اغتيال الاعلام العربي
2005/06/02
عبد الباري عطوان
تتجدد محنة الاعلام العربي وتتفاقم يوما بعد يوم، وما عملية الاغتيال البشعة والاجرامية التي استهدفت الزميل سمير قصير امام منزله في مدينة بيروت الا احد ابرز العناوين الرئيسية لها.
نحن نعيش مرحلة يتنامي فيها تحالف ارهابي بين قطبين يبدوان ظاهريا متناقضين، الانظمة القمعية العربية من جهة، وامبراطورية استعمارية امريكية من جهة اخري، والهدف هو تدجين الاعلام العربي، وتكميم افواه كتابه، وقبر صحوته الوليدة، واعادته الي عصر الظلام، اعلاما بائسا متخلفا يتستر علي الفساد، ويزين وجه الدكتاتورية البشع، ويروج للاصلاحات التجميلية الشكلية، والديمقراطية علي الطريقة الامريكية.
الانظمة العربية تحالفت في ما بينها لمحاربة الفضائيات، ومنع محاولات تحويلها الي برلمانات لمناقشة الاوضاع المتردية وقضايا الفساد، وانتهاك حقوق الانسان وافساح مجال للمعارضة الوطنية الشريفة لتعبر عن رأيها. فخرجت قناة ابو ظبي الفضائية من المعادلة، وتحولت قناة دبي الي ميادين الترفيه والغناء وهز الوسط، وتراجعت الجزيرة عن جرأتها المعهودة بطريقة تدريجية مقلقة، وتجلي ذلك بوضوح في تغطيتها للاستفتاء المهزلة في مصر.
الادارة الامريكية، وبعد ان اصبحت جارة لنا، تحكم بلدا عربيا، وتحشد مئة وخمسين الف جندي من قواتها في العراق، باتت تتصرف مثل الانظمة العربية المحيطة، تمارس الرقابة الصارمة علي الفضائيات، وتوزع خطوطها الحمراء وقوائم ممنوعاتها علي القائمين عليها. فالمقاومة تتحول الي ارهاب، والاحتلال العسكري هو قمة الديمقراطية، وقتلي القوات الامريكية شهداء الحرية ، وابرياء العراق الذين يذبحون بالقذائف والصواريخ بعشرات الآلاف لا قيمة لهم!
ممنوع علي الاعلام العربي ان ينقل مجازر الفلوجة والقائم والرمادي والنجف بأمر من الادارة الامريكية، زعيمة العالم الحر. مثلما هو محرم علي عدسات التلفزة الدخول الي المستشفيات لمقابلة ضحايا الديمقراطية الامريكية.
الاعلام المسموح به في هذا العهد الامريكي السعيد، هو الاعلام المعادي للعرب والمسلمين، الاعلام الذي يروج للطائفية في ابشع صورها، ويركع عند حذاء الجندي الامريكي المحتل.
قنوات الخلاعة وهز البطون تتناسل وتتناسخ بطريقة مرعبة، تروج لثقافة الفجور والانحلال، والرسائل الالكترونية البذيئة، والاجساد العارية. ومن المؤسف ان عوائد النفط تتحالف هي الاخري مع مفكري الرذيلة والاباحية لتكريس هذه الظاهرة وتوسيع دائرتها.
ملامح السيناريو المرعب والزاحف علينا واضحة تماما. تكميم الافواه، وتسطيح الثقافة والادب، ونشر قيم الفجور والانحلال، لانتاج اجيال عربية هجينة، ليس لها علاقة بالكرامة وعزة النفس، والتراث العربي والاسلامي العريق. ويتزامن كل هذا مع عمليات تغيير المناهج، وطمس آيات قرآنية تحث علي الجهاد ورفض الظلم، وتحويل الدعاة وائمة المساجد الي مهرجين او ببغاوات تردد ما يريده السفراء الامريكيون ومستشاروهم من العرب المتأمركين.
سمير قصير أحد ضحايا هذه الهجمة علي الاعلام العربي، اغتالته رصاصة مجرمة، لمنعه من الترويج للبنان الحر المستقل، ولارهاب الاعلام اللبناني، الذي بدأ يستعيد عافيته وتقاليده المهنية والليبرالية الاصيلة، كما انه، اي اغتياله، رسالة لنا كاعلاميين عرب تذكرنا بان مرحلة الاغتيالات لرجال الكلمة التي راجت في السبعينات والثمانينات واستهدفت غسان كنفاني ورياض طه وسليم اللوزي قد عادت اكثر قوة، بل لا نبالغ ولا نتجني اذا قلنا ان من اغتال سليم اللوزي ووضــــع يده في الاسيد هو الذي فجر الزميل قصير وللوصول الي الهدف نفسه، وهو ارهاب كل صاحب قلم حر.
نعم الزميل قصير هو أحد الضحايا، ولكن الضحية الاهم هي الاجيال العربية القادمة، الأجيال التي تتغذي فكريا علي قنوات سوبر ستار وثقافة ستار اكاديمي وترقص علي انغام روتانا ، وتتعرف علي انباء العالم وتطورات احداثه من نشرات اخبار محطات سوا !
نجوم زماننا الحاضر لم يعودوا الشعراء والمفكرين والسياسيين والدعاة، وانما نجوم ستار اكاديمي واغاني الفيديوكليب، ومسلسلات التخدير وبيع احلام التغريب بكل انواعها واشكالها.
الزميل سمير قصير سقط شهيد كلمة حرة، ودعوة مشروعة للكرامة والاستقلال والاصلاحات الحقيقية، فكافأه خفافيش الفساد والقمع بقنبلة موقوتة مزقته اشلاء.
نعترف اننا اقلية الاقلية، اقلية ما زالت تؤمن بالتغيير الديمقراطي الحقيقي، دون التخلي عن الثوابت القومية والاسلامية، تغيير يقود الي مواجهة الهيمنة الامريكية والعربدة الاسرائيلية، ويعيد الي هذه الامة كرامتها، والي هذه العقيدة سموها ورفعتها.
اقلية تستند الي الاكثرية الساحقة في امتنا وتستمد عزيمتها منها، اقلية تقاوم التسلط والزيف ونهب المال العام، وتوريث الفساد.. اقلية تحتج بشدة علي تمزيق ثياب الزميلات وهتك اعراضهن، وضرب الزملاء بالهراوات وتجريدهم من ملابسهم، مثلما حدث مع الزميل الشهيد الحي عبد الحليم قنديل رئيس تحرير صحيفة العربي الناصرية.
بدأوا بتمزيق الملابس، وانتقلوا الي التفجير، ولكنهم لن ينجحوا في وقف عجلة التغيير والاصلاح التي بدأت في الدوران. انها ضربات اليأس المهزوم، ضربات من يخشي المستقبل وحساباته ومحاكماته.
الزميل قصير كان كبيراً في شهادته، مثلما كان كبيرا في كلمته الحرة الشجاعة، وكلما كبرت الشهادة كبر اثرها وزاد مفعولها، ولهذا سنظل نذكره ونتذكره ونعتز به كانسان رفض الظلم والقهر، وانحاز الي الديمقراطية الحقة، والتغيير الجاد والمشرف الذي تتطلع اليه الملايين في هذه الامة.
قائمة شهداء الكلمة تطول، ولكن القاتل واحد، والهدف من القتل ايضا واحد، وان اختلفت الرصاصات، حجما وصناعة. مازن دعنا، طارق ايوب، واخيرا سمير قصير، انهم قافلة الشرف والتحدي في زمن تكاثر فيه المنافقون والمتآمرون علي الكلمة الحرة، والباحثين عن الحقيقة.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=20...لام%20العربيfff