ذكرني حديثكم هذا بهذا المقال الصادر هذا الشهر في اللوموند ديبلوماتيك.
كما أنني لا أرى ما هي المشكلة بتعلم عدة لغات والمحافظة على اللغات الأم.
هناك رغبة لدينا كلنا وهي مرضية تنبع من رغبتنا من توحيد الفكر واختزاله بذواتنا، لفرض لغة أو عدة لغات على العالم.
بينما التعددية هي التي تثري العالم وليس توحده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السراب الايديولوجي في مفهوم الانكليزية كلغة "تواصل دولي"
عالم متعدد اللغات تفاديا لديكتاتورية الانكليزية
*برنار كاسن
Bernard CASSEN
كانت حلما في ذهن السيد الان مينك، وكاد السيد كلود تيلو ينجح في انجازها. فمنذ العام 1989 كان الاول متحمسا "لجعل تعليم الانكليزية الزاميا منذ المرحلة الابتدائية، وعدم الموافقة على اختيار لغة أولى أخرى الا بعد التأكد من الامتلاك التام للانكليزية، تعزيز الوسائل التربوية، جعل معرفة هذه اللغة مدخلا للدراسة على غرار الرياضيات او الاملاء [1]...". أما الثاني وبصفته رئيسا للجنة النقاش الوطني حول مستقبل المدرسة، فقد سلّم وزير التربية الفرنسي في حينه، فرنسوا فيون، تقريرا يدعو فيه الى التعلم الالزامي "للانكليزية كلغة تواصل دولي" وذلك ابتداء من السنة الثانية من المرحلة الابتدائية أي في سن الثامنة [2]. في موقف محترس تبنى الوزير فقط فكرة تعليم لغة حية ابتداء من الصف الاول الابتدائي. في الممارسة ستكون النتيجة مماثلة تقريبا بسبب قوة الضغط الاعلامي في اتجاه تعلم الانكليزية المعتبرة "لغة التواصل الدولي" الوحيدة من دون امعان النظر في معنى هذه العبارة [3].
وفي غياب أدنى تفحص للمعايير الثلاثة وهي الحاجات اللغوية الفعلية لمجموع المواطنين (وليس فقط ما تتصوره جمعيات أهالي الطلاب) والجغرافيا السياسية للغات اضافة الى الجغرافيا السياسية نفسها، فان تقارير من طراز تقرير لجنة تيلو تفضي الى خلاصات أقرب الى ثرثرات المقاهي. فعملية فرض تعليم الانكليزية في فرنسا او في أي بلد آخر من الاتحاد الاوروبي قرار سياسي بامتياز لا علاقة له بحاجات "التواصل" ولا معنى له الا من ضمن رؤية لمستقبل اوروبا والعالم وخصوصا العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
فالقوة الامبراطورية الاميركية التي تعطي الدفع للعولمة النيوليبيرالية وتهندسها لمصلحتها، لا ترتكز فقط على عوامل مادية (القدرات العسكرية والعلمية وانتاج البضائع والخدمات والسيطرة على حركة الطاقة والمال الخ...). فهي تحوز ايضا الهيمنة على العقول أي المراجع والاشارات الثقافية وفي الأخص الاشارات اللغوية. فاللغة الانكليزية قائمة بالتالي وسط نظام شامل تلعب فيه دورا مماثلا لدور الدولار في النظام النقدي العالمي. واذا استعرنا من قاموس علم الفيزياء الفلكية نقول ان هذا النظام يرتكز على وجود كوكب رئيسي (الانكليزية بصفتها لغة مركزية بامتياز) تدور حوله دزينة من اللغات ـ الكواكب المحاطة بدورها بما يقارب الـ 200 من اللغات ـ الاقمار التي تتمحور حولها 6000 لغة أخرى تقريبا. وكما ان العملة الخضراء بصفتها اداة للدفع وعملة احتياط دولية في آن واحد تسمح للولايات المتحدة بالعيش على حساب باقي العالم، فان امتلاك لغة مركزية اساسية يؤمن لها ايضا ريعا ضخما للغاية.
ريع ايديولوجي في البداية كونها تدفع بالغالبية من "نخب" العالم أجمع، هذا الحزب الاميركي المتجاوز للحدود، للانصياع الى لغة الأسياد وما تعبر عنه من مفاهيم وما تنقله من رؤية للعالم [4]. وكما يلاحظ السيد كلود هاجيج، الاستاذ في "الكوليج دوفرانس" فان "ما تتمتع به النخب الصناعية والاقتصادية من حظوة تقود الطبقات الوسطى الى تقليدها والسعي الى تعلم الانكليزية من باب التفاخر" [5]. ليس مؤكدا أن "القيم الاخلاقية" التي بنى عليها جورج والكر بوش حملته الانتخابية وانتصاره ستكون عثرة في وجه المتعطشين الى "النموذج" الأميركي.
وريع البلدان الناطقة بالانكليزية اقتصادي ايضا اذ يقع على عاتق البلدان الاخرى تمويل التعلم والترجمة من الانكليزية واليها. وقد تحول تعليم هذه اللغة لجهة الوسائل وادوات التقييم والجهاز البشري صناعة حقيقية وبابا لا يستهان به من ابواب التصدير في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وعندما تنشر المفوضية الاوروبية بالانكليزية وحدها بعض البرامج واستدراجات العروض وتطلب الاجابة بالانكليزية نفسها من دون النظر الى التنظيم اللغوي ضمن الاتحاد، انما تشجع بدون وجه حق شركات البلدان الناطقة بالانكليزية ومؤسساتها وترغم الآخرين على تحمل نفقات الترجمة عند الاشتراك في المناقصات. هل في ذلك تجسيد لـ"المنافسة الحرة غير المزيّفة" التي يشير اليها باستمرار مشروع "الدستور" الاوروبي؟
تتكاتف هذه العوامل الايديولوجية والاقتصادية لتساهم في تعزيز الاحادية القطبية على المستوى اللغوي في القارة أجمع. ولو كان السعي نحو عالم متعدد القطب مشروعا جديا لبذل جهد من اجل نظام لغوي متعدد القطب هو ايضا. ويتضمن بالتالي عدم ترك امتياز المركزية للغة الانكليزية لا رمزيا ولا ماديا. والجواب ولو الجزئي يكون في أخذ مفهوم "العائلات اللغوية" في الاعتبار على مستوى تطوير التفاهم المتبادل في ما بينها بدءا بصورة خاصة بالمجموعة المتحدرة من اللغة اللاتينية. من ضمن هذا المنظور يمكن لهذه العائلة ان تصنف كلغة واحدة لجهة التعلم، وهذا ليس بالافتراض بل ان الطرائق متوافرة والمطلوب تطويرها فقط. يرتكز هذا التجمع علىمعطيات واضحة المعالم على المستوى الدولي اذ ان اللغات المتحدرة من اللاتينية تشكل اللغات الرسمية في 60 بلدا، 30 للفرنسية، 20 للاسبانية، 7 للبرتغالية، 2 للايطالية (ايطاليا وسويسرا) وواحدة للرومانية مع اضافة امارة اندور للغة الكاتالانية... فيما تعد الانكليزية لغة رسمية في 45 بلدا فقط والعربية في 25 بلدا.
من الناحية الديموغرافية تعطي التوقعات للعام 2025 ما مجموعه 1561 مليون صيني، 1048 مليونا في البلدان الناطقة بالانكليزية، 484 مليونا بالاسبانية و285 مليونا بالبرتغالية و506 بالفرنسية مع التحفظ حول ان سكان بلد مصنف فرنكوفونيا لا يتكلمون جميعهم الفرنسية تماما كما ان في نيجيريا الناطقة رسميا بالانكليزية وحدها اقلية صغيرة قادرة على التحدث بهذه اللغة [6]. من خلال هذه الارقام الحذرة يتبين أنه بالاضافة الى ايطاليا ورومانيا، فان الناطقين باللغات المشتقة من اللاتينية ("اللغات الرومانية") والقادرين على التفاهم في ما بينهم يمكن أن يمثلوا خلال عشرين عاما اكثر من 1،3 مليارات نسمة. ثلاث كتل متقاربة الحجم (الانكليزية والصينية و"الرومانية") وفي المستقبل المنظور العربية (448 مليون ناطقا بالعربية في حدود العام 2025) قادرة اذن على تجسيد مركزية لغوية ممتازة على المستوى العالمي. أن القدرة الاستباقية تدعونا الى عدم تجميد هذه المركزية خلف الانكليزية وحدها.
لو اتخذت الدول الناطقة باللغات المنبثقة عن اللاتينية قرارا مشتركا بتطوير انظمتها التربوية في اتجاه طرائق التعليم والتفاهم المتبادل، لكان يمكن لهذه اللغات أن تحتل معا موقعا مركزيا ممتازا مشاركا للانكليزية. أما المرشح الصيني، الثاني لاحتلال هذا الموقع، فهو يتقدم على هذا الطريق. يشير السيد جويل بل لاسن، المفتش العام في هذا المجال، الى "انه خلال 12 عاما سيكون هناك مئة مليون سائح صيني يجوبون العالم. وفي آسيا أصبحت الصينية لغة الاتصال بين الشعوب. عندما يتفاوض الكوريون مع اليابانيين يستخدمون اليوم الانكليزية والصينية، وفي كوريا باتت الصينية حاضرة واتخذت بعدا عمليا على غرار الانكليزية" [7]. من يعتقد في الواقع ان اكثر من مليار ونصف مليار صيني ولو عملوا في فروع لشركات متعددة الجنسبة سيتحاورون في ما بينهم بلغة " تواصل دولي" غير لغتهم؟
بما أن جميع التهويمات تركز على الانكليزية كلغة "تواصل دولي" فلنلق على واقعها نظرة. نعرف فقط دائرة استخدامها في الجماعات المهنية ذات التعابير المحددة امثال ملاحي السفن ولغة تواصلهم (Standard Marine (Communication Phrases المنبثقة من الانكليزية من قبل متكلمين للغات متنوعة، وطواقم الطائرات والمراقبين الجويين، والاختصاصات التي تتشارك فيها "معاهد خفية" من الباحثين في مختلف الاختصاصات، وقطاع الفنادق وبعض فروع الحقوق والمال الخ... بالطبع لبس المطلوب تدريس هذه اللغات في المدرسة الابتدائية لا سيما انه يمكن تعلمها لاحقا في اطار العمل. أي لغة اذن؟ القواعد ومفردات الحياة اليومية؟ المطلوب بالتالي تحديد "الرزمة" التعليمية وايجاد الطرائق المناسبة لها. ومن الواضح ان لا حاجة لتعليم "الرزمة" هذه من الصفوف الاولى وصولا الى نهاية المرحلة المدرسية إذ يكفي لاستيعابها اربع سنوات او خمس تحدد في مرحلة ما من الدراسة.
في الانتظار ومن ضمن البنى القائمة فان التحسب الواقعي للمستقبل يقضي في اوروبا بتعليم لغتين اجنبيتين في المرحلة الابتدائية وليس لغة واحدة. وهذا ما أقرته القمة الاوروبية في برشلونة في 15 و 16 آذار/مارس من العام 2002 من دون الاشارة الى الانكليزية كواحدة من هاتين اللغتين بالضرورة. لو اعتنقنا مبدأ التعددية اللغوية في اوروبا فان هناك اسبابا كثيرة تدفعنا على العكس الى تعليم جميع اللغات بما فيها المحلية والآسيوية والمجموعات اللغوية باستثناء الانكليزية تحديدا، فامكان اكتسابها كلغة ثالثة متوافر دائما ولو في دورات مكثفة ما ان تحدد "الرزمة" المطلوبة والمشار اليها آنفا.
لا يجوز تكرار القول ان الاوروبيين غير قادرين على التفاهم في ما بينهم الا بالانكليزية، ففي داخل الاتحاد الاوروبي هناك 174 مليون ناطق باللغات المتحدرة من اللاتينية مقابل أقل من 70 مليونا لغتهم الام هي الانكليزية. وكما يقول امبرتو ايكو: "ان التعدد اللغوي في اوروبا لا يعني وجود اشخاص يتكلمون لغات عدة بطلاقة بل في أفضل الاحوال وجود اشخاص يمكنهم التلاقي والتحدث كل في لغته وفهم لغة الآخر دون التمكن من استخدامها بطلاقة" [8]. ان اعطاء التلامذة الصغار قدرة الفهم المتبادل للغات "الرومانية" منذ البداية يمنحهم لذة اكتساب لغتين اوروبيتين أو ثلاث.
في هذا الاطار بلور المجلس الاوروبي ادوات ثمينة لا سيما ضمن الاطار الاوروبي المشترك للمرجعية اللغوية [9] الذي يقترح سلما من ستة مستويات ويقر بشرعية امتلاك المتعلم لمهارات متفاوتة في فهم اللغة او التعبير بواسطتها. يجب بالتالي استنتاج التطبيقات التربوية وهي ثورية كون المدرسين يعتبرون حاليا وعملا بالمناهج ان مهمتهم اكساب جميع المهارات دفعة واحدة وهذا الامر مستحيل خصوصا بالنسبة للانكليزية وهي لغة على درجة عالية من الصعوبة.
يمكن تخطي مقاومة اساتذة اللغات لهذه الاهداف المحدودة جزئيا بالتفاهم المتبادل لو ادخلنا هؤلاء المدرسين وبصفتهم مواطنين ضمن نقاش يتخذ ابعادا عالمية واوروبية ووطنية، نقاش في الجغرافيا السياسية وفي الثقافة. "خلاف كبير" في مطلع القرن من طراز "خلاف القدماء والمحدثين" في تاريخ الافكار الفرنسية وحيث الحداثة ليست بالضرورة في الموقع الذي يتوهمه الفرنسيون من انصار الولايات المتحدة (galloricains) [10].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Alain Minc, La Grande Illusion, Grasset, Paris, 1989.
[2] يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، منح السيد كلود تيلو جائزة العام 2004 من اكاديمية التملق للانكليزية والتي تعطى "للنخب الفرنسية الذين تميزوا بحماستهم لتعزيز السيطرة الانكلو ـ أميركية في فرنسا على حساب الفرنسية. أما الجائزة الخاصة الممنوحة للاجانب فقد منحت للسيد جان كلود تريشه، رئيس المصرف المركزي الاوروبي لانه صرح عند تسلمه مهام منصبه وبالانكليزية "انا لست فرنسيا" I am not a Frenchman ولانه عرض سياسة المصرف باللغة الانكليزية ايضا.
[3] في افتتاحية معنونة استثنائيا بالانكليزية ("أخيرا وليس آخرا") وافقت صحيفة لوموند (22/10/2004) بحماس على اقتراح لجنة تيرو وسخرت من معارضيه بالقول: "ها هو جيش المدافعين عن الفرانكوفونية ينتفض ومعه الكتائب النقابية الجاهزة للدفاع عن مصالحها الضيقة".
[4] “ Au service des langues romanes ”, “ Parler français ou la langue des maîtres ”, “ Le mur de l’anglais ” et “ La langue-dollar ”, respectivement dans Le Monde diplomatique de mars 1994, avril 1994, mai 1995 et mai 2000.
[5] مقابلة مع مجلة Enjeux عدد ايار/مايو 2002. تمكن الاستاذ كلود هاجيج من الوصول الى جمهور واسع من خلال مساهماته في نشر المعرفة العلمية الرصينة في مؤلفات نذكر منها: Le Français et les Siècles (1987), L’Enfant aux deux langues (1996) et Halte à la mort des langues (2000), tous publiés chez Odile Jacob (Paris).
[6] La Francophonie dans le monde 2002-2003, Organisation internationale de la francophonie, Conseil consultatif/ Larousse, Paris, 2003.
[7] صحيفة "ليبراسيون"، 13 /9/2004.
[8] Umberto Eco, La Recherche de la langue parfaite dans la culture européenne, Seuil, coll. “ Points ”, Paris, 1997
[9]
http://culture.coe.int/portfolio. “ L’enseignement des langues vivantes à l’étranger : enjeux et stratégies ”, Revue internationale d’éducation, Sèvres, n° 33, septembre 2003.
[10] تسمية اقترحها هنري غوبار في لوموند ديبلوماتيك في عدد كانون الاول/ديسمير من العام 1974.