فيلم "أخي عرفات": لرشيد مشهراوي والوفاء للسيرة الإنسانية







د. سامي مسلم

بداية، أود أن أشكر رشيد مشهراوي، وزملاءه الكرام، في طاقم الانتاج والتصوير والمونتاج، على الفيلم "أخي عرفات" لسببين: الاول، لتلك اللمسة الانسانية الحنونة التي استطاع رشيد، أن يعبر بها من أول الفيلم حتى نهايته إلى قلوب وعقول المشاهدين. وكانت هذه اللمسة لايت موتيف leitmotif وخلفية للحركية في هذا الفيلم. والثاني، أنه رافق الحاضر الغائب، الشهيد الحيّ فينا، ياسر عرفات، على لسان شقيقه المرحوم الدكتور فتحي عرفات. فقام بعمل جليل تكريماً ومحبة ووفاء لهما.
الفيلم بعنوان "أخي عرفات"، عرض ليلة السبت2/7/ 2005 في مسرح القصبة، بحضور وزير الثقافة، الأخ يحيى يخلف. وقد كان الحضور مأخوذين بالفيلم حتى ان الجميع بقوا جالسين بعد انتهاء الفيلم لدقائق وكأنهم ينتظرون المزيد منه، من هذه اللمسة الحنونة الانسانية، او كأنما يتوقعون ان تحدث المعجزة في بلد المعجزات، ويخرج الرجلان احياءً من الشاشة البيضاء ليتحدثا اليهم. ربما. ولكن الدمع الذي كان في مآقي جميع الحضور كان البرهان على التماهي مع فداحة الخسارة وافتقاد الرجلين.
"أخي عرفات" فيلم يتحدث عن ثلاث حصارات متداخلة مع بعضها. الحصار الاول، هو حصار الرئيس ياسر عرفات، في المقاطعة في رام الله من قبل اسرائيل، سلطة الاحتلال، ثم المرض وعودة الرئيس الشهيد محمولاً تقل جثمانه الطاهر طائرة مروحية، تحط في مهبط المقاطعة بين مئات الالوف من المشيعين المصدومين الملهوفين من ابناء وبنات الشعب الفلسطيني. والحصار الثاني هو حصار المرض. حصار مرض السرطان للدكتور فتحي عرفات ومعاناته معه وصراعه ضده وتغلب المرض عليه. اما الحصار الثالث، فهو حصار الإبعاد او المنع من العودة الذي فرضته سلطات الاحتلال الاسرائيلي على رشيد مشهراوي، مدة ثلاث سنوات، إلى ان عاد مؤخراً إلى ارض الوطن.
"أخي عرفات" هو فيلم تسجيلي أخرجه رشيد مشهراوي كعربون محبة للدكتور فتحي عرفات، الذي رافقهُ في السنة والنصف الاخيرة من حياته وهو يعاني من مرض السرطان ويتصارع معه عسى ان يغلبه. صراع امتد على مساحة ثلاث قارات: افريقيا واسيا واوروبا؛ في القاهرة حيث كان د. عرفات يسكن ويعمل، وفي باريس حيث كان يتعالج، وفي غزة ورام الله حيث كان يعمل ايضاً. العلاقة الانسانية وأواصر الصداقة والتعاون، والرعاية والاهتمام نمت وترعرعت بين د. فتحي ورشيد، عبر رحلة المعاناة المرضية هذه. فجاء الفيلم تسجيلياً لأدق التفاصيل في حياة د. فتحي، حتى لو كانت هذه تتعلق بالحياة اليومية مثل صنع فنجان قهوة، او طبيخ او غسيل صحون، او مسح وتمسيد ارجل د. فتحي، او الاكل او التنقل بالتاكسي من هذا المكان إلى ذاك، او العلاج بالمستشفى او تناول الطعام مع الرئيس الخالد المرحوم ياسر عرفات.
لا يوجد حتى الان فيلم تسجيلي يكرم هذا الفلسطيني المعطاء، د. فتحي عرفات، سوى هذا الفيلم التسجيلي "أخي عرفات"، الذي اراده رشيد ان يكون حديثاً مع الاخ الصغير عن الاخ الكبير ياسر عرفات. إلا انه جاء، فيلماً تكريمياً يحيي ويخلّد ذكرى هذا القائد الفلسطيني الانساني، الذي عمل مناضلاً في صفوف "فتح"، وفي صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، دون أن يضطر لحمل السلاح يوماً سوى حمل سلاح الطب ونبل رسالته الانسانية. د. فتحي عرفات، مؤسس الهلال الاحمر الفلسطيني وراعيه. وهو الذي وقع العام 1969 على بروتوكولات او ما يسمى باتفاقية جنيف الرابعة. وهو الذي ساهم مع غيره باعطاء الثورة الفلسطينية ذلك البعد الانساني والطبي والاجتماعي والتراثي، على مستوى العالم. د. فتحي عرفات، بصفته رئيساً للهلال الاحمر الفلسطيني رعى حياة الفلسطينيين، ثواراً ومناضلين، شعباً لاجئاً او مقيماً اينما كان في الوطن أو في المنافي. فبنى أكثر من 50 مستشفى وعيادة طبية للهلال الاحمر الفلسطيني، في الاردن ولبنان وسورية ومصر والعراق وفي كل اماكن التجمع الفلسطيني. من خلال العلاقات الدولية التي كان يتقنها باحتراف ومتعة وفن، وعبر المتطوعين والمناضلين الامميين في الهلال الاحمر الفلسطيني، أمثال د. بولين كتنغ ود. سوي تشاي انغ ود. كريس جيانو، وبن الوفس، وديرك، ولييف، وسوزي وايتون، ومئات غيرهم، أوصل د. فتحي عرفات، صوت الفلسطينيين المقموعين الذين يتعرضون إلى المجازر في مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة إلى كل الآذان في أربع زوايا الارض. وقدمت تجمع مستشفيات الهلال الاحمر الفلسطيني، عكا وحيفا والقدس التي كانت قائمة في بيروت، ومستشفى محمود الهمشري في صيدا، الخدمات الطبية الفلسطينية مجاناً، لكل المحتاجين، فلسطينيين ولبنانيين ومواطنين آخرين في لبنان كانوا يعيشون على هامش المخيمات الفلسطينية المسحوقة اصلاً. هذا الرجل استحق عن جدارة رجلاً شهماً مثل رشيد، ليسجل له مآثرهُ في آخر أيام حياته.
هناك قضايا إنسانية أخرى تبرز في شخصية هذا المناضل الفلسطيني الذي خسرناه. اتهامات كثيرة، واشاعات اكثر، وجهت للدكتور فتحي عرفات، ان كانت صراحة او همساً، بسوء التصرف والفساد. وكانت هذه الاتهامات، برأيي، جزءاً من الحملة على الرئيس ياسر عرفات لتشويهه عبر تشويه شقيقه المقرب إليه رئيس الهلال الاحمر الفلسطيني. لكن رشيد، يثبت عكس ذلك في لقطتين مهمتين سريعتين للمشاهد. اللقطة الاولى، حديث هاتفي، بين المرحوم الرئيس ياسر عرفات، وشقيقه المرحوم د. فتحي عرفات، الذي كان يتعالج في فرنسا، ويسكن في شقة رشيد. نحن نعرف فحوى الحوار مما نشاهده على الشاشة ونسمعه من فم د. فتحي عرفات. يبدو ان الرئيس عرفات، رحمه الله، كان يصر، من الطرف الاخر من الهاتف، على ان ينتقل د. فتحي عرفات إلى فندق فيه سبل راحة اكثر من شقة رشيد. فكان اصرار د. فتحي، بالرفض وأصر انه مرتاح عند رشيد، ولا يريد تغيير المكان. واللقطة الاخرى حدثت في مطار باريس ود. فتحي ورشيد عائدان إلى القاهرة. تذكرة السفر بيد المضيفة، تتحدث مع د. فتحي وتسأله هل هي درجة أولى ويأتي رد د. فتحي، لا درجة سياحية. هل يمكن مقارنة ذلك مع كل من سافر منا ليس بدرجة رجال الاعمال فحسب وإنما بالدرجة الأولى. وهذا الرجل القائد، الانسان، لكن المريض، يعود في رحلة العودة الاخيرة إلى مصر من العلاج في باريس يعود على درجة سياحية، رغم حاجته للراحة خلال الطيران.
لقد تغلب د. فتحي عرفات، على مرض السرطان معنوياً. فهذا المرض لم يهد كيانه أو ينتقص من روحه المعنوية أو من إصراره على العمل والبناء. كان د. فتحي عرفات يحب الحياة. نراه في هذا الفيلم يطرب للحن العود والأغنية الجميلة، يصفق ويرقص وهو جالس، وابتسامة عريضة على محياه تعبر عن البهجة والسرور في لحظة سعادة يقتنصها بين جلسة وأخرى من جلسات العلاج بالكيماوي.
من فم الدكتور عرفات تبرز لنا بعض الصفات القيادية للرئيس الخالد شيخ الشهداء المرحوم ياسر عرفات. قصة صغيرة للاطفال. الاخ الاكبر ياسر يأكل اللحم، والاخ الاصغر، فتحي، يحب الخضراوات. الفتى ياسر عرفات يريد ان يقنع الطفل فتحي بأكل اللحوم. فسأله الاخير لماذا؟ فاجاب المرحوم الرئيس الخالد، الاسد يأكل اللحوم، وهو ملك الغابة. اما الخضراوات فهي للخراف. وفتحي لا يريد ان يكون خروفاً وإنما اسداً. هذا ان دل على شيء يدل على الموقع القيادي الذي كان يبادر إليه الرئيس الخالد كنمط حياة ومنهج سلوكي متولّد عنده، تغذيه الطموحات الكبيرة لفتى في بداية حياته يريد تحرير فلسطين، ويريد تنظيم الفلسطينيين في اطر سياسية او نقابية او عسكرية، لتحقيق ذلك الهدف العظيم. لذلك كان دائماً يسمو إلى ما هو قيادي وفي مقدمة الصفوف. تذكرني هذه الحادثة التي ذكرها د. فتحي في الفيلم بتلك النادرة التي يذكرها الشهيد القائد ابو أياد في كتابه "فلسطيني بلا هوية" ايضاً عن الرئيس ياسر عرفات. كان الاثنان في رابطة طلاب فلسطين وكانا يحضران لمسرحية عن صلاح الدين. وكان من نصيب أبو إياد، ان يمثل دور صلاح الدين. إلا ان أبوعمار، رفض ذلك وأصر على أخذ دور صلاح الدين. وعلّق الشهيد القائد أبو إياد، على ذلك في كتابه ان الرئيس ياسر عرفات لم يكن يتصور ان يكون غيره محرراً لفلسطين.
حكايات شبابية، لكنها كانت ذات دلالات رمزية مهمة في حياة الرئيس الخالد وفي حياة شعبه.
لقد قدم الدكتور فتحي عرفات، في هذا الفيلم مرافعة حميمة وصادقة ومعبرة عن دور الرئيس الخالد ياسر عرفات في صنع عملية السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة اسرائيل وبين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، واستشهد بحكايات ومواقف كثيرة ليدلل على ذلك. لكن اكثر مشهد مؤثر كان ذلك المشهد الاخير، الدكتور فتحي عرفات، يحتضر، او على الاقل شاحب شحوب الموت، صوته بالكاد يسمع، ويتحدث عن دور الرئيس عرفات في عملية السلام. رجل يحتضر ولم يتبق له من العمر إلا ساعات او ربما ايام، ولا يزال يتحدث عن السلام واهمية اقامته للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني. ألا يستحق هذا الرجل جائزة أهم من جائزة نوبل للسلام؟ جائزة محبة ووفاء من شعبه ومن السلطة الوطنية الفلسطينية!! ألا يوجد مكان او شارع او مؤسسة أو مستشفى في فلسطين، ليحمل اسمه او يخلد ذكراه. هذا سؤال مطروح على السلطة وعلى الهلال الاحمر الفلسطيني وعلى وزارة الصحة الفلسطينية وعلى الاتحاد العام للأطباء الفلسطينيين وعلى اصدقاء د. فتحي عرفات.
صحيح ان الفيلم يحمل عنوان "أخي عرفات"، أي انه يريد ان يسجل صوراً واحداثاً من حياة الرئيس ياسر عرفات عن طريق الرواية التي ينقلها لنا عنه د. فتحي عرفات. هذا الفيلم افصح الشيء الكثير عن حياة وشخصية د. فتحي عرفات اكثر مما افصح عن حياة وشخصية الرئيس ياسر عرفات. ورشيد، يطمح ان يعمل فيلماً خاصاً بالرئيس ياسر عرفات. ونتمنى له التوفيق والنجاح لان ذلك من حق الشعب الفلسطيني عليه وواجب سينمائي وفني وثقافي عليه ان ينجزه.
لقد حمل الفيلم ايضاً جانباً شخصياً و جماعياً، من حياة الفلسطيني المعذب عبر معاناة رشيد للعودة إلى ارض الوطن او الخروج من ارض الوطن عبر معبر رفح. هناك المأساة الانسانية تتجسد بشكلها المجرد، تبدو كملهاة مبكية او كتراجيديا عبثية مضحكة. تظهر واضحة للعيان في جملة يفكر فيها الراوي بصوت مسموع: يمكن للفلسطيني ان يتجول حراً في كل انحاء العالم باستثناء العودة او السفر من وإلى وطنه وبين طرفي وطنه. يمكنه ان يسافر إلى اميركا او الصين او أية بقعة في العالم من غزة او الضفة دون مصاعب كبيرة. لكنه يرى المأساة بعينها والآلام الموجعة اذا ما فكر في ان ينتقل من قطاع غزة إلى الضفة أو من الضفة إلى قطاع غزة. آلام المعبر صورها رشيد بمهارة عبر مأساة آلاف الناس المرميين على حدود رفح لا بل على اسياج رفح لأيام، لا بل لاسابيع، ينتظرون الموافقة الاسرائيلية للسماح لهم بالعودة. كأنهم كتل لا بشر، لا من لحم ولا من دم. هكذا يريدهم الاسرائيلي المحتل. اناس هائمون، يفترشون الارض ويتغطون بالسماء، سارحون في الهموم وفي التفكير، كل منهم ينتظر لحظة الخلاص بالسماح له أو لها بعبور المعبر. لقد أجاد رشيد، كما أجاد من قبله زياد عبد الفتاح، في روايته "المعبر"، في التعبير عن هذه المأساة الانسانية، زياد، من وجهة نظر روائية، ورشيد، من وجهة نظر سينمائية تسجيلية، نقل فيها معاناته الشخصية بالانتظار بعد طول منع. حصار الهوية السياسية، حصار المرض، وحصار الهوية الشخصية، ثلاثية لا تكاد تنتهي في التاريخ الفردي والجمعي للشعب الفلسطيني حتى تبدأ من جديد. انها مأساة متصلة ومستدامة، لا شبيه لها في التراجيديا الاغريقية او الشكسبيرية.


http://www.al-ayyam.com/znews/site/templat...5&Date=7/5/2005