اقتباس:* كنتم من اول رجال الدين العراقيين الذين دعوا علنا لاقامة دولة علمانمية في البلاد بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع صدام سين.. لماذا هذه الدعوة؟
- العلمانية في تصوري هي الية لادارة شؤون الدولة والبلد وتعتمد على استخدام قوانين وضعية ليس لقصور في القوانين الالهية والشرعية لكن ان نعطي صفة القداسة التي هي ملازمة حقيقية للدين الى الدولة فهذه مشكلة اولا.. وثانيا انه طوال التاريخ العربي الاسلامي كانت الدولة هي المهيمنة على الدين ولم يكن الدين في يوم من الايام هو المهيمن على الدولة فكانت الدولة تستخدم الدين كما تستخدم الجيش والمال والادب والشعر لبسط نفوذها وترويض وتركيع الناس فكان سيف الفتوى وسيف الشعر وسيف المال وسيف الحديد كله بيد الحاكم بامر الله – منذ زمن معاوية بن ابي سيان الى زمن صدام حسين – كل هذه السلطات استخدمت سلطة الدين القوية لان كل تلك الادوات التي ذكرناها هي مجموعة سلطات وضعت بيد الدولة وهي تستثمرها لصالحها.. فلصيانة الدين ومن اجل المحافظة على قدسيته ارى انه يجب فصل الدين عن الدولة وان نضع برزخا حائلا بين الدين وبين الدولة لكي لاتستخدم الدولة هذا الدين الذي يجب ان يبقى في يد المرجعيات الدينية ولها كامل الحرية في ترويج الدين وشعائره وتعاليمه في البيت والمجتمع .. وعبارة العلمانية التي اقصدها هو تقليم اظافر الدولة.. لانها يجب ان لا تكون دولة شمولية.
1- إذ كانت العلمانية ، في أصلها اللغوي ، وفي أحد معانيها ، لا تعني شيئا سوى إبعاد " رجال الدين " . فهذا الرجل ، يدعوا بكل " عصرنة " لإبعاد نفسه .
2- غالبية دعاة الليبرالية والعلمانية ، المنتمين للتيار الديني ، والذين يكررون دائما انتمائهم للهوية الإسلامية والعربية ؛ يبررون مطالبتهم بالعلمانية عن طريق إعادة تعريف هذه الأخيرة . فالعلمانية التي تثبت بنفي ، أو على الأقل : إبعاد ، الدين ؛ تتحول - وبقدرة قادر : إلى " آلية لإدارة شؤون الدولة ....إلخ " .
هي ، إذن، دعوة لفظية فقط ، تردد العبارات ، التي تتلحف معان جديدة . العلمانية لم تكن يوما من الأيام : " آلية لإدارة شؤون الدولة وتعتمد على استخدام قوانين وضعية " ، إنما هي نفي ، أو إبعاد ، للدين عن إدارة الدولة ، وفتح الباب لكل الخيارات الأخرى . فإدارة هتلر وموسوليني وماو تسي يونغ ولينين وبوش وغيرهم لدلوهم وإن اختلفت آلياتها وطرقها ونظمها ... توصف كلها بأنها علمانية .
فكيف لرجل دين أن يطالب بإبعاد نفسه ؟
3- الإخلاد لهيمنة المفاهيم الغربية ، يوقعنا جميعا في أزمة فهم . ففي النص السابق نجد توظيفا لعدة ألفاظ كـ " دين " و " رجال دين " و " دولة " و " قوانين وضعية " ...إلخ . وهي ألفاظ تشير في الغرب لمعان وأشياء لا توجد لدينا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية .
ف" رجال الدين " طبقة لم تعرفها الحضارة الإسلامية أبدا . فمنذ البداية قد قرر القرآن في معرض نقده لأهل الكتاب وهم أصحاب التجربة السماوية السابقة على العرب : " اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " . فهذا النص الذي يعتبر الأساس لمنع وجود مثل تلك الطبقة المجتمع الإسلامي .
ورجل الدين ، هو شخص تتجمع فيه ثلاثة صفات :
1- أن يكون نائبا عن الله في أرضه ، وينال بهذه النيابة قداسة وعصمة .
2- أن يكون وسيطا بين العباد والله .
3- أن يمتهن الدين ، بحيث يكون الدين هو مصدر رزقه .
وكل هذه الصفات الثلاثة ، توجه لها القرآن ، والإسلام عموما بالنقد والنفي والإبعاد . فالآية التي ذكرنا قبل قليل تمنع اتخاذ الاشخاص اربابا ، والإسلام - باعتباره دين توحيد - يلغي كل الوسائط بين الله وعباده " ادعوني استجب لكم " وبهذا تنتقض الصفة الثانية ، والثالثة نجد نقدا غير مباشر كقوله " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " .
هذا من الناحية النظرية والإيمانية ، فالأسلام بريء من كل ممارسة كهنوتية ، ابتداء . ومن ناحية تاريخية نجد أن رجال الدين ظهروا بالفعل ، ولكن ليس بجميع الصفات التي ذكرناها . ولن نتكلم عن الفرق التي بادت واندثرت ، بل سنتحدث عن اكبر فرقتين اسلاميتين هما : السنة والشيعة .
ففي السنة ، نجد في السعودية وباقي الدول منصب : المفتي العام ، وهيئة الإفتاء ، او المستشار الديني . وهؤلاء أفراد يجنون المال جراء تقديم فتاوى للناس والدولة أو المؤسسة . لا نقول أن فتاويهم باطلة ، أو متزلفة - رغم وجود مثل هذا كفتوى بن باز في حرب الخليج الثانية ، والسلام مع اسرائيل التي تحوي خضوعا للرغبة السياسية للدولة ، وفتاوى بعض شيوخ البنوك أو الهيئات الشرعية للبنوك في إباحة معاملاتهم . ولكن هؤلاء الشيوخ لا يدعون في أنفسهم العصمة ، أو انهم نواب عن الله ، أو يتوسطون بين العباد والله . وفي الفريق السني الكبير المتمثل بالمتصوفة ، نجد أن بعض الاولياء يحملون شيئا من الكرامة بحيث لو دعا لأحد أو دعي عند قبر أحدهم .. لاقت قبولا أكثر عند الله ، ونجد مبايعة بين الشيخ ومريده بأن لا يتلقى العلم إلا منه ، وان يخضع له خضوعا تاما ، حتى يتعلم الطريقة ويتدرج في مدارج السالكين ، حتى يصل للفناء ، وهي الغاية .
ولدى الشيعة ، نجد حضورا مكثفا لصفتين : جني المال ، وادعاء العصمة . فللشيعة مرجعيات ، حووا جميع شرائط الاجتهاد . للشيعي حرية الاختيار في اتباع اي من هذه المرجعيات . فيصبح مقيد فقهيا بكل فتاوى هذه المرجعية ، وملزما بدفع الخمس من ماله له ، امتدادا لعمل الأئمة . فيصبح المرجعية هنا رجل تأتيه الأموال من مقلديه ، ويتعهد هو بتصريف هذه الأموال لخدمة الإسلام عموما . وهو - حسب هذا الوضع - يصبح أقرب للقدسية والعصمة من غيره .
وحتى لا يفهم كلامي هذا بطائفية ، أقرر : أن وصفي السابق مقتضب ، ويتكلم بعمومية مطلقة .
ومن هذا العرض ، أنه لا يوجد في الإسلام أبدا طبقة ، كطبقة الكهنوت التي وجدت في الحضارة الاوروبية . فالمماثلة ، وخلع نفس التعبير يؤدي لالتباس ، وقلب للمفاهيم وإسقاط لها في غير مواضعها .
وفيما يتعلق بكلمة " دين " ، فرجل الدين " العصراني " يقول " أن القداسة صفة ملازمة له " . وهذا فهم أوروباوي للدين وتعاليمه . فالبابا الفاتيكاني - قديما - عندما يقرر أمرا ، فهذا الأمر يعتبر مقدسا ، نظرا لكون هذا البابا معصوم .
بينما فتوى الفقيه والمجتهد والمرجعية ، لا تخرج عن كونها " آراء فقهية " قابلة للتداول والأخذ والرد .. ولا تخلع عليها القدسية أبدا . وهذا موضع اتفاق بين كافة الفرق ، السني منها والشيعي . فصفة القداسة - التي يتحدث عنها العصراني- هي ليست صفة للدين بقدر ما هي صفة لذات الله وأفعاله وكلامه . أما الدين لا ينال من هذه القدسية إلا ما يكون له علاقة بالله .
قد أعود فيما بعد لأكمل