المشهد الأول - افتتاحية-

فيك يتعايش ثلاثة شعراء وفيلسوف، فالأول يغني الحب وينظم أشعاراً وأغاني ويعزف على قيثارة شحنتها أصابعك عبثاً وجنوناً وخمرة وقُبَلْ.
والثاني ينزف مع نزيف الوطن، ويتألم كلما مات طفلٌ من الجوع في ناحية من نواحي الكون، ويترصع حزناً مع حزن شريد، ويتراقص فرحاً مع كل عرسٍ جديد.
والثالث ينظم الأشعار الإباحية ويعشق الحياة والخمرة تارة، ويستسلم للحزن ويرحب بالموت والظلم حيناً، مزاجي لا يعرف مبدأً بالحياة ولا يحسب أن لها من معنى، عبثي فوضوي، إرهابيُّ الكلمات. ساهرٌ مزعجٌ ولكنه ورديٌّ أيضاً.
والأخير يفلسف الحياة ويحاول أن يفهم كل الناس، منزوع الأحاسيس، واقعي حد الفجاجة، لكنه متسامح عبقري، يرى ما لا يراه الناس، ويحب الجميع، يحب الإنسان كما هو، بقوته وضعفه، بلحظات عنفه ورقته، إنه لا يحكم أحكاماً نهائية على أحد ولا يقدم شغفه بشيء أمام عقله. قلبه يركن في زوايا جسمه لا يتصرف إلا بما يمليه عليه العقل الناضح الواعي. إنه عدو الشعراء.

كيف استطاع كل هؤلاء أن يعيشوا ويتعايشوا ويتفاهموا في ذات الجسد؟ كيف حمل ذات الشاعر كل هؤلاء وما الذي حدث في أيامه الأخيرة؟
هذا ما سأحاول أن أنقله لكم بأمانة في هذه الأيام الأخيرة.

:redrose:

متابعة

:wr:

المشهد الثاني - صراع داخلي-


يستيقظ الشعراء الثلاثة والفيلسوف في داخل الشاعر، اليوم كان دور الفيلسوف لعمل القهوة، يحسون منذ أيام برغبة جارفة عارمة بالكلام والحوار.
أطرقوا بحزن، وجعلوا ينظرون لبعضهم البعض بألم، إنهم يعلمون أنه لم يبقَ أمامهم الكثير من الوقت، وفجأة ابتسم الشاعر الماجن ابتسامة عريضة أطرق دقائقاً بتفكير عميق، ثم وقف أمام بقية أترابه وقفة الخطيب واستهل الحديث كما يلي:

الشاعر الماجن: أصدقائي وأندادي، يا من خفقتم بذات الفؤادِ، وتشاركنا لحظات فرحٍ وحدادِ، وإيمانٍ وإلحادِ، هذا يومٌ جللٌ عظيم، فلن نحبّ بعد اليوم ولن نهيم، ولن نفكر ولن نتبارى، فلنحكي عن الذي صارَ، كيلا نبقى هكذا حيارى، واسمحوا أن أعطي الإشارة، فيحدد كل منا مسؤوليته عما جرى، فأدعو شاعر الحبِّ يحدثنا عما افترى
وهكذا فللحديث شاعر الحب انبرى:

شاعر الحبِّ: يا ماجنُ قد جئت شيئاً إدّا، ولكن إن كان ليس منه بدّا، فسأصرحُ بهفواتي ومعي كل بناتي.
الماجن: أي بنات؟ أنت لم تتزوج أصلاً.
المحب: بنات أفكاري، فقط لضرورة الوزن.
الماجن: حسناً، تابع.
المحب: لقد عاش معي شاعرنا عيشة ورديّة، وتدفقت روحه حالمةً أبيّة، فصورت له كلَّ فتاة عرفها حوريّة، وأوصلته لجنان الأبدية.
ما عاش معي إلا حبّاً تلو حب، وخففت عليه آلامه في كلِّ درب، وجعلت منها أشعاراً رقيقة، في كل ثانيةٍ ودقيقة، وأرويته الشعر خمراً عتيقا، فطافت روحه ساحرةً أنيقة.
لولاي لأضحى كأي عامل "باطون"، وكأي إبليسٍ شيطانٍ ملعون، وكأي بشريٍّ واقعيٍّ فج، لا يعرف عوالم الحب والأوزان والأغاني ولا يلج.
لذلك فإن حالته التي إليها آل، سببتها رماح الوطني فكانت علينا وبال، والآخر الماجن الجنسي المختال، وصاحبه الفيلسوف المحتال، وهذا ما عندي فطاب القتال.

الماجن: ماذا تقول، بل أنا ...
الشاعر الوطني (مقاطعاً): لحظة، لحظة، دوري.
الماجن: حسناً تفضل أنت الثاني، أشنف آذاننا، أمتعنا...
الوطني: سأضع الهيمان الأخرق في مكانه، فأعدد خصالي وأُخرس لسانه.
فلقد ضيع الهيمون شاعرنا مع البنات، وأدماه بلا طائل بين فتكاتٍ وعنايات.
أما أنا فرفعت روحه نحو اليقظة والوطن، وأسمعته أناشيد حب الأرض فالشجن، ولم أدميه بين أسنٍ ووسن.
فجعلته نحو الإباء والكرامة يرتفع، فآثام الحب والمجون من جذورها يقتلع.
الماجن: ماذا حبيبي؟
الوطني: نعم أنت أوديته للهاوية وصاحبك المحب الغاوية، وذاك الفيلسوف الداهية.
الفيلسوف: من الذي يتحدث عني، الوطني الفاشية؟
الوطني: فاشية بعينك يا معتوه.
الماجن: يا جماعة، وحدوه.
الوطني: ألم ترَ كيف يخاطبني هذا الأحمق...
الفيلسوف: أنت من بدأ يا أخرق، يا مسكراً عقله مغلق.
الماجن: العق.
الفيلسوف والوطني والمحب: ماذا؟؟؟
الماجن(ضاحكاً): لا شيء كنت أفكر بأمر آخر جلل، أحدث في داخل ذاتي بعض البلل.
لنرجع للموضوع، ونفضوها سيرة
فالجدل ممنوع، لكي لا نبقى في حيرة
فأنا يا أصحاب، أمتعته أيما إمتاع
وليس مني العقل منه غاب، ومن الحياة يرتاع.
معي يعيش عيشة الملوك وأكثر
فيحقق هدف الحياة وجسمه يتخدر
معي أنا يصيح الله أكبر
ويشتهي ويتبختر، ويصبح أحلى وأبهى وأنضر
معي أنا وهذه حقائق
يغب من الجمال نائماً وفائق
ويشهق ويزفر بمتعةٍ لا تُبارى
فكيف لنعمي التي عليه بها غادق
سيحزن لثوانٍ أو لدقائق
وكيف ومن وهل أعمالي تُجارى
آه آه، مرة كان مع فتاة هل تعلمون كيف استمتعنا، قمت بالإيحاء له بأن يقوم برفع ساقـــيهـــــ..

المحب والفيلسوف والوطني: قف، بس، خلص، ارحمنا من التفاصيل.
الماجن: حسناً، يا فيلسوف، وبما أنك الوحيد المختلف بيننا، وسبب مأساتنا وذلنا.
ماذا تقول فيما قلنا، ولماذا لم تنطق للآن علنا، لفهم دورك الماكر نصل، ونقطع رأسك فهيا احكِ وقل.
لك احكي مالك خرست؟
الفيلسوف: أنت ماجن تتبع كأخوتك الشعراء الأحاسيس الهابطة البدائية الحيوانية في داخلك، لا تتمتع بأي قدرة على التفكير العميق والذي يحتاج لوقت لتحليل الأمور وتركيبها.
الماجن: دخيل عينك، بلا شتائم وفلسفة وحياتك، احترمنا أو سنرمي لحمك للطير الفاتك.
الفيلسوف: أرى أنكم أنتم ذوي الأحاسيس المرهفة ولكن الماجنة الهائمة والوطنية الفاشية.
الوطني: فاشي بعينك.
الفيلسوف: فليكن، هل يمكن أن أتابع كلامي للنهاية، أنتم لم تتعلموا في المدارس كيف تقبلون الرأي الآخر، شغفكم ضيع صاحبنا، وسيضيعنا كلنا.
الماجن: طيب يا أيها الوطني المقدام، اتركه قبل أن نرميه بالسهام، ثم نقطعه إرباً، حرام (ضاحكاً)

الفيلسوف: لقد نسيتم في حميتكم البلهاء بأننا كلنا خليقة ساعرنا الذي معه نعيش، فلا يمكن لأي منكم تقطيعي إرباً، لأننا شخصيات متخيلة مخلوقة، لا تملكون لها حياةً أو موتاً، وحتى وإن قتلتموني فبعدها بأيام ستكونون وجبةً شهية لضباع الكلام والشعر والحب.
أنا علمت صاحبنا الإنسان الشاعر مالم يعلم، جعلت روحه ترتقي لتفهم مالم يفهم. لم أدعه يرتمي لأحضان الشهوات والنزوات والخمر والجنس والآلهة. وقفت معه حين ضيعته بنتٌ في لحظة هيام حمقاء، أو نزوة جنسٍ بلهاء، أو فكرة وطنية فاشية شنعاء.

الوطني: لا وصار الفيلسوف التعبان ينظم الشعر على آخر الزمان.


وهنا وفي هذه اللحظة بالذات، قال الشاعر العلي في يقظته لهم جميعاً:
اخرسوا
ناموا الآن، سأعود إليك بعد أيام، لأحدثكم واحداً واحداً، فكلكم يختال بخصاله، ناسياً ما فعل بي .. كلكم مسؤول عما يحدث لنا اليوم.
ناموا .. ناموا.
وسآتيكم فيما بعد.
ثم فجأة بدأ الارتخاء والنعس يجتاح أجساد الشعراء الثلاثة والفيلسوف رغماً عنهم، وبدون أن يقدروا لذلك شيئاً استسلموا لسباتٍ طويل.


يتبع.