عادت الحاجة الأمريكية لاستمرار الرئيس مبارك بحكم مصر
2005/06/10
بعد اتفاق بوش وبلير في قمة واشنطن علي ضرب سورية
محمد عبدالحكم دياب
زيارة توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، لواشنطن لم تكن مثل زياراته السابقة، بسبب ما أحاطها من تكهنات. ويبدو أن فيها من الأسرار ما هو أكبر بكثير مما أعلن علي الملأ، وقيل أمام رجال الإعلام والصحافة.
وتقول مصادر موثوقة ان عملية التمويه فيها كانت بارعة، حتي أن ذلك غطي علي هدف الزيارة الحقيقي، وهو الاتفاق علي ساعة الصفر لتوجيه ضربة موجعة لسورية، وترتب علي ذلك سريان قلق مكتوم، داخل كثير من الأوساط البريطانية، خاصة تلك المناهضة للحرب، والمطالبة، حاليا، برحيل قوات الغزو عن العراق. لم يكن هدف الرحلة إقناع الرئيس الأمريكي بمساهمة أكبر في المساعدات الإنسانية ، للدول الفقيرة، كما ذكرت أجهزة الإعلام والصحف ووكالات الأنباء، إنما كانت لإقرار خطة التدخل لتغيير الحكم الســـــوري بالقوة، وتقول مصادر معنية أن خطة التمويــــه وضعت لتفادي ما حدث من رد فعل غاضـــب ضد إعلان الحرب علي العراق. ولعدم الاستفزاز المبكر للرأي العام البريطاني، ومعه الرأي العام الأوربي، في ظروف بدت مواتية، نتيجة تطورات رفض الفرنسيين والهولنديين للدستور الأوروبي، وما ترتب عليه من تحول أنظار دول أوروبية كبري، خاصة ألمانيا وفرنسا، إلي الداخل، لمواجهة المعارضة المتنامية لسياساتها نحو أوروبا، ممــــا يجعل الصوت الأوربي حول قضايا المنطقة العربية وإقليم الشرق الأسط، أكثر خفوتا، ولن يكون بمستوي حدته إبان مرحلة الإعداد لغزو العراق وأثناءها وما بعدها.
وتستغل السياسة الأنكلو أمريكية، ومعها سياسات أوروبية أخري، ضيق الأفق الرسمي السوري وسلبياته في لبنان، لتعبئة الرأي العام لصالح خطة إسقاط وتغيير نظام الرئيس بشار الأسد. فما زال مستوي الانفراج الداخلي محدوداً للغاية، وهو شيء غير مفهوم، في ظروف دولة، في أمس الحاجة إلي رص صفوفها، وتقوية كل عوامل الوحدة في جبهتها الداخلية، فالمعركة القادمة تحتاج طاقة كل مواطن ودوره. بدلا من ذلك تقدم السياسة السورية الذرائع لأطراف، ليست في حاجة إليها أصلا، لتيسر عليها مهمتها فيما هي مقدمة عليه، ومعروف عنها طبيعتها العدوانية والعنصرية، وانحيازها الكامل للاحتلال والاستيطان في فلسطين، الجزء العزيز من الشام العربي الكبير. فالمخطط معد مستقر، ولم يكن ينتظر غير إقرار ساعة الصفر والجدول الزمني للتنفيذ، ومن المتوقع، حسب نفس المصادر، بدء العمليات العسكرية، مع مطلع الشتاء القادم، أو بدايات عام 2006، وهناك مؤشرات بأن عملية إدارة الصراع، مع سورية، أوكلت بالكامل إلي وزارة الحرب البريطانية، ورئيس الوزراء توني بلير.
وجاء هذا التحول في فكر الإدارة الأمريكية نتيجة للأوضاع الهادئة، نسبيا، في جنوب العراق، وهي المنطقة الخاضعة للاحتلال البريطاني، لأسباب عدة منها: التاريخ البريطاني الاستعماري السابق في المنطقة، وقرب قواتها من مراكز الامداد في الكويت، وقصر خطوط مواصلاتها، مقارنة بوضع القوات الأمريكية، ومنها التأثير الطائفي عليها، وقد كان لدور آية الله علي السيستاني أثر كبير في هذا الهدوء، بجانب أن الحكم، الذي اتخذ طابعا طائفيا وعرقيا، في ظل الاحتلال، عمق من الآمال المعلقة بالتقسيم، الذي تم للعراق ووجد تشجيعا من بعض القوي الإقليمية، ومن عدد من الجيران، ومنهم من يتصور أن العراق القوي الموحد أخطر عليه من الاحتلال، وعلينا الا نغفل فشل المخطط الأمريكي، في التعامل مع المقاومة العراقية. وتحوله من مخطط لاستنزاف المقاومة العراقية إلي استنزاف مضاد لقوات الاحتلال، ولقوات الشرطة والحرس الوطني العراقي، والمليشيات الكردية (البشمركة)، ولواء بدر، التابع للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية، وكلها قوات مشتركة ومتعاونة، موجهة ضد بغداد والمنطقة الوسطي، أو ما يطلق عليه المثلث السني .
ليس هذا فقط فالخطة الأمريكية باستخدام المستعرقين ، علي غرار المستعربين ، من فرق الجيش الصهيوني لاختراق منظمات المقاومة، هذه الخطة لم تحقق النجاح المطلوب، أما عملية استخدام الشرطة العراقية، وقوات الحرس الوطني، كحائط بشري، يمنع ويصد ويتلقي الضربات بدلا من قوات الاحتلال، باءت بالفشل، وعجزت عن وقف تصعيد المقاومة لعملياتها، التي أعقبت انتخابات يناير/ كانون الثاني الماضي، وهو تصعيد أثبت قوة المقاومة وقدرتها علي العمل والحركة، علي أوسع نطاق ومساحة ممكنة من العراق، وهذا أثر، معنويا. علي القوة الأمريكية الأسطورية، وأضعف من نسيج الروايات التي نسبت أعمال المقاومة للزرقاوي، الذي تحول إلي شخص خارق سوبر مان ، يحارب علي كل الجبهات وحده، ويتصدي لجحافل مقدرة بـ150 ألف جندي، من أقوي جنود العالم، وأكثرها عتادا وعدة، وهذا السحر، الذي انقلب علي الساحر، كان الغرض منه تصوير عمليات المقاومة بأنها عمل فردي إرهابي إنتحاري يائس، وأنها منبوذة من شعبها، وإذا لم تكن المقاومة تتحرك، في بيئة داعمة وصديقة، ما كان لها أن تكون بهذا الحجم والتأثير، ولهذا أصبحت الفتنة الطائفية والعرقية، بين الشيعة والسنة، وبين الأكراد والعرب والتركمان، ضرورية لإشعال فتيل الحرب الأهلية، لإنقاذ الاحتلال، والتخفيف من مأزق قوات الغزو.
التحرك البريطاني، علي أكثر من محور، جاء ضمن مخطط التمويه والخداع، بإحداث سحابة من الدخان الكثيف علي تفاصيل الخطة، كي تبدو السياسة البريطانية وكأنها مشغولة بعيدا، ومهمومة، فقط، بالتحرك علي محور ما اصطلح علي تسميته بـ تحريك عملية السلام ، بين الفلسطينيين والصهاينة، والتي ترتب عليها زيارة جاك سترو للقدس المحتلة ورام الله، مع أن مجرد التحرك علي هذه المحور، ورفع سقف التطلعات، الذي لا يتحقق منها شيء، من جديد، يؤكد ولا ينفي ما توصلنا إليه. ومحور آخر هدفه تحسين الوجه القبيح لتوني بلير، كرجل حرب، وتغطية هذا الوجه بقناع الساعي لعمل الخير، المهموم بالفقر وضحاياه، وتعمد أن يظهر في زيارته الأخيرة لواشنطن، وكأنها ليست للاتفاق علي مقاولة حرب جديدة. وضمن هذا التمويه لعب غوردون براون، وزير الخزانة، دوره بالاتصال بمجموعة الدول الكبري الثمان، التي تعقد مؤتمرها في اسكتلندا، في تموز (يوليو) القادم، طارحا عليها مشروعه لإلغاء مديونات 22 دولة من الدول الفقيرة، الذي من المتوقع أن تبحثه الدبلوماسية البريطانية النشطة، قبل شغلها لمقعد رئاسة الاتحاد الأوروبي، الشهر القادم.
وهذا النشاط المكثف يركز، زيفا، علي المظهر الإنساني للسياسة البريطانية، وكأن حكم العمال الجدد ، الموازي لليبراليين الجدد، واليمين المسيحي الصهيوني، في البيت الأبيض يدير جمعية خيرية، ومؤسسة للبر. وكأنه ليس من دعاة عودة الإمبريالية، التي وجدت من يتبناها في مركز الدراسات الخارجية ، بلندن المؤسس حديثا (1998)، وهو مركز صك مصطلح الإمبريالية التطوعية ، أي التي يطلبها أهل البلاد أنفسهم من الدول الاستعمارية، ووصفت من قبل معلقين بـ العبودية المستنيرة ، وقد تتاح الفرصة لإلقاء الضوء، مع مزيد من التفاصيل حولها، لأهميتها في التعرف علي ما يجري لنا ولغيرنا. أيديولوجية بلير من النوع الجهنمي، معادية بشدة للتطلعات الإنسانية المشروعة، وهي لا تقل خطورة عن مثيلتها، علي الضفة الأخري للأطلسي. من يتبناها محام ضليع ومرموق.. بارع في الدفاع عن استعلائه واحتقاره للبشر. يساعده فريق من الكفاءات العالية، وعلي رأس مؤسسة فيها من النعومة السامة الكثير.
لكن ما علاقة هذا باستمرار مبارك وعائلته في اغتصاب حكم مصر؟
هذه التطورات جاءت بعد أسابيع قليلة من زيارة أحمد نظيف لواشنطن، وهو يحمل عروضا مكنته من المساومة، لكسب تأييد أمريكي للتمديد والتوريث، وفي العرض تعهد من الرئيس حسني مبارك للقيام بدور نشيط في خدمة ما يطلب منه أمريكيا. فهو مجرب، في حرب الخليج الثانية، وفي تعريب التطبيع، وفي حصار العراق، وفي الضغط علي الرئيس الراحل ياسر عرفات وإحكام الحصار حول الفلسطينيين، وفي توفير المعلومات العسكرية والأمنية، وتقديم التسهيلات العملياتية (اللوجستية)، لإنجاح الحملة علي العراق، وفي تصفية البنية الأساسية للمقاومة، في فلسطين، وفي تأييد نزع سلاح حزب الله، وفي تأمين حدود الدولة الصهيونية مع مصر، وفي غض الطرف عما يجري في إقليم دارفور، وتمكين الإدارة الأمريكية من استصدار قرارات دولية تعطيها حق التدخل فيه، وفي رفضه لسحب القوات المحتلة من العراق، وفي إضفاء شرعية علي الاحتلال بمؤتمرات شرم الشيخ. وكل هذا يزكيه عندما يتعهد بتوفير الغطاء، العربي والإسلامي، المطلوب لعقاب سورية. وجاءت التأييد المبدئي في شكل تصريحات، صدرت، الأسابيع الأخيرة، عن البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والسيدة لورا بوش، التي غني لها المصريون أغنية علي وزن أغنية فريد الأطرش: نورا نورا يانورا، يا وردة زاهية في بنورة ، غنوا لها لورا لورا يا لورا، يا وردة حمرة في بنورة سخرية وتهكما.
إذن دور الرئيس حسني مبارك، مطلوب في المجهود السياسي والعسكري الموجه لسورية، وقد استقر الأمر بتخفيف الضغط عنه، خصوصا أن الوقت غير ملائم أمريكيا، في مصر. فالإدارة الأمريكية وهي تتابع حجم الرفض الجماهيري، وتتقصي موقف قواه من مشروع الإصلاح الأمريكي ، فلا تجد أنصارا بالحجم المتوقع. وبدلا من إعمال قاعدة سائدة في الغرب تقول: من لا تقدر علي هزيمته التحق به ، أعملت مع مبارك وعائلته قاعدة أخري معروفة، أيضا، في الغرب، هي شيطان تعرفه خير من شيطان لا تعرفه . لأن الإدارة الأمريكية، ما زالت، غير قادرة علي تقديم البديل المقبول من الرأي العام المصري، فتراجعت عن مخططها لإزاحة مبارك وفضلت توظيفه واستعماله علي التخلص منه.
قد ينتهز الرئيس حسني مبارك الفرصة لتوجيه ضربات موجعة لرؤوس حركة كفاية وغيرها من حركات الرفض الجماهيرية، وحتي لو اختار هذا الطريق فلن يغير من الأمر شيئا، فالرئيس المستبد والحكم الفردي، غير الملتزم بقانون، والمنتهك لحرمات وحقوق الشعب، والذي يحكم بالطوارئ طوال سني حكمه، ويمارس التعذيب بلا رحمة، ويكدس الثروات بلا حساب، فمثل هذا الرئيس يموت، سياسيا، عندما يتحول كل هذا إلي عبء، بعد أن كان مصدرا للبطش والقوة الغاشمة. وسواء حصل الرئيس حسني مبارك علي التأييد الأمريكي أو لم ينله، فقد مات، سياسيا، وانتهي في اللحظة التي رفع فيها الشعب يده عنه، ومن لا يجد التأييد من شعبه، فليست هناك قوة، مهما كانت، قادرة علي ضمان استمراره أو توفير الحماية له...