" ... فإني لا أتردد في الاحتماء بهذا الإسم لإهداء هذا الكتاب وجميع كتبي : ..... لهذا الرجل الذي يحلو لي أن أسميه بيني وبين نفسي بـ "الأمير المختلف" إنه طلال بن عبد العزيز الذي لا يحتاج إلى تعريف .... " - إهداء الجابري لكتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"


تعرفت على الجابري من العام 2003 ، قرأت له : "نحن والتراث" و "مدخل إلى فلسفة العلوم " و "تكوين العقل العربي" و " العقل الأخلاقي العربي " وأجزاء كبيرة من "بنية العقل العربي" و " العقل السياسي العربي" و "إشكاليات الفكر العربي" .. وكذلك تابعت مقالاته كلها التي أصدرها في كتاب " في نقد الحاجة إلى الإصلاح " .

وقبل البدء في أي كلام ، لا بد من تسديد هذا الدين مع هذا المفكر الكبير ، الذي كان علامةً فارقة تماما في سير قراءاتي المتواضعة . ولا يمكن ان أزيد عن كلام جورج طرابيشي - أكثر من أفنى عمره في نقد الجابري : " إن الذهن بعد مطالعة "تكوين العقل العربي" لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام اطروحة تغيّر، وليس مجرد اطروحة تثقّف" .

في آخر كتبه " مدخل إلى القرآن الكريم" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة في شهر أكتوبر للعام 2006م ، يطالعنا الجابري بكتاب يختلف موضوعه تماما عن باقي المواضيع التي تناولها : القرآن . الجابري ، في نقده الجذري والحاسم ، والتأكيدي ، للحضارة العربيّة والإسلاميّة ، لا يملّ من تكرار أنه لا يعتبر القرآن : كنصّ ، من ضمن التراث الثقافي للحضارة العربيّة الإسلاميّة ، بل يتعالى عن ذلك باعتباره كتاباً منزلّا ، وبالتالي تصبح كتب التفاسير والعلوم القرآنية كلها داخلة ضمن التراث الحضاري ، إلا القرآن - كتاب الله ، فهو خارج القائمة .


يعيد الجابري التأكيد على هذه القضيّة في كتابه الأخير ، ويؤكد أن غايته من هذا الكتاب هو "التعريف به" منطلقا من كون "القرأن يفسّر بعضه بعضا " .. ويبحث في القرآن عن كيفية تعريفه بنفسه . كذلك ، يندرج هذا التعريف بالقرآن ، تحت الإطار العام لمشروع الجابري ، وهو : جعل المقروء معاصرا لنا ومعاصرا لنفسه . وفات الجابري ، أول تناقض يقع فيه .. فهو في الوقت الذي يُؤكد فيه أن القرآن ليس جزءا من التراث ، وإنما مجموع الأفهام والتفسيرات التي احاطته هي التراث ، إلا أنه - عمليا - يتعامل مع "آيات القرآن" .. التي ليست "مادة جامدة" - بحسب تعبير الجابري نفسه ، والتي بالضرورة تقرر أيديولوجيا - إذا تم اعتبار الدين : أيديولوجيا . أقول : يتعامل معها ، على أنها : نصوص تراثية ، يطبق عليها ذات المنهج الذي وضحه في "نحن والتراث" .

بعيدا عن هذا التناقض ، هناك نوع من "الحذر الشديد" في نصّ الجابري ، ففي المقدمة يهدي الكتاب لأمير سعودي ، وفي المقدمة نفسها يقول أن فكرة الكتاب جاءته كاقتراح من صديق سعودي عندما كان في الرياض . ويختم مقدمته بقوله : " ثقتي في حسن ظن القراء كبيرة ، والله نسأل التوفيق" . حسب خبرتي بالتعاطي مع الجابري ، وحسب النقد الضخم الذي وجهه طرابيشي إليه .. فإن أوضح سمة لكتابات الجابري ، هي الفحولة ، ففي كل ميدان يطرقه : هو الأول ... عندما بدأ مشروع "نقد العقل العربي" أوضح أنه أول من طرق هذا الباب ، وكذلك في العقل الاخلاقي .. وكذلك مصطلحاته الشهيرة كـ"العقل" .. التي يوحي للقارئ أنها مخترعات خاصة به ، في حين أن هناك الكثير ممن سبقوه إليها .

قد يقال أن الجابري : إنسان ، وطبيعة الإنسان التغير ، خصوصا إذا كان ذا توجّه معرفي . للأسف أن هذه الحالة لا تنطبق على الجابري ، فهو يقوم بالإيحاء ذاته عندما يقدم لمفهوم "الظاهرة القرآنية" .. وكأنه مفهوم من إنتاجه الثقافية الخالص ، دون أي اشارة لا من قريب ولا من بعيد لمالك بن نبي صاحب كتاب "الظاهرة القرآنية" . إذن ، وكتحليل نفسي ، لا أستطيع تفسير غياب فحولة الجابري في حديثه عن منشأ فكرة الكتاب إلا - كما أرشح أنا - بسبب خوفه من التكفير ، فلجأ إلى تحصين نفسه بحصانة سعوديّة .

وبعيدا عن التحليل النفسي ، في الفصل الأول تقريبا ، يسعى الجابري كثيرا إلى تبرير "تحركاته" .. في بحثه عن القرآن ، ففي كل خطوة يخطوها ، يؤكد أن هذه الخطوة خطاها "السلف من قبل" وأن الخوض فيها مبرر تماما . فهو يحاول قطع كل الطرق التي يمكن أن تتخذ كوسيلة لتكفيره .

هناك شاهد آخر .. يقرر الجابري أن محمدا لم يؤتَ من المعجزات إلا القرآن ... وأن أي دعوى تقول غير ذلك هي باطلة ، ويأتي بآيات كثيرة تردّ على قريش مطالبتهم بالإتيان بآية ، ويأتي باحاديث يؤكد فيها النبي أنه إنما أوتي "وحيا يوحى" . وبعد تقرير هذه القضيّة ، يفنّد القول بانشقاق القمر ، والإسراء والمعراج الجسديين ، ويختار بعض التفاسير القديمة التي فسرت الانشقاق بأنه لم يحدث بل سيحدث ، وفسرت الإسراء والمعراج بأنهما في المنام . ومنطلق الجابري في هذا ، أنه يختار من من "التراث" "ما لا يتعارض مع القهم الذي ينسجم مع مبادئ العقل ومعطيات العلم المعاصر" . ولا أعلم كيف يستطيع الجابري التوفيق بين هذا ، وبين منهجه الذي يجعل المقروء " معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في نفس الوقت" .


من شواهد "الخوف من التكفير" هناك قضيّة "الأحاديث" ... الجابري لا يصرّح بردّ أحاديث البخاري ومسلم ، ولكنه - أثناء تناوله لتفسير الآيات - يتعامل مع القرآن دون النظر إليها . وإن اضطر للتعليق عليها ، اكتفى بقوله انها " أحاديث الآحاد " التي تساهل بها العلماء بقصد الترغيب والترهيب .. وأنها لا ينبني عليها أحكام. هكذا ، بفقرة واحدة ، يقضي على علم كامل هو من أكثر فروع الحضارة العربيّة الإسلاميّة نشاطا وحيوية .

لن أطيل أكثر ، ما أريد قوله أن الجابري أساء لنفسه كثيرا في هذه الدراسة السطحيّة ، التوفيقية ، التي لا تمت للنقد بأي صلة . ولعل "فوبيا التكفير" مارست سلطتها الكبيرة على الكاتب ، ليضطر نفسه إلى الكتابة على هذا المنوال ، الذي لا يختلف فيه عن أي كاتب إسلامي .





شكرا

تحياتي زميل العاقل (f):
اشكرك على هذا النص الجميل الذي -على ما يبدو لي -ينطلق من كون النقد بكافه اشكاله يعد وسيله ملحه على المثقف العربي , خصوصا في جو ثقافي كالجو العربي الذي يختلط فيه كل شيء بكل شيء.
النص ممتع حقا , وكل من قراء الجابري واتبعه الطرابيشي تقر نفسه بالقول ان الجابري يحمل مشروعا مؤدلجا يحاول استخدام تقنيات خادعه لترويجه , او كما يقول محمد اركون عنه :"يلزم نفسه بمنهج علنا ويخالفه سريعا عندما يكتب"...

اريد في هذه المداخله السريعه ان اقول ان الجابري يقول صراحه في كتابه "تكوين العقل العربي" عندما يناقش مشكل التقدم العربي , يقول انه يصدر عن ايدولوجيا واعيه , ويؤكد انها الحل الاكثر فاعليه ..

واعتذر حاليا عن الشاهد لان الكتاب ليس بين يدي الان, على اني ساعاود وضعه .
كل التقدير