في زمن الممنوع
قـبل اسبوع دعتني احدى صديقاتي لقضاء بعض الوقت على شاطئ جديد مخصص للنساء في مارينا العلمين. ورغم انني لا اجيد السباحة في البحر، استهوتني الفكرة ودفعني الفضول الصحافي لقبول الدعوة. فقد تعودت منذ طفولتي على ان امضي عطلة الصيف على شواطئ الابيض المتوسط، مع والديّ واخوتي الى ان تزوجت ثم استمر حبي للبحر بعد الزواج، فاستمرت علاقتي الحميمة بشواطئ الاسكندرية وامتدادها شمالا. وعلى مدى تلك السنوات الطوال، لم يخصص للنساء شاطئ في مصر، الا في وقتنا الحالي. اتذكر ابي وامي يخرجان الي الشاطئ في الصباح المبكر، حيث تتمتع امي بالسباحة برفقته ثم يسبقها هو الى الشاطئ، حيث ينتظرها وهي خارجة من وسط الامواج، والبرنس في يده، لكي تحتمي به فور خروجها من الماء، لا تزعجها عين فضولية ولا ترهقها لومة لائم. خمسون عاما مرت على تلك الذكريات، وها هو شاطئ الاسكندرية الشمالي يشيد الاسوار المصنوعة من جريد النخل ويفسح مجالا لصف سيارات الراغبات في الدخول الى شاطئ النساء ويوظف حارسات امن على بوابة الشاطئ لمنع الرجال من الدخول.
قبلت الدعوة ولم تكن عندي النية للسباحة، بل للاكتشاف. عند البوابة اطلعت الحارسة علي كارنيه الدعوة ثم سمحت لنا بالدخول. وحين خطوت اولى خطواتي على رمال الشاطئ كانت بانتظاري اكثر من مفاجأة. كان الزحام غير عادي. تجاورت مظلات البحر الى درجة التكدس واصطفت مقاعد الشاطئ التقليدية المصنوعة من القطن السميك الملون بألوان الشمس، المقعد بجوار المقعد حتى انني ظننت لأول وهلة انني في معسكر تدريب عسكري. ولكن صيحات الصغار صححت انطباعي فورا.
على تلك البقعة الصغيرة نسبيا اجتمعت خمسة اجيال من الاناث، من الجدات والحموات الي امهات في منتصف العمر وزوجات حديثات العهد بالامومة والزواج، ثم فئة المراهقات والطفلات اللواتي تتراوح اعمارهن بين العاشرة ومرحلة الحبو وارتداء البامبرز.
كانت الضوضاء تصم الاذان، وكأن سربا من الاوز استشعر خطرا داهما فاطلق صرخات الاستغاثة. على منصة مرتفعة في جانب الشاطئ كانت معلمة الايروبكس تؤم جيشا من صاحبات الهمة والامل في سلسلة من التمرينات الايقاعية الراقصة على موسيقى تزأر من مكبرات الصوت في اربعة اركان. ارتفعت الاذرع في الهواء ودقت الاقدام على الخشب وتصبب العرق من الجباه واحمرت الوجوه وخرجت عفاريت الطاقة المحبوسة من قماقمها.
ويبدو ان الايروبكس لم يمتص فائض الطاقة كاملا. فقد تبعت وصلة الايروبكس وصلة رقص شرقي ابدعت فيها اجيال الحاضرات، فشر فيفي عبده ودينا ومن سبقهما في مضمار هز يا وز.
حين مالت الشمس نحو المغيب خلعت السابحات والراقصات البكيني والكاش مايوه واحكمت كل منهن الخمار فوق الرأس واستقلت سيارتها وعادت من حيث اتت.
حاولت ان اصنف ذلك الحدث او ان اصفه وصفا منطقيا فلم استطع. ومر اسبوع وكنت اشاهد حفلة غنائية يحييها فنان العرب محمد عبده، الذي يطربني صوته ويدهشني اداؤه. فجأة انتقلت الكاميرا من محمد عبده الي جمهوره. كان الجمهورالغفير كله من الرجال: جمهور يتمايل طربا ويصفق تشجيعا ويبتسم ويهتف، وبدون تدبير لعبت الذاكرة دورها وارتدت الي شاطئ النساء. أدركت ان الشاطئ الحريمي ثورة. [SIZE=6]
انه ثورة النساء على الممنوع. في كل المجالات يحتكر الرجل كل امتياز في الثقافة والفكر والسياسة وفي الترفيه والمتعة والسرور والنساء مستثنيات. الان اصبح للمرأة شاطئ كتبت علي بوابته: ممنوع دخول الرجال.
فهي اذن ثورة حقيقية في زمن الممنوع.
http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?se...0274&issue=9771