ليس هناك ما هو أبشع وجهاً من لعبة (الاغتيالات) في ساحة السياسة الدولية! بعضها أشعلت حروباً، وبعضها أضاعت أجيالاً بأكملها، وكلها تركت بصماتها المخربة المدمرة، على تاريخ المسيرة البشرية نحو حياةٍ أرغد وأسعد لبني الإنسان.
في حكايتنا اليوم نقف أمام واحدة من أخطر الألعاب الدموية القذرة، لعبة لم تُسبَر أغوارها وأسرارها الخفية رغم مئات الكتب والتقارير والتحقيقات التي تمحورت حولها.. لعبة تهيأت كل أسبابها وأُعدّ لها الميدان، وتوافر لها اللاعبون ثم انتهت إلى غايتها في(20/8/1940).. الضحية كان ليون تروتسكي الشريك الأصيل في الثورة السوفييتية.. الشريك الذي ظل ستالين يخشى بأسه حتى طرده من روسيا كلها، مع أن الشائع أن تروتسكي هو صاحب القرار في الهروب من وطنه، وأن ستالين لم يطلب منه مغادرة البلاد، وتروتسكي نفسه يؤكد ذلك فيقول: "هذا صحيح.. قررت ذلك لأنني كنت أعلم أن بقائي مع معارضتي سياسة ستالين معناها (الاغتيال)، لهذا فررت بأسرتي إلى المكسيك، وجعلت مكان إقامتي أشبه بالقلعة الحربية تحسباً لاقتحامها من القتلة المأجورين". وحين جاء تروتسكي إلى القرية المكسيكية الصغيرة (كايوكان)، اشترى البيت الذي يقيم فيه، كما اشترى كل الحقول التي تحيط به، حتى يتمكن حراسه من مراقبة كافة التحرّكات حول البيت، ورغم هذه التحصينات، فقد جرت عدة محاولات لاقتحام البيت، وقُتل عددٌ من الحراس، ودخلوا إلى غرفة نوم تروتسكي وأطلقوا وابلاً من الرصاص، لكنه وزوجته وحفيدته، فور استشعارهم أصوات الضجيج في فناء الدار، اختفوا في غرفة سرية أعدها تروتسكي لمثل هذه المناسبات السيئة، مما دفعه بعد ذلك إلى مضاعفة حرّاسه المدججين بالأسلحة ترافقهم الكلاب البوليسية المدرّبة، ووضعت على حدود المزرعة أسلاكٌ شائكة وبواباتٌ من الصلب الحديدي تتحرّك كهربائياً، وقد كتب تروتسكي مبرراً كل تلك الاحتياطات الاحترازية:
"إن ستالين لا ينام أبداً عن ثأره، ولذلك وجدت نفسي مضطراً لاتخاذ كافة التدابير لحماية نفسي وأسرتي، وقد وضعت شروطاً قاسية لكل من يدخل إلى بيتي، وكان ذلك سبباً في حرمان زوجتي الحبيبة ناتاليا من مواصلة نشاطها الاجتماعي، كما ضُربت العزلة على حفيدتي الصغيرة، وثقتي لم أكن أمنحها لأحد سوى سكرتيرتي الخاصة الآنسة سيلفيا". .. وسيلفيا هذه فرنسية، ولكنها تجيد الروسية، وهي الصديقة الوحيدة لزوجة تروتسكي منذ أن كانت في الحادية عشرة من عمرها، إذ تعرفت عليها في إحدى زياراتها إلى باريس قبل الثورة الروسية، ولما غدا تروتسكي ثاني رجلٍ في روسيا بعد لينين، جاءت لزيارة موسكو، وتمّ الاتفاق على اختيارها سكرتيرة له على اعتبار أنها تجيد أكثر من لغة، وكانت هي الوحيدة المسموح لها بالخروج من البيت والسفر إلى باريس في إجازات تقضيها مع خطيبها جاكسون ماركادير، فهي تعيش أحلى أيام العمر معه لأنه شغف بحبها لدرجة أنها كتبت عنه في دفترها الخاص:
"لو طلب روحي لوهبتهـا له عن طيب خاطر، إنه أرق، وألطف، وأجمل شاب في الدنيا كلها". وهذا الشاب الذي تتحدّث عنه سيلفيا بلجيكي، ولكنه يحمل جواز سفر كندياً، وكل أوراقه تؤكد أنه يدير مكتباً للاستيراد والتصدير في باريس، وكان في أواسط العشرينات من عمره، بينما سيلفيا قد تجاوزها قطار الزواج بعد أن تعدّت الخامسة والثلاثين من عمرها، وهي لا تتمتع بأية جاذبية أو جمال! ونتيجةً للثقة العمياء التي يوليها تروتسكي وزوجته لسيلفيا، فقد سمح لها بأن تصطحب خطيبها لزيارتهم، حيث التقى تروتسكي أكثر من مرة..
؟ بعد اغتيال تروتسكي سُلِّط الضوء على حياة الفتى الجميل، الذكي، الجذاب، جاكسون ماركادير، فتبيّن أنه قد وضع خطةً مدروسةً بهدف غواية سيلفيا، مستغلاً مهارته في الإيقاع بالنساء في حبائله، فكانت له فريسةً سهلة، ورغم احتياطات تروتسكي، كان اقتحام جاكسون لبيته سهلاً وهيناً، بعد أن ظهر له ولزوجته شدة شغف السكرتيرة بخطيبها، وحديثها المستمر عن أمانته ونزاهته، وثقتها العمياء بأخلاقه وسلوكه، وطُرحت عدة أسئلة حول جاكسون ماركادير:
هل أرسله ستالين؟!
هل استأجرته منظمة أخرى؟!
هل اسمه الحقيقي جاكسون ماركادير؟! أم أنه اسمٌ مختلق؟!
هل هو مدير مكتب استيراد وتصدير حقاً؟!
ظلت الإجابة عن هذه التساؤلات لغزاً محيّراً إلى أن كُشف النقاب عن حقيقته بعد اغتيال تروتسكي!
عادت سيـلفيا من باريـس مصطحبةً خطيبها، فقـابلته ناتاليا (زوجة تروتسكي) بترحابٍ شديد، ولكنها سألته:
- أواه يا جاكسون العزيز.. لِم تحمل معطفاً على ذراعك بينما الحرّ شديد كما تعلم في منطقتنا؟!
فيجيبها بحذقٍ وذكاء، بإجابةٍ لا علاقة لها بموضوع سؤالها، حيث بادرها بالقول: - ولماذا أنت اليوم تبدين كالزهرة اليانعة وعطرك فوّاح؟!
فتصيح ناتاليا التي تجاوزت الستين من عمرها لزوجها:
- اسمع يا ليو ماذا يقول عني جاكسون، وكُفّ عن إطعام العصافير، وتعال شاركنا هذا الغزل الراقي!
وما أن حضر تروتسكي.. حتى ذهبت ناتاليا إلى المطبخ لتشرف على إعداد وجبة الطعام، فقال جاكسون لـتروتسكي:
- ليتني كنت عصفوراً أتناول طعامي من يد أكبر مفكرٍ وفيلسوف سياسي في عصرنا هذا..
فأجابه:
- إنك تبالغ يا جاكسون!
لكن جاكسون أقسم لـتروتسكي بأنه ليس مبالغاً فيما قال، وإنه قد كتب مقالاً ردّ فيه على نقدٍ وجّهته إحدى الصحف المكسيكية لـتروتسكي، وسوف ينشره في الجريدة نفسها، وطلب من تروتسكي أن يلقي نظرة عليه قبل أن يبعث به إلى الجريدة..
فقال له تروتسكي:
- نعم.. لقد قرأت ذلك الهجوم الموجّه لي، وليس في نيتي أن أردّ على الكاتب، يبدو أنه ستاليني النزعة، ولكن لا بأس من أن ألقي نظرة على مقالك، فلنذهب إلى المكتب حتى ننعم بشيءٍ من الهدوء والتركيز في قراءة ردّك.
ها هي اللحظة الحاسمة قد جاءت، ولم يكن جاكسون يتمنى فرصةً أفضل من هذه.. فأخذ تروتسكي مقعده خلف مكتبه، وبدأ يقرأ، بينما وقف جاكسون خلفه، وفي لحظةٍ خاطفةٍ أخرج الفأس من تحت معطفه وهوى بها على الرأس العاري لرجلٍ تجاوز الستين من عمره!
وصلت صرخات تروتسكي لحراسه، فسارعوا بإلقاء القبض على جاكسون الذي ظن أنه قد فشل في القضاء على ضحيته، فصاح:
- كيف لم يمت؟! كيف أخطأته؟! لقد هويت بالفأس على وسط الجمجمة! ثم بكى في هيستيرية مواصلاً صراخه:
- إنهم في روسيا قد وضعوا أمي في السجن، ورأس تروتسكي هو ثمن حريتها، فإذا لم يكن قد مات، فسأُعاقب أنا هنا، وتموت أمي هناك! ثم انتحب، وأتاه من بعيد صوت تروتسكي:
-لماذا أردت أن تقتلني؟!
فاستفَزّ جاكسون وهو في قبضة الحرّاس وصاح:
- إنه يتكلّم، فالضربة لم تكن قاتلة إذن..؟!
* في المستشفى مكث تروتسكي ثلاث ساعات، ثم فارق الحياة، فقد انغرس سنّ الفأس في الجمجمة بمسافة 7 سنتيمترات، مما أصابه بالشلل بسبب تهتّك كتلة المخ.
* ولمـــــا أعلنت الصحف ووكالات الأنباء خبر مصرع تروتسكي كان ســــتالين يرفـــــع كـــأس الفودكا بصحة أعضاء اللجنة المركزية لحزبه الذين رفعــــوا هم بدورهــم كـــؤوسهم تحيةً لزعيمهم الذي بلغ عدد ضحاياه مـــلايين البشــــــر.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphWriter/...5/11/107903.htm