافرون نزلت بالإتفاق قبل سورة النجم !
قال الزركشئ في البرهان:1/193أول مانزل من القرآن بمكة إقرأ بإسم ربك، ثم والقلم ، ثم ياأيها المزمل ، ثم المدثر ، ثم تبت يدا أبي لهب ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك الأعلى ، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى ، ثم ألم نشرح ، ثم والعصر ، ثم والعاديات ، ثم إنا أعطيناك الكوثر ، ثم ألهاكم التكاثر ، ثم أرأيت الذي ، ثم قل يأيها الكافرون ، ثم سورة الفيل ، ثم الفلق ، ثم الناس ، ثم قل هو الله أحد ، ثم والنجم إذا هوى ، ثم عبس وتولى...). انتهى.(راجع فهرست ابن النديم/28، وتفسير الميزان للطباطبائي:13/233)
هذا ، وسوف نلقي مزيداً من الضوء عل تفسير آية: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ، في فصل العصمة في القرآن ، إن شاء الله تعالى .
القاضي عياض أكثر علماء السنة اعتدالاً في عصمة نبينا
قال في الشفا بتعريف حقوق المصطفى:2/123:
(فصل:وأما أقواله(ص)فقد قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيها من الأخبار عن شئ منها بخلاف ما هو به. لا قصداً ولا عمداً ، ولا سهواً ولا غلطاً .
أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله صدق فيما قال ، اتفاقاً ، وبإطباق أهل الملة إجماعاً .
وأما وقوعه على جهة الغلط في ذلك ، فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ومن قال بقوله.
ومن جهة الإجماع فقط وورود الشرع بانتفاء ذلك وعصمة النبي لامن مقتضى المعجزة نفسها عند القاضى أبي بكر الباقلاني ومن وافقه ، لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة ، لا نطول بذكره فنخرج عن غرض الكتاب .
فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين أنه لايجوز عليه خلف في القول إبلاغ الشريعة والإعلام بما أخبر به عن ربه وما أوحاه إليه من وحيه ، لا على وجه العمد ولا على غير عمد ، ولا في حالى الرضا والسخط والصحة والمرض ، وفي حديث عبد الله بن عمرو قلت: يا رسول الله أأكتب كل ما أسمع منك ؟ قال: نعم ، قلت: في الرضى والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقاً.
ولنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً: فنقول إذا قامت المعجزة على صدقه وأنه لا يقول إلا حقاً ولا يبلغ عن الله إلا صدقاً وأن المعجزة قائمة مقام قول الله له صدقت فيما تذكره عني ، وهو يقول إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ، وأبين لكم ما نزل عليكم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى. وقَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان ، فلو جوزنا عليه الغلط والسهو لما تميز لنا من غيره ولاختلط الحق بالباطل !
فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص ، فتبرئة النبي(ص)عن ذلك كله واجب ، برهاناً وإجماعاً ، كما قاله أبو اسحاق .
فصل: وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات:
منها ما روى من أن النبي(ص)لما قرأ سورة والنجم: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى ، قال: تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى. ويروى ترتضي ، وفي رواية إن شفاعتها لترتجي وإنها لمع الغرانيق العلى. وفي أخرى والغرانقة العلى تلك الشفاعة ترتجى ، فلما ختم السورة سجد وسجد معه المسلمون والكفار لمَّا سمعوه أثنى على آلهتهم !
وما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه وأن النبي(ص) كان يتمنى أن لو نزل عليه شئ يقارب بينه وبين قومه. وفي رواية أخرى أن لاينزل عليه شئ ينفرهم عنه ، وذكر هذه القصة ، وأن جبريل جاءه فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال له: ماجئتك بهاتين ! فحزن لذلك النبي(ص)فأنزل الله تعالى تسلية له: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..الآية وقوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ..الآية.
فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ! وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم ، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته ، فقائل يقول إنه في الصلاة ، وآخر يقول قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول قالها وقد أصابته سِنة ، وآخر يقول بل حدَّث نفسه فيها ، وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسانه وأن النبي(ص)لما عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك ، وآخر يقول بل أعلمهم الشيطان أن النبي(ص)قرأها ، فلما بلغ النبي(ص)ذلك قال: والله ما هكذا نزلت.. إلى غير ذلك من اختلاف الرواة .
ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب ! وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي(ص)كان بمكة وذكر القصة .
قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لانعلمه يروى عن النبي(ص)باسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لايعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه ، الذي لايوثق به ولاحقيقة معه.
وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره ، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار رحمه الله .
والذي منه في الصحيح أن النبي(ص)قرأ والنجم وهو بمكة ، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ). انتهى.
وينبغي أن نحسن الظن بالقاضي عياض بأنه لم يطلع على الطرق والأسانيد الكثيرة لحديث الغرانيق ، لكن العجب أنه أورد ما رواه البخاري في الصحيح ، وهرب منه ولم يعلق عليه بشئ! فهل غاب عليه أن ما رواه البخاري هو حديث الغرانيق بعينه وذاته ، وأنه لم يُرْوَ سجود المشركين مع المسلمين في غيره أبداً ؟!
ثم تابع القاضي عياض توهين حديث الغرانيق من جهة دلالته فقال:
(هذا توهينه من طريق النقل، فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته(ص)ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهةٍ غير الله ، وهو كفر ! أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبِّه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي(ص)أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل وذلك كله ممتنع في حقه(ص)! أو يقول ذلك النبي(ص)من قبل نفسه عمداً وذلك كفر! أو سهواً وهو معصوم من هذا كله ! وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته (ص)من جريان الكفر على قلبه أولسانه لاعمداً ولا سهواً ، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان ، أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقول على الله لاعمداً ولاسهواً ما لم ينزل عليه ، وقد قال الله تعالى:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ، الآية. وقال تعالى: إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. الآية .
ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً ، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الإلتئام متناقض الأقسام ، ممتزج المُدح بالضم ، متخاذل التأليف والنظم ، ولما كان النبي(ص)ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ! وهذا لا يخفى على أدنى متأمل ، فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان فصيح الكلام علمه.
ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضَعَفَة القلوب والجَهَلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي(ص) لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفيْنَة بعد الفينة ، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، ولم يَحْكِ أحدٌ في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ، ولو كان ذلك لوجَدَت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة كما فعلوا مكابرةً في قصة الإسراء ، حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة، وكذلك ما روي في قصة القضية(صلح الحديبية)،ولافتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت ، ولاتشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت .
فما روي عن معاند فيها كلمة ، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها واجتثاث أصلها ، ولاشك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين ليلبسن به على ضعفاء المسلمين !
ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ.. الآيتين وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى ، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم ، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً ، فكيف كثيراً! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والإفتراء بمدح آلهتهم وأنه قال(ص)افتريت على الله وقلتُ ما لم يُقل) وهذا ضد مفهوم الآية ، وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟! ). انتهى.
ثم ذكر عياض الوجوه التي ذكرها علماؤهم لتوجيه حديث الغرانيق ، وضعَّف أكثرها ، وبذلك تنزَّل وفتح الباب لاحتمال صحته ، وهو أضعف الإيمان !
غرانيق قريش يتصيدها بروكلمان ومونتغمري
انتقد الباحث السوداني عبدالله النعيم في كتابه: الإستشراق في السيرة النبوية- (نشرالمعهد العالمي للفكر الإسلامي1417) استغلالَ المستشرقين لرواية الغرانيق، ونقل في ص51 افتراءَ المستشرق بروكلمان وقوله عن النبي : (ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونهن بنات الله ، وقد أشار إليهن في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى... ثم ما لبث أن أنكر ذلك وتبرأ منه في اليوم التالي ) !!
ونقل في ص96 عن المستشرق مونتغمري وات قوله: (تلا محمد الآيات الشيطانية باعتبارها جزءً من القرآن ، إذ ليس من المتصور أن تكون القصة من تأليف المسلمين أو غير المسلمين ، وإن انزعاج محمد حينما علم بأن الآيات الشيطانية ليست جزءً من القرآن ، يدل على أنه تلاها ، وأن عبادة محمد بمكة لاتختلف عن عبادة العرب في نخلة والطائف (محلتان لأصنام قريش) ولقد كان توحيد محمد غامضاً ، ولاشك أنه يعد اللات والعزى ومناة كائنات سماوية أقل من الله). انتهى .
ومع أن المستشرقين لايحتاجون إلى الروايات الموضوعة ليتمسكوا بها ، فهم يكذبون على نبينا وعلى مصادرنا جهاراً نهاراً ، لكن المؤسف أن تحفل مصادر السنيين وفي طليعتها البخاري بالإفتراءات على النبي كقصة الغرانيق ، وقصة ورقة بن نوفل ، وغيرهما من القرشيات المخالفة للعقل ، فتقدِّم للمستشرقين مادةً ومستمسكاً للطعن في النبي والقرآن والإسلام !
ملاحظات على قصة الغرانيق
1- لعل فرية الغرانيق أعظم فرية تضمنتها مصادر الحديث السنية على رسول الله من بين أكثر من ثلاثين فرية عليه بأنه شك في نبوته ، وأنه خالف أوامر ربه ، وتحيز لأقربائه ، وأنه كان يهتم بالأغنياء ويعبس في وجه الفقراء ، أو اتهمته بسلوك مشين ! وقد تعرضنا لأكثرها في المجلد الرابع من كتاب الإنتصار .
2- من المفارقات الواضحة في رواياتهم أن سورة النجم التي اتهموا النبي بأنه تعمد في قراءتها الكفر ومدح الأصنام وسجد لها ، أو أن الشيطان قالها على لسانه ، أو أنه نسي وأثَّر عليه الشيطان ففعل ذلك ! هي السورة التي نص الله تعالى في مطلعها على عصمة نبيه عصمة مطلقة بمستوى لم يبلغه نبي ولا رسول آخر عليهم السلام ! قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَايَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى .إِنْ هُوَإِلا وَحْىٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.
فكأنهم تعمدوا وضع فرية الغرانيق في سورة نصت على العصمة الشاملة للنبي تكذيباً صريحاً للقرآن ليقولوا: بل نطق عن الهوى وكفر ، وسجد للأصنام تقرباً لقريش ! فوبخه الله وتسامح معه وتاب عليه !!
3- لا بد على زعمهم أن يكون جبرئيل قد تأخر في توبيخ النبي أياماً عديدة حتى انتشر خبر كفر النبي وسجوده للأصنام في مكة ، ووصل الخبر إلى الحبشة ففرح المسلمون المهاجرون بالحل السلمي مع قريش ! وعاد قسم منهم إلى مكة ، فوجدوا نبيهم عاد إلى التوحيد وكفَر بالأصنام بعد أن وبخه جبرئيل ، وأن قريشاً عادت إلى عدائها له ، فرجعوا أدراجهم إلى الحبشة !
وقد تندر الأخ الباحث السيد جعفر مرتضى على ذلك فقال في الصحيح من السيرة:3/146: (وقولهم إن هذه القضية قد كانت بعد شهرين من الهجرة إلى الحبشة نقول فيه: إنهم يقولون إن عودة مهاجري الحبشة قد كانت بعد شهرين أيضاً ، فهل وصل إليهم الخبر بالتلكس ، أو بالتلفون ، وهل جاؤوا بالطائرة ، أم بالصواريخ؟! إلا أن يكون المراد أنهم بدأوا بالتوجه نحو مكة بعد شهرين من هجرتهم ، وإن كان هذا بعيداً عن ظاهر اللفظ .
وكذا قولهم إنه لما عرض السورة على جبرئيل وقرأ الفقرتين أنكرهما جبرئيل فقال : قلت على الله ما لم يقل ! فأنزل الله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ،