حلف التوريث يقوده العادلي بمساندة رجال الدين الإسلامي والمسيحي
2006/04/01
محمد عبدالحكم دياب
من مفارقات وتناقضات الحالة السياسية المصرية، في القمة، أنها تتعامل مع المصريين علي أنهم بلهاء، وهذا عكس الحقيقة تماما. فالمصريون شعب لماح، لا تنطلي عليه الألاعيب ولا عمليات التمويه المكشوفة التي تقوم بها عائلة مبارك لنفي التوريث ، وإن ابتلي بصنف من الفاسدين والمنافقين، قل وجودهم بين شعب آخر. والمصريون، بكل فئاتهم ومكوناتهم، يضحكون كثيرا أثناء متابعتهم للظهور المكثف لـ الرئيس الموازي ، وطرق فرضه المبتذلة علي الرأي العام، بطريقة الإعلان الملح للسلع والبضائع البائرة، حتي يستسلم المستهلك لها، دون سؤال عن مستوي الجودة أو الغش فيها، ويعلم المصريون أن ما يطلقون عليه حركات جمال مبارك ليست لوجه الله، أو من أجل مصلحة الناس، إنما من أجل فرضه فرضا عليهم، وهم لا يطيقونه ولا يتمنون العيش حتي يروه رئيسا. ومع أنهم يرون ويتابعون النشاط المكثف كدليل علي التوريث وليس العكس، نسيت العائلة أن الناس تعلم أن التوريث تم وانتهي أمره، والمشكلة هي في اللحظة التي تتصورها العائلة مناسبة لإعلانه رسميا. وبدأ إحساس البعض بالعجز أمام إصرارها علي فرض إرادتها بكل السبل ينعكس علي تصرفات بعض مصريي الخارج. وقد اتصل بي الأسبوع الماضي أحد قراء القدس العربي يقسم بأنه سيتوقف عن زيارة مصر، ويتنازل عن جنسيته المصرية إذا ما تم التوريث، فهدأت من روعه، قائلا إن البلد مهما تجبر الطغاة وتمكن المستبدون، وتحكم اللصوص، ليست ملكا لأحد، وقد يخيب ظن المتكالبين والمتآمرين علي هذا البلد الطيب.
نقل حسني مبارك الملفات الهامة إلي إبنه، وهي علي وجه التحديد ثلاثة ملفات، تتعلق بقانون السلطة القضائية، وحبس الصحافيين، وقانون الطوارئ، علي أساس أن حسمها عن طريقه تعطيه رصيدا يستطيع أن يتخاطب به مع هذه الفئات، وتيسر التوريث ، وترد الاعتبار للجنة السياسات، إذا أمكن، بعد فشلها في إدارة الانتخابات، وبعد التصدع الذي أصابها وانتقل إلي الحزب الحاكم.. ونظرا للثقة التي ضعفت في الاعتماد علي اللجنة والحزب، رأت الوالدة، سوزان مبارك، أن عليها أن تحتاط، وتقيم حلفا قادرا، من وجهة نظرها، علي فرض التوريث . علي أن يلعب رجال الدين فيه الدور الرئيسي. وتشكل الحلف فعلا من الأزهر ووزارة الأوقاف والكنيسة المرقسية، وجمعية المستقبل ، التابعة لجمال مبارك. وتضم خريجين من الجامعات المصرية. ويتولي مسؤولية تحريكه وإدارته وزير الداخلية، حبيب العادلي، الذي ارتبط شرط بقائه بتمرير التوريث ، وينشط جهاز مباحث أمن الدولة علي أكثر من صعيد لاستكمال المرحلة الأخيرة من المخطط. أما فيما يخص توظيف الأزهر والكنيسة فقد بدأ الإفصاح عن ذلك بشكل صريح ومباشر، منذ أكثر من ستة أسابيع، وتحديدا في الثاني عشر من شباط (فبراير) الماضي.. حينها نشرت صحيفة روز اليوسف ، لسان حال الرئيس الموازي ، تقريرا كتبه عماد طه لمواجهة الإخوان المسلمين، وفيه اقترح الاستعانة برجال الدين الإسلامي قائلا: في مصر علماء وفقهاء ومفكرون تستطيع أنت (يقصد جمال مبارك) القيام بهم ومعهم في وجه هؤلاء وأنا أعلم أن منهم من يفر من الإخوان وغيرهم فرار الفأر من الأسد، وليس في ذلك ما يخجل (!!)، فالشيخ سيد طنطاوي، شيخ الجامع الأزهر ليس في حاجة إلي من يحرضه علي اقتراف مثل هذا الفعل، وهو ويقترفه مع طلعة كل شمس، ونفس الأمر لا يختلف في وزارة الأوقاف، في حشد خطباء المساجد، لهذه المهمة غير المقدسة!!.
والكنيسة استقرت، منذ أن تحولت إلي دولة داخل الدولة، بدعوي إرضاء أقباط المهجر، وتعهد البابا شنودة الثالث بالتخفيف من ضغطهم علي عائلة مبارك واستغلال البابا لحاجتها إلي تأييد مرشحيها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فطلب في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي بتوفير حصة للأقباط في المجالس النيابية، وبقدر ما كان هذا المطلب صادما للرأي العام، ونشرنا هذا في حينه علي هذه الصفحة، بقدر ما فاجأتنا معلومات غير معلنة عن صفقة تم بمقتضاها الإقرار بهذه الحصة، إلا أن تنفيذها أصبح مرهونا بتتويج جمال مبارك رئيسا رسميا للبلاد.
ولا بد هنا أن نشير إلي القلق الذي انتاب العائلة من جراء مناهضة الإدارة الأمريكية لمخطط التوريث قد قل. بعد أن استعان حسني مبارك بشارون للاتصال بالرئيس الأمريكي موضحا له خطر اكتساح الإخوان المسلمين للانتخابات، وما ترتب علي ذلك من تدخل سافر لأجهزة الأمن والدولة لتزوير الانتخابات، وفيها وصل الأمر للاعتداء علي القضاة الذين قاوموا هذا التدخل. منذ ذلك الوقت أخذت الإدارة الصهيونية علي عاتقها إقناع الغرب بأن نار التوريث ولا جنة الإسلاميين، ولكي لا يتكرر ما حدث مع حماس في فلسطين، ويصل الإسلاميون المصريون وحلفاؤهم إلي الحكم!!، والقلق الحقيقي مصدره غموض موقف القوات المسلحة، مما وضع قوات الأمن المركزي ومليشيات العائلة والحزب، مع مليشيات رجال الأعمال، وقوات الحرس الجمهوري تحت إمرة جمال مبارك، تحسبا لأي مفاجآت.
أما جبهة العمل مع الرأي العام تركت لشركات العلاقات العامة، التي زاد الاعتماد عليها لفقدان الثقة في الحزب الحاكم، وبسبب ظاهرة التمرد التي لاحت داخله. والتصدع الجاري فيه، والذي وصفه البعض بأنه انتفاضة اندلعت في أعقاب تقديم أسامة الغزالي حرب، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية ، والعضو البارز في لجنة السياسات لاستقالته، في وقت استقال فيه ثلاثة أمناء محافظات و16 عضوا بارزا من الأمانة العامة للحزب، بجانب توقعات باستقالات أخري من داخل لجنة السياسات، وفي المراكز العليا للحزب.. المهم أن شركات العلاقات العامة تتولي إبراز صفات ليست في الوريث ، وتحاول باستماتة تغيير صورته متجاهلة خبرة الشعب، ومتحدية لذاكرته، ومتنكرة لذكائه، وكأن هناك من يصدقها.. ومن بين صور الاستخفاف بالعقول وقوع الاختيار علي حي، كان في الأصل قرية قديمة، صارت حيا راقيا من أحياء الجيزة، هي قرية العجوزة، وقعت العين عليها واستهوت بقاياها المتهالكة الوريث ، لموقعها القريب من النيل وقلب القاهرة التجاري، وارتفاع قيمة أراضيها.. استبدلت المنازل الريفية الستة والثلاثون الباقية بشقق في عمارتين بنيتا في نفس الحي، باسم جمعية المستقبل التي يقال انها مملوكة لاسرة مبارك، لتتمكن هذه الجمعية من وضع اليد علي أرض قرية العجوزة عالية الثمن لبناء أبراج فخمة عليها.
ومن يتابع النشاط المالي والتجاري والعقاري لـ عائلة مبارك ، سوف يكتشف أن إزاحة فقراء العجوزة من منازلهم الريفية يأتي ضمن مخطط كامل. بدأ تنفيذه في القاهرة وضواحيها من عدة سنوات.. فالأحياء والقري الفقيرة الواقعة علي نيل القاهرة والجيزة، تم الاستيلاء عليها، جزءا جزءا، وبدلا من رفع مستوي معيشة سكانها الفقراء، يتم التخلص منهم والاستيلاء علي ما تبقي لهم من ممتلكات. والمخطط وصل مراحله النهائية، ويشهد علي ذلك برجان عملاقان علي النيل في منطقة رملة بولاق الشعبية، معروفان لدي العامة ببرجي علاء وجمال. وتتصور شركات العلاقات العامة أن نزول جمال مبارك إلي منطقة العجوزة دلالة علي التواضع والشعبية، بينما كانت زيارته أقرب إلي مهمة المرابي الذي يعاين أرض فريسته لينتزعها منه، إخراج متهافت لا يقل سوءا عن مسرحية رجل الأمن، الذي مثل دور فلاح، جلس معه حسني لتناول الشاي، علي ترعة في ريف محافظة المنيا، أثناء المعركة الانتخابية، وبعد تمثيل الدور عاد الرجل إلي منزله وأزيل الكوخ الذي أقيم لهذه التمثيلية الرخيصة.
هذا الافتعال لا يقنع أحدا.. فالناس تسأل من الذي بدد ثروتهم وخرب بيوتهم؟ ومن هو الذي باع وطنهم وبلدهم؟ وحكم علي شعبها بالموت؟ ومن نشر بينهم الأمراض الفتاكة والخبيثة؟، افتعال لم تمارسه أكثر النظم فاشية وتخلفا، وبدلا من أن يبحثوا عن بقايا قرية وسط أحد أحياء الجيزة الراقية، كان الأولي بهم أن يتوقفوا عن عمليات التدمير المنظمة للحياة الريفية والحضرية في كافة أنحاء مصر. والكراهية التي حصدوها من جراء ذلك لا تمحوها كل شركات العلاقات العامة في العالم.. العائلة تمارس نفس اللعبة لأنها أفلست ولأنها عصية علي التعلم، وتتصور أن مجرد قول جمال مبارك بأنه لا ينوي ولا يرغب في منصب الرئيس، يكفي، ويكون مدعاة للتصديق. لم يسعفها ذكاؤها للتعرف علي رأي الناس فيها. بعد أن احتل الإبن منصب الرئيس فعليا، وأن الصلاحيات كاملة انتقلت إليه، وما يقوم به حسني مبارك هو نوع من التمويه، لتمرير المرحلة الأخيرة من المخطط، وفيه يبدو، وهو المريض للغاية، منشغلا بالعمل الخارجي وبزيارات دول أوروبية وعربية.. زياراته لأوروبا غطاء للمرور علي الأطباء، ومتابعة حالته المتدهورة، وزيارته لدول الخليج استجداء لبعض المال لإنعاش السوق المصري حتي تمر مشكلة التوريث .. واختارت العائلة أن تتعامل معه تعامل المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي مع بريجنيف، طوال سنوات مرضه.. كانت تحقنه بالأدوية والعقاقير والمنشطات، لمقابلة الزوار أو السفر في رحلات يبدو فيها أنه القابض علي زمام الأمور. الناس غير غافلة عن أن النجل هو المسؤول الأول الذي يتعامل معه جهاز الدولة وكافة الأجهزة الأخري، بغطاء سياسي وتنفيذي وأمني، وفرته الوالدة، بما لها من صلاحيات، غير دستورية، مكنتها من التحكم في كل شيء!!
وتبدو هذه الظروف وهذا الجو وراء ما كشف عنه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، في حواره مع أسرة تحرير الدستور بمناسبة دعوته لهم احتفالا بمرور عام علي صدورها الجديد، ونشر في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، قائلا: التوريث لابد أن يحدث العام الجاري لأن الظروف حاليا مع تنامي قوي المعارضة جعلت التوريث يجب أن يتم في وجود الرئيس، لأنه إذا فاتت فرصة حضوره وقوته انتهي الموضوع ، والشيء الذي لم يقله هيكل هو احتمالات التدهور المتوقع في صحة حسني مبارك، خلال الشهور القليلة القادمة والتي قد تؤدي إلي عجزه الكامل عن أداء وظيفته أو غيابه!