النبَاش...
النبَاش..
أصيب نور الدين بإنقراص في الفقرات القطنية, فأضطر للتوقف عن أعمال العتاله التي مار سها طويلا لم يجرب نور الدين أي عمل آخر في حياته,ترك المدرسة قبل أن يحصل على الشهادة الإبتدائية و باشر فورا أعمال العتاله ,كان نور الدين يعمل ضمن مجموعة مؤلفة من ستة او سبع عتالين آخرين يفرغون السيارات الكبيرة أو يحملونها غالبا لا يعرف نور الدين ماذا يحمل و ماذا يفرغ و لم يكن مهتما بذلك ,لأنه يعرف أنه سيقبض يوميته في آخر النهار,لم تكن يومية نور الدين كبيرة و لكنها كانت كافيه ليعيش و يدخر شيئا منها, أعطى نور الدين جميع مدخراته لزوج أخته الصغرى راغده مقابل فائدة شهرية ,فرحت زوجة نور الدين لأنها ستحصل أخيرا على راتب ثابت, و هي التي كانت تزن على أذنه ليجد وظيفه حكوميه, زوج راغده الواطي أختفى بعد أن جمع مدخرات عائلة زوجته راغدة, و كان قد أوهم الجميع بأنه سيفتح معمل صوبيات, سقطت على رأس نور الدين صخرتين بذات الوقت خسارته لكل ما أدخره و إصابته بإنقراص في فقراته القطنيه.
أشترى نور الدين آله تصوير فورية ووقف أمام باب أمانة السجل المدني يصور بها من نسي إحضار صور شخصيه, في نفس اليوم الذي بدأ فيه العمل جره حرس المبنى الى الداخل و صادروا آلة التصوير و طردوه بعيدا, عرف نور الدين فيما بعد أن جميع المصورين أمام باب أمانة السجل المدني يعملون لصالح الحرس و لا يسمحون لأحد بالعمل.أشترى نور الدين عربة و عدة قلي الفلافل كان الأمر جيدا في اول يومين و لكن في اليوم الثالث هجم عليه شرطة التموين و صادروا العربة و الحمص و أكلوا ماعنده من الفلافل ثم حرروا له مخالفة بيع مواد غذائية ملوثه في الأماكن العامة بدون ترخيص,و حكم عليه عرفيا بالسجن لمدة ثلاثين يوما.
في السجن تعرف نور الدين على زعيم القاووش سليمان الشهير بأبو عكر المحكوم لمدة خمسة عشرة سنه قضى منها تسعه, أدين ابو عكر بتهمة القتل قصدا لأنه أنهال على زوجته و عشيقها بمنضدة معدنية فهشم جماجمهم , الفحص الموقع على جثث المغدورين بين أن القذف لم يحصل و أن هناك شك بأن أيلاجا قد حصل, رفعت عائلة الزوجه دعوة على أبو عكر و كسبتها فأدين و حكم عليه بخمسة عشر عاما. ,رغم وجود أبو عكر لمدة تسع سنوات متواصلة في السجن فأنه يعرف الكثير مما يدور في الخارج,تفاعل مع مشكلة نور الدين و غضب بشدة عندما عرف بقصة النصاب الذي أستولى على راغدة و على كل أموال عائلتها بما فيهم نور الدين نفسة, و شتم بصوت عال البلدية و التموين و لم يوفر الداخلية ثم خفض صوته قليلا و شتم الحكومة بكامل هيئتها,و نصح نور الدين أن يعمل نباش في حاويات الزبالة بعد منتصف الليل .
لم تدخل مهنة النباش في رأس نور الدين و لكن خيارا آخر لم يكن لديه فباشر عملة في الليلة التي خرج فيها من السجن,وضع على رأسه كوفية تخفي معظم معالم وجهه و أنطلق في جولة إستكاشفية لحاويات الزبالة التي تقع في منتصف المدينة,بعد منتصف الليل تكون الحاويات مترعة بما أستهلكه الناس خلال النهار بقايا طعام قشور فواكة و خضار زجاج مكسور أقمشة ممزقة أثاث عتيق و تماثيل محطمة أوراق ممزقه و أشياء كثيره قد لا تخطر على البال و لكن نور الدين يبحث عن أشياء صالحة يمكن أن يبيعها,لم يخب أمله سرعان ما وجد بعض الثياب متسخة قليلا و لكن يمكن لزوجته أن تغسلها و تعود صالحة يستطيع بيعها أو أستمالها,وجد حقيبة جلدية ما زالت محتفظة بزهوتها, ثم وجد لعبة أطفال مع بطارياتها ضغط زر التشغيل فأنطلق ترقص و تغني :
باب فين.....قلو مين...قلو عمر..عمو مين..
بنفس طريقة نانسي عجرم مسح بعض الطين العالق على شعرها , أعاد تشغيلها من جديد و تأكد من صلاحيتها ثم وضعها جانبا,كانت حصيلة لا بأس بها في اليوم الأول,ضم حمله الثمين و عاد الى بيته.
لم يعتقد نور الدين أن بعض الناس تمل مقتنياتها بهذه السرعة , و كان مخطأ في أنهم لا يلقون باشيائهم الجديدة,هو مثلا مازال يحتفظ بطقم عرسه و خزانة الملابس و اشياء آخرى كثيره ,أصيب بالدهشه بعد أن وجد أشياء لا تخطر على البال أبدا , أشياء ثمينه و قديمة و بعضها أثري نفيس, وجد على رأس كومة طازجة من الزبالة نسخة تعود الى ثلاث مائة عام من كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي,ووجد في قلب كومه من قشور البطيخ الأحمر نسخة أصلية من كتاب "طبائع الإستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي و كانت من مقتنيات محمد كرد علي , ووجد في قعر حاوية تجللها مستعمرات الذباب مذكرات مكتوبه بخط اليد تعود للسيد مظهر عبد الواحد أحد المشاركين بثورة العشرين, و حظي في إحدى جولاته المسائية بلوحة أصلية موقعة بأسم فاتح المدرس,و و جد ثلاث ليرات رشادية من الذهب الأحمر تعود الى عهد السلطان رشاد محمد بن عبد الحميد,و عثر على وسام الجمهورية من رتبه فارس بدون شرائطه الملونه,وجد كذلك على أحدى النواصي مجموعة كراسي في حالة جيدة جدا,و الكثير من لعب الأطفال و السلاسل الذهبيه و الكتب المتنوعه و جميعها صالحه للإستعمال و بعضها جديد. لم يكن نور الدين على دراية كافيه بقيمة تلك الأشياء لأنه ترك المدرسة قبل أن ينال الشهادة الإبتدائية و لكنه يعرف القراءة و الكتابه و يعرض كل ما يعتقد أنه ثمين على أحد جيرانه,لم يكن نور الدين مهتما بالقيمة التاريخة و العلمية لما بعثر و كا أهتمامه منصب على بيعه بأكبر سعر ممكن , أصبح عنده زبائن من المثقفين و الفنانين و الصاغة, أقتنى نور عربة صغيرة ليضع فيها حصيلة يومه و كتب على مقدمتها "ما شاء الله" و علق خرزة زرقاء أتقاءا للحسد و ضيق العين, و بعد أن توسعت أعمالة استأجر مخزنا صغيرا متطرفا يكدس فيه كل ما يعثرعليه, يصلح ما يمكن إصلاحه و ينظف ما يحتاج للتنظيف.
كانت أعمال نور الدين التنقيبية تزداد إزدهارا ويوما بعد الآخر يكتشف "منجما"جديدا,خافت زوجته من العين و طلبت منه أن يذبح خاروفا إتقاءا للحسد,أعترض في البداية و قال لها أنه علق خرزة زرقاء و كلمة ما شاء الله على عربته و لكنها رفضت بإباء فأنصاع لرأيها فذبح خاروفا و زعه على الفقراء و المحتاجين و طبع بكفه على العربة بعد أن غمسها بدم الخاروف المسفوح,ثم كتب على جانب العربة اليميني إمعانا في طرد الحاسدين "يا ناظري نظرة حسد اشكيك لواحد",و مع تصاعد أسهمه كتب على الجانب اليساري "عين الحسود فيها عود",يبدو أن العبارات التي كتبها نور الدين على عربته لم تستطع أن تمنع بعض العيون الساهرة و المتربصه ,فقد كان منغمسا في نبش حاوية مليئة حتى الجمام عندما أحس بيد ثقيلة تهبط على كتفه و صوت أجش يصيح به:
- شو عم تساوي هون..
رمى نور الدين كل شيء من يده و ألتفت بريبة و خوف نحو الصوت الأجش, كان ثمة رجل قصير ضئيل لا تكاد تتبينه من فرط صغر حجمة,تغلب نور الدين على ضحكة كادت تفلت منه على منظر الرجل الذي تقطر منه تعابير الحزم و الجديه و شكلة الكاريكاتوري الذي يذكر بكراكوز,عاد الرجل الصغير ليزأر بصوته الأجش الذي لا يناسب حجمة:
- عم قلك شو عم تساوي هون...و شو في معك...
تظاهر نور الدين بالخوف ورد من بين أسنانه:
- ما في شي..كبيت بالزباله ورقة مهمة بالغلط و عم دور عليها...
أنتقلت نظرة الرجل الصغير الى العربة اقترب منها و قرأ عباراتها المستهجنة للحسد و صاح محافظا على أعلى قدر من الحزم :
- و هاي لمين..
تلكأ نور الدين قليلا و أستجمع نفسه وواجه الرجل الصغير قائلا:
- حضرتك مين,,و ليش عم تسأل..و شو دخلك...
أحمرت رقبة الرجل الصغير من الغضب و أزرقت وجنتيه و صاح..
- و لك ما بتعرف مين أنا....و لك أنا مراقب المصلحة...
أنتظر نور الدين قليلا لعل الرجل الصغير يكمل عبارته ليعرف عن أي مصلحة يتحدث.لكن الرجل الصغير كان على ثقه بأن جميع سكان الكوكب يعرفون المصلحة , و عندما ئيس نور الدين من تلقي أي بيانات جديدة عن المصلحة سأل الرجل الصغير و قد بدا يشعر بتفاهته:
-مصلحة شو بلا صغرة
- و لك مصلحة التنظيفات..أنا المراقب الليلي....و مسئول عن كل فعاليات التنظيف....و أنت عم تنكش بالزبالة يوميا.أجانا شكاوي كتير عن الحاويات المقلوبة و المنكوشة كنا مفتكرين..الكلاب و القطط أتاري في عنا دب..و لك ما بتستحي على طولك..العمى بعيونك..شو بلا شرف..هلق بدي أطلب الشرطة و أخرب بيتك...
أحس نور الدين بخطورة الرجل و خاف أن يتم الإتصال بالشرطة فيزج به مرة أخرى في السجن و تنهار تجارته المزدهرة, فتوسل الى الرجل القصير و أضطر ان يحني قامته الى أقصى مدى حتى كاد أن يقبل اليد الصغيرة.
- دخيلك أوعى تخبر الشرطة..شو ما بدك حاضر..بس خليني أسترزق....
لان الرجل الصغير بسرعة و سحب يده من بين شفتي نور الدين...و مشى نحو العربة الصغيرة المحملة بالأمتعه و سأل نور الدين:
- و قديش عم يطلعلك باليوم من هالشغلة..أكيد بقره جحا..
- الله وكيلك..لا بقره و لا تور...يا دوب...
قاطعة الرجل الصغير بحدة قائلا:
- اسمع ولا....حتى خليك تسرح هون..بدي كل يوم خمسين ليرة بتدفعها قبل ما تبلشش يا أما بتفرقنا بريحة طيبة..
- خمسين..مو كتير...خليها خمس و عشرين...الله يوفقك
- خمسين..يا أما أنقلع من هون...
لم يشأ نور الدين لعمله أن يتحطم من أجل خمسين ليره يوميا وافق و شكر الرجل الصغير و دعا له بدطوال العمر و الصحة و كثرة الولد.
كان نور الدين على موعد في اليوم التالي مع عنصر أمن المنطقة و هذا كان أكثر شدة ووحشية من مراقب المصلحة لأنه قبض على ذراع نور الدين و لواها الى الخلف ثم رفس برجله العربة و بعثر محتوياتها على الأرض,تظاهر نور الدين بالألم الشديد و أخبر رجل الأمن أنه يعاني من ألم شديد في الظهر,تركه رجل الأمن و أكتفى بشتمه و شتم عائلته و أستمر يتمريغ محتويات العربه في الأرض تعثرت رجله بتمثال متوسط الحجم من الحبس رفعه عن الأرضة و تأمله,,ثم سأل نور الدين:
- قديش بيسوا هادا..
- ما بيسوا شي..للكب..و إذا لاقيت مشتري ما بيدفع خمس ليرات..
صفع رجل الأمن نور الدين على وجهه و أستنكر :
- خمس ليرات يا ابن الكلب...طيب..رح آخد التمثال....و كل يوم بدك تشتغل هون..بتدفع خمسين لرية فهمت ولا..
لم يجرؤ نور الدين على المساومة هذه المرة و هز رأسه موافقه ,صفعة رجل الأمن صفعة أخرى و غادر و هو يسحثه على دفع الخمسين ليره قبل المباشرة بالعمل.
لم يهنأ نور الدين بعد ذلك يوما واحدا فقد كان يحظى بشخص جديد كل يوم, الأمن الداخلي, الأمن الخارجي,شرطة الأخلاقيه,الشرطة الجنائية,المكتب السري,حرس السواحل,الهجانه,هيئة مكافحة التهريب,لجنة من أين لك هذا, هيئة من أين لك ذاك ,مصلحة السجون ,شرطة السير,أمن المنشآت العامة,مرافقة الشخصيات الهامة,كتيبة حفظ النظام,فصيلة مكافحة الشغب ,مركز مراقبة الأغذية الفاسده ,عيادة تشخيص الأمراض الساريه ,.....
تشاجر نور الدين مع مندوب وحدة الحفاظ على البيئة لأنه طلب أن يزيد حصته اليوميه الى مائة ليرة رفض نور الدين و أزداد مندوب وحدة الحفاظ على البيئة عنادا و تمسكا بالمائة ليرة و هدد برفع تقرير الى مدير المركز,صرخ نور الدين في وجه المندوب الجشع :
- طز فيك و بمدير المركز تبعك....كس أختك على أختو..شلة حرامية و نصابين.
سارع المندوب و قد أهدرت كرامته و كرامة وحدة المحافظة على البيئة و رفع تقرير بمخالفة نور الدين و لكن نور الدين كان قد غادر المكان و قرر أن لا يعود ثانية. ,أستسلم لبرامج التلفزيون لمدة أسبوع كامل لم يغادر بيته و في اليوم الثامن زاره الرجل الصغير مراقب المصلحة و رجل الأمن القاسي,و توسلوا أليه و كادوا أن يقبلو يديه و رجليه و قالوا له نحن نمثل كل الهيئات و المؤسسات و اللجان العاملة على الجبهة التي كنت تعمل بها نناشدك بكل عزيز و مقدس أن تعود الى عملك فقد أختلت ميزانياتنا الشهرية و قد قطعت عنا خمسيناتك فباسم هؤلاء جميعا نطلب منك العودة معززا مكرما أما وحدة الحفاظ على البيئة فقد تم شطبها من سجلات المنطقة و لم يعد لها وجود لعدم الحاجة أليها....و لكن يجب أن تدفع الخمسين مقدما...
|