في الذكرى الأربعين لنكسة حزيران 1967، أعجبني هذا المقال في اللوموند ديبلوماتيك أنقله لكم.

جيل عربي موسومٌ بصدمة الهزيمة

بسمة قضماني


لقد طبعت هزيمة الجيوش المصرية والسورية والأردنية في مواجهة إسرائيل الهزيمة السياسية لجيلٍ راهن على التنمية والوحدة العربية والاشتراكية. ففقدت المجتمعات نقاط ارتكازها، وتحوّلت نحو الدين؛ وهكذا شاهدنا نشوء الحركات الإسلامية التي ازدادت قوّتها بقدر ما برهنت الدوائر الحاكمة عن عجزها وعن تسلّطها، دون هدف آخر سوى البقاء في السلطة.


إذا كانت حرب الـ1967 قد أوقعت نسبياً القليل من الضحايا، فقد دفعت مصر أغلى ثمن (عشرة آلاف قتيل)، في حين لم يتجاوز عدد الجنود السوريين والأردنيين الذين قُتلوا الخمسة آلاف؛ هذا مع العلم بأنّ العرب كانوا ليفضّلوا خسارة رجالهم على خسارة أرضهم وكرامتهم. "فالنكسة" تعني الهزيمة في وجه إسرائيل، لكن أيضاً - وخصوصاً- نهاية قاسية للمشروع الكبير بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كانت تتمثّل بالناصريّة والبعثيّة [1]؛ وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958-1961). فخلال نحو عقديْن من الزمن، بين العاميْن 1950 و1967، أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية للـ"تعويض" عن "النكبة" الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن 1948-1949. ومع العام 1967، أصبح وجود الدولة العبريّة حقيقة لا رجوع عنها، في حين كان يتّضح في إسرائيل الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي، وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة [2].

ولقد كان للهزيمة تأثير جوهريّ على تصرّفات المجتمعات العربية، بل حتى على نظام قيَمها؛ فبفعلها انخفضت قيمة الحياة الإنسانية. لا شكّ أنّ ذلك لا يخفّف من لوعة عائلة فقدت ولدها، لكنّ المجتمعات تعتبر نفسها في حالة حرب، حربٍ شرعيّة، حيث الألم جزء منها. إذ يعود تمجيد الموت إلى تلك الحقبة، أولاً على يد حركة الفدائيّين الفلسطينيّين الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الأرض إنقاذاً للهويّة الوطنية، ثمّ على يد الحركات الإسلامية التي استعادت هذا التمجيد وأكّدته.

أولاً، تعدّ حرب العام 1967 منعطفاً سياسياً في المنطقة، من جهة، مع إضفاء طابعٍ فلسطيني على الصراع العربي الإسرائيلي، ومن جهة أخرى مع التشديد على العامل الديني. وللمرّة الأولى منذ العام 1948، بات للحركة الفلسطينية قيادة خاصة: منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسّست في العام 1964، والتي ستحظى قريباً باعتراف الجامعة العربية على إنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. وانخرطت منظمة التحرير (فتح) في المقاومة المسلّحة في نهاية الستينيات؛ لكنّها، بعد أن أُقفلت في وجهها الدول التي تستطيع التحرّك من خلالها، واحدة تلو الأخرى، لجأت إلى وسائل مقاومة بديلة. فبعد نفيها من الأردن في العاميْن 1970-1971، انخرطت في "الإرهاب الدولي" كوسيلة أساسية لاستراتيجية البقاء التي اتّبعتها؛ ولن تعدل عنها كلّياً إلا في الثمانينيات. هذا الظهور لمجموعات مسلّحة ليس لها دولة تنفّذ اعتداءات في ما وراء الحدود، كان ظاهرة غير مسبوقة. فتصادمت هذه المجموعات مع إسرائيل بقدر ما اصطدمت بسلطات الدول التي كانت تدير تحرّكاتها انطلاقاً منها.

ثانياً، شهدنا منعطفاً في العلاقة بين السياسة والدين، واستمالة مشايخ الإسلام الكبار لشرائح كبيرة من الرأي العام. فلقد التمس جمال عبد الناصر دعم المؤسّسة الدينية، منذ اليوم التالي على الهزيمة والطلب إليه العودة إلى الحكم بعد التظاهرات الكبيرة التي أعقبت استقالته [3]. وقد نجح في ذلك. فغداة الهزيمة، تلا الشيخ محمد متولّي شعراوي، أكثر المسؤولين الدينيّين شعبيةً في البلاد، صلاة علنيّة قال فيها: "أشكر الله على هزيمة مؤلمة ساعدت على توعية الأمّة وجعلتها تدرك بأنها ضلّت الطريق بإقصائها الدين عن القضايا العامة". هكذا وجدت السلطة السياسية في توظيف الدين وسيلة لإعادة بناء شرعيّتها المسلوبة، مُقتنعةً بأنّها ستتوصّل لاحقاً إلى التحكّم في رجال الدين. وقد سمّى عبد الناصر الشيخ شعراوي مسؤولاً عن الإرشاد الديني ضمن الحزب الحاكم الأوحد. غير أنه سيكتشف سريعاً مخاطر ذلك وسيسعى للحدّ من تأثيره.

"أشكر الله على هزيمة مؤلمة ساعدت على توعية الأمّة"
وعندما خلفه أنور السادات في العام 1970، استعاد استراتيجية إشراك رجال الدين. فحلَّّ حينها التواطؤ بين السلطتيْن وتعمّق، وكانت غايته تخدير الشعب ومنعه من مواجهة النظام القائم. بيد أنّ السلطات الدينية نفسها بدأت تستقلّ، واثقةً بتأثيرها على القلوب والعقول؛ فاستثمرت في الحيّز العام: الثقافة، الشؤون الاجتماعية، وسائل الإعلام، العلاقات مع الآخرين - الجار المسيحيّ أو الغربيّ الأبعد لكن الأكثر خطورةً. وبفعل تصاعد نفوذها (الأزهر في مصر، المؤسّسة الوهّابية في المملكة العربية السعودية)، تحوّلت إلى قطبٍ بديلٍ قادرٍ على تنظيم حياة المجتمع وإعطاء معنى لوجوده الجماعيّ؛ في المقابل، وفّرت لهم إمكاناتهم المادّية القدرة على تقديم خدمات اجتماعية لشعبٍ محروم.

إضافة إلى ذلك، وضعت المؤسّسة الدينية، حتى قبل انتشار الحركات الأصولية التي تدّعي انتماءها إلى الإسلام، المسألة الفلسطينية في صلب إشكالية الهويّة، عن طريق تقديسها. فأعادت صياغة المواجهة الوطنية والإقليمية وفق تضادّ "يهوديّ-مُسلم". هكذا، فإن القول بأنّ الحركات الإسلامية كانت ردّاً على إنشاء الدولة العبريّة على أساسٍ دينيّ، هي قراءة استعاديّة خاطئة. فبين 1948 و1967، اعتُبرت إسرائيل تجسيداً لمشروع وطنيّ تناهضه القوميّة العربية والفلسطينية. لكنّ فشل الأنظمة الناصريّة والبعثيّة في العام 1967، حرمها من أيّة قدرة على تكوين منهجٍ واضح لقراءة الصراع. وتحت تأثير المؤسّسة الدينية، أُعيدت كتابة التاريخ: فالأجيال التي ترعرعت بعد العام 1967 والتي تكوّن اليوم الغالبيّة العظمى من الشعوب، تدرس تاريخاً مُشبعاً بالخطاب الديني. ويثير هذا الخطاب أيضاً شعوراً بالذنب لدى كلّ من ينحرف عن التقوى ويضلّ الطريق القويم.

وخلال أربعين عاماً، سيتعمّق الشرخ بين المجتمعات العربية والسلطات القائمة. فلقد أصبحت إدارة الضمائر منوطة بالمؤسّسة الدينية، أمّا إدارة مشاعر الكبت والطموحات السياسيّة فتُركت للحركات الإسلامية التي ستنقسم إلى توجهين أساسيين، أحدهما شرعيّ والآخر "ثوريّ".

ولطالما كانت تتحدّد التوجّهات الإيديولوجية وتتحرّر التيّارات التي تكتسح المنطقة بأسرها انطلاقاً من البوتقة المصريّة. وأُضيف على خزي هزيمة العام 1967 وجود العدوّ الإسرائيلي في الجوار، حيث كانت قوّاته متمركزة على الضفة الشرقية لقناة السويس وفي مرتفعات الجولان، على بعد ما يقلّ عن مئة كيلومتر من العاصمة السوريّة. هكذا تخلّى الأخوان المسلمون عن أفكار سيّد قطب [4]، وعدلوا عن العنف واعتمدوا استراتيجيّة السيطرة التدريجيّة على المجتمع، عن طريق التوسّع الزاحف لعقيدتهم. وإذا كانوا يدعون دائماً إلى الجهاد في مواجهة قوى الاحتلال (إسرائيل أو الوجود العسكري الأجنبي)، فإنهم يتميّزون بوضوح عن الأصوليّين الذين ينادون بتصعيد الحرب ضدّ الكفّار، في الداخل كما في الخارج، انتصاراً لدين لله.

وفي المقابل، ظهر تنظيم "الجماعة الإسلامية" التي صمّمت على الانخراط في ممارسة العنف. إذ ترك أعضاؤها حركة الأخوان المسلمين وقاموا بتوسيع تحرّكاتهم في ثلاث وجهات [5]. بدؤوا أولاً باجتذاب الشباب، إذ تمركزوا في الجامعات، ودخلوا أكثر المدارس الثانويّة امتيازاً، وجندّوا أبناء العائلات البورجوازيّة الكبيرة في دمشق وعمّان والقاهرة والإسكندرية والخرطوم. فالحركة الإسلامية الأصوليّة، التي تعدّ حركة ثقافية وسياسية بالدرجة الأولى، لم تكن يوماً وقفاً على الطبقات الفقيرة. فقادتُها، على غرار قادة "الجماعة" منذ العام 1967، وبعدها قادة القاعدة، هم مثقّفون من الطبقة البورجوازية المتعلّمة والميسورة.

بعدها، أخذوا يطلقون حملات لتعميم ارتداء الحجاب. فأمام "اغتصاب" أرض الإسلام، يعبّر الإسلاميّون عن تشبّث مَرَضيّ بمفهوم الشرف والفضيلة، الذي هو من واجب النساء ومن قدرهم. ولما كان الحكّام قد عجزوا عن حماية هذه الفضائل، فعلى المجتمع والنساء القيام بذلك مباشرة.

وأخيراً، كان التوجّه الثالث لاستراتيجية "الجماعة" هو التدريب الجسدي والرياضي. فانطلاقاً من الفكرة البسيطة حول نظام الحياة الصحّي والجسد السليم، بات المجاهدون يدركون أن انخراطهم في هذه التمارين هو استعدادٌ للعمل المسلّح، وعلى طريق التصادم مع السلطة.

في البداية، وجد الإخوان المسلمون المصريّون، الذين كانت قيادتهم قد استؤصلت بعد عمليّة قمع شرسة، في الحقبة الممتدّة بين العاميْن 1965 و1966، وقُُتل قادتهم أو حُكم عليهم بعقوبات طويلة في السجن، وجدوا في الجاذبيّة التي تمارسها طروحات "الجماعة" على الشباب وسيلةً لإعادة تجديد أنفسهم وتحصين صفوفهم. لكنّ الشباب الغاضب يدعو إلى الحرب، وقد سبق للإخوان أن اختاروا الطريق السلميّة، وهو خيار لن يتخلّوا عنه.

وعند كلّ أزمة كبيرة، سيتكرّر المسار نفسه: القمع الدمويّ للإخوان المسلمين السوريّين في مدينة حماة في العام 1982؛ الملاحقة الشرسة للـ"جماعة" من قبل السلطة المصريّة، في المرحلة الممتدة بيْن 1988 و1992 عقب اعتداءات استهدفت المدنيّين والسياح؛ عقد التسعينات الأسود في الجزائر؛ 11 أيلول/سبتمبر 2001... تلك الأزمات كافة أثارت ردّتي فعل متعاكستيْن: شريحة (أكثريّة) تعدل عن العنف أو العمل في السرّ وتتوجّه نحو الشرعيّة والاعتدال، في حين تتشدّد الأقليّة أكثر وتنخرط في العنف الجهاديّ، عن طريق هجرتها إلى الخارج في غالب الأحيان.

ومع مرور الوقت، اتّضح أنّ الخطاب المعتدل والأساليب الشرعيّة مُربحة على الصعيد السياسيّ، حيث توسّعت شعبيّة دُعاته. وفضلاً عن ذلك، تتّكل السلطات السياسيّة، التي لا تعرف سوى استخدام أجهزة المخابرات العتيدة، على الإسلاميّين المعتدلين في السعودية ومصر والأردن والمغرب، لمساجلة الأصوليّين على الصعيد العقائديّ، والحدّ من اجتذابهم للشباب ومهاجمة العنف. التجربة مقنعة، فوزن المجموعات المسلّحة، سواء أكان ذلك في مصر أم في الجزائر، يشهد تراجعاً. لكنّ التوجّه الإسلامي أصبح يفرض نفسه كنمطٍ فكريّ ونموذجٍ اجتماعي، بدفعٍ من المعتدلين والمؤسّسات الدينية، مع توسّع النزعات المحافظة وتراجع الحرّيات.

ولقد ترتّب أيضاً على هزيمة العام 1967 سقوط الجماعات التي كانت تمسك بالسلطة في سوريا والعراق والسودان وليبيا. لكن تلك كانت آخر الإرهاصات من هذا النوع، في حين أنّ اللااستقرار السياسي كان، منذ العام 1948، جزءاً من المشهد الشرق أوسطيّ، وكانت الانقلابات تتعاقب فيه. فمنذ قرابة الأربعين عاماً، ترسّخ القادة أنفسهم (أو أبناؤهم) في سدّة الحكم [6].

وفي العام 1973، شهدنا يقظةً لا تزال تشكّل نموذجاً في المخيّلة العربية. فالحرب التي شنّتها القاهرة ودمشق في شهر تشرين الأول/أكتوبر ولّدت على الفور شعوراً بأنّه يمكن الثأر لإهانة العام 1967 وقلب ميزان القوى. على الصعيد الاستراتيجي أولاً، كانت التعبئة المتضافرة للطاقات العسكرية والنفطيّة تحمل على الاعتقاد بوجود تضامنٍ عربيّ، في غياب الوحدة، يمكنه أن يحقق آمال الأطراف الضعيفة، وفي طليعتها الفلسطينيّين. وعلى الصعيد السياسيّ، كان للعالم العربي صوتٌ واحد، وكان يعبّر عن مطالب متجانسة. وأخيراً، على الصعيد الاقتصادي، كان هنالك أمل في أنّ المجتمعات ستستفيد من "المَنّ" المفاجئ الذي تدفّق باتجاه الدول النفطيّة، بفضل توزيع الثروة من قبل الحكّام.

شهد العام 1973يقظةً لا تزال تشكّل نموذجاً في المخيّلة العربية
لكن اتّضح لاحقاً كم كانت تلك الآمال وهميّة. فعلى الصعيد العسكري، لم تحرز الحرب أيّ تقدّم، بل كانت عبارة عن مباراة متكافئة. ولقد جرى تحديد تاريخ المفاوضات والتسويات حتى قبل البدء بالمعارك. فبعد اجتياز قناة السويس بنجاح، توقّف الجيش المصري بأمرٍ سياسيّ: إذ أراد الرئيس السادات، فقط بكلّ بساطة، تحريك خطوط وقف إطلاق النار العائدة إلى العام 1967 للدخول في مفاوضات انطلاقاً من موقعٍ أفضل. خافت إسرائيل، لكنْ جرت طمأنتها باكراً جداً، قبل إرغامها على الالتزام لمصر بإعادة الأراضي المحتلّة في العام 1967.

وسرعان ما برهنت الدول الرائدة، أي مصر والسعودية، بأنّ التضامن العربي الجديد رهنٌ بدعم ومساعدة الولايات المتحدة. فقد ترافقت أخيراً الثروة غير المتوقّعة، التي استفادت منها الدول النفطيّة، وتأثيراتها الإيجابية على الدول العربية الأخرى - خاصة تحويلات الأجور التي ترسلها إلى بلدانها اليد العاملة المهاجرة بكثرة إلى دول الخليج - مع ارتفاعٍ لا سابق له للفساد وللصفقات الطفيلية ولسوء أحوال المجتمعات. هكذا أغنى النفط وعزّز السلطات القائمة التي كانت الدول المستهلكة تخطب ودّها. وفي حين تطوّرت فعاليّة أجهزة الأمن والرقابة، تلاشت صورة الدول البوليسيّة أمام صورة الصفقات المغرية التي تعرضها هذه الدول؛ فتعزّزت هيمنة هذه السلطات على المجتمع بفعل استمالة النخب القديمة - "اغتنوا!" - وعبر خلق بورجوازيّة دولة جديدة. وستسمح هذه الثقة المكتسبة للسلطات بالتنازل والقيام ببعض الإصلاحات الشكليّة (خصوصاً تعدّدية حزبيّة ظاهريّة) سعياً إلى تصحيح نسبي لصورتها.

هكذا بعد خمسة عشر عاماً، لوحظ بأنّ عقد "الطفرة" النفطية لم يُستغَلّ لتحسين ظروف الشعوب المعيشيّة، بل بُذّرت الأموال بصورة لا تُغتفر، كما حصل في الجزائر. واستبدلت دول الخليج تدريجيّاً بالعمّال العرب اليد العاملة الآسيويّة، فسُدّت السُبُل بوجه مئات الآلاف من الشباب المحكومين بالبطالة في بلدانهم.

وسط هذا المشهد، ما هو تأثير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، سابقاً وحالياً ؟ هل هو فعلاً أساسيّ؟ هل حلّه هو المفتاح لازدهار المنطقة؟ ففي الولايات المتحدة، وأكثر فأكثر في أوروبا، لا يؤمن أحد بذلك - أو لم يعد يؤمن. ويجب القول بأنّ هذه اللازمة لم تعد تصل بسهولة إلى الآذان، ويبدو أنها لا تندرج في سياق التطوّرات التي شهدتها المنطقة، منذ نهاية السبعينيات. إذ قرّر الرئيس السادات، في تلك الحقبة، إجراء تغيير جذريّ في توجّهاته وأولويّاته وتحالفاته - فطرد المستشارين الروس واستقبل الولايات المتحدة - لاستعادة صحراء سيناء. وتخلّى عن الفلسطينيّين ووقّع اتفاقيّة سلام منفصلة في كامب ديفيد مع إسرائيل في العام 1978. قطعت الدول العربية علاقاتها بالقاهرة التي وجدت نفسها من ثَمَّ محرومة من دور القائد الذي لعبته مصر طوال عقود من الزمن.

كان تصاعد قوّة السعودية ودول الخليج، ونفوذها الماليّ، حاملاً للقيم الدينية، والنزعات الاستهلاكية، والتعاطف، بل الامتنان، إزاء الدول الأنكلوساكسونيّة التي ساعدتها على تعزيز سلطتها، بل أجلست البعض على عروشهم ضمن كيانات إقليمية مفصّلة على قياساتهم. وفي حين كانت مصر تروّج لـ"مصريّتها"، كانت النخب الخليجية تريد بناء مستقبلها الوطنيّ وأمن الجزيرة العربية، دون أن يخلو الأمر من نوع من الشعور الشوفينيّ بأنّ لا واجبات عليها تجاه "قضيّة عربية" ستكون هي المموِّل الوحيد لها. والأولويّة التي حدّدها الأردن لنفسه هي الدفاع عن أرضه وسيادته، بالتخلّص من المقاومة الفلسطينيّة. وقامت سوريا بالشيء نفسه عند تدخّلها في لبنان في العام 1976 وهجماتها للحدّ من قدرات منظمة التحرير الفلسطينية، على نحو يتناقض مع خطاب دمشق القوميّ الذي كانت تحافظ عليه دون أي تعديل.

في الولايات المتحدة، وأكثر فأكثر في أوروبا، لم يعد أحد يؤمن بمحوريّة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني
وقد كشفت الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، في العاميْن 1978-1979، وحرب الثمانية أعوام التي شنّها صدام حسين ضدّها، عن محور آخر للنزاعات، أكثر دمويّة بكثير من الصراع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي ساهم في تسهيف أنصار محورية الصراع الإسرائيلي العربي. فلقد جرى تبذير قدرة العراق على تغيير التوازن الإقليميّ، عن طريق تعبئة كافة موارد البلاد لمواجهة الخطر الشيعي بشكلٍ مهووس، سواء في الداخل أم في الحرب مع الجار الإيراني. وهكذا وضع قرار صدّام حسين باجتياح الكويت في العام 1990 حدّاً لأيّ أملٍ بأن تُستخدَم قوّته لوضع حدٍّ لإسرائيل. وخرج بالتالي ثاني أكبر بلد عربي، بعد مصر، من المعادلة الاستراتيجية الإسرائيلية العربية.

وإن كانت هزيمة العام 1967 والتقارب الذي استتبع ذلك بين مصر والسعودية قد وضعتا حدّاً للحرب الباردة العربية بين "الدول التقدّمية" الحليفة للاتّحاد السوفيتي و"الدول الرجعية" المتحالفة مع الولايات المتحدة، فلم يجرِ إنشاء أيّ نظامٍ أمنيّ إقليميّ قادر على إدارة الأزمات وحلّ الصراعات؛ حتى بدأ التشكيك بمفهوم العالم العربي نفسه، الذي استُبدل به في غالبيّة الأحيان مفهوم "الشارع العربيّ" الذي تحرّكه مشاعر مشتركة، لكن المتّسم أساساً بالعجز.

إنّ غياب الديمقراطية في سائر أنحاء العالم العربي حرم المجتمعات من حيّز للحوار وآليّات للمشاركة
لقد سمح مفهوم "محوريّة الصراع العربي-الإسرائيلي" للحكّام الحاليّين بالاستحواذ على السلطة وتبرير النفقات الباهظة المتعلّقة بالتسلّح والتوسّع الأخطبوطي لأجهزتها الأمنيّة، مع اعتماد الخطاب القوميّ. لكن لا شكّ أنّ الصراع الفلسطينيّ لا يبرّر العنف الذي تمارسه بعض الأنظمة إزاء مجتمعاتها وهيمنتها على مرافق الحياة العامّة كافّة؛ ولا يبرّر أيضاً الإدارة السيّئة والتسلّط والفساد والقسوة التي يمارسها القادة إزاء مواطنيهم.

لكن إذا كان القادة يستخدمون ضرورات الصراع مع إسرائيل بهذا القدر من الفعّالية، فذلك لأنّ الصراع يُقولب الوعي الجماعيّ لدى العرب. إذ هنا في الحقيقة تكمن مركزيّة الصراع: فالعلاقة مع إسرائيل تحدّد حكم الرأي العام على كلّ سلطة أجنبيّة، وعلى توجّهات وخطابات مختلف القوى السياسية. ففيما يخص شعوب المنطقة، يجب البحث بلا كلل عن الإطار الأفضل (العربيّ أو الإسلاميّ) القادر على تحسين الموقف العربيّ تجاه إسرائيل. إنّهم يرفضون أيّة معركة لا تهدف إلى مواجهة الدولة العبريّة، ويعبّرون عن تحفّظاتهم إزاء الانخراط في معارك قد تحوّل الطاقات عن هذا الهدف وتكون، من ثَمَّ، "غير وطنيّة". هكذا يمكن تفسير الجاذبيّة التي تمارسها أيّة حركة ترسم استراتيجيّة جديدة ضدّ إسرائيل، من حماس إلى حزب الله، وصولاً إلى المحاولة العدميّة لدى البعض في التصفيق للأفعال التي تقترفها القاعدة. وإن كان هذا الصراع لا يحدّد، بوجهٍ كامل، التركيبة الاستراتيجية الإقليمية، فهو يستمرّ في تحديد التصرّفات.ومهما حاول القادة دفنه في التراب، فالوحش النائم يعود في كلّ مرة ليعضّهم.

لقد أثّرت هزيمة العام 1967 في جيلٍ كامل أُصيب بالصدمة، على غرار ما حصل للفرنسيّين بعمر العشرين أمام هزيمة العام 1940. توحّد هذا الجيل في الخسارة، مذهولاً، فـ"القلوب سقطتْ [7]". وقد سُلب الجيل السابق التحكّم في مصيره؛ وكانت خيبته فظيعة. لكنْ، للجيل الذي كان على أبواب النضوج، فالأمر أكثر جسامةً: كان يجب بناء المستقبل انطلاقاً من واقعٍ مشلول. هكذا فلقد تغيّر الحيّز العربيّ، جسديّاً. إذ تمّت خسارة الحرب والعديد من الأراضي. وكان المطلوب هو قبول إسرائيل ضمن الحدود التي يعترف العالم لها بها، حدود 4 حزيران/يونيو 1967، على أمل أنّها ستكتفي بها، مقابل مبادرات حسن النية التي تطالب بها.

ولكن الجيل الجديد قد تموضع، ذهنيّاً، بطريقة مختلفة في الزمن. فقد فتح عينيْه على العالم، مُدركاً بأنّ الأيام الجميلة، حيث يكون للمجتمعات مستقبل مشترك، قد باتت وراءه. التفكير بالمستقبل يترافق مع الخوف، والأفق مسدود؛ ولا يمكن إيجاد البوصلة في الماضي. وبرأي العديدين، أصبح الوهم والأسطورة هما الملجأ بدل الذاكرة الحيّة. هكذا حيكت الثقافة السياسيّة لتلك الأجيال العربية التي نشأت في حقبة ما بعد العام 1967، وهي المُعادية للإمبريالية، والقوميّة التوجّه أو الإسلاميّة، وفق ترسيمة الحرب؛ ووعيها مُحاط بخطوط وقف إطلاق النار العائدة إلى 12 حزيران/يونيو. وعدّلت إسرائيل الحدود العسكريّة والاستراتيجيّة، ثمّ بتوسيع الاحتلال، غيّرت الواقع الاقتصادي والإنسانيّ.

أمام هذا الغوص البطيء للدول العربية، كان الفلسطينيّون بحاجة إلى الكثير من الشجاعة: الشجاعة على المحاربة وتنظيم المقاومة من جهة؛ والشجاعة على التبصّر من جهة أخرى، ليبقوا مدركين بأنه يجب استخدام العمل العسكري، عاجلاً أم آجلاً، كوسيلة لإجراء مفاوضات والقيام بتسويات. كان ياسر عرفات ورفاقه يعون ذلك منذ بداية السبعينيات، لكن خلافاً للقادة العرب، لم يختاروا أبداً التقدّم بمفردهم وفرض إرادتهم بالقوّة. ولطالما سعوا إلى الحوار بين المنظمات الفلسطينيّة، إلى التسوية، بكلمة واحدة إلى الالتزام بما تمليه الضرورة الديمقراطية. لقد برهنت على ذلك أيضاً انتخابات كانون الثاني/يناير 2006 التي أوصلت حركة حماس إلى السلطة، إضافة إلى الجهود المبذولة من الطرفيْن لإقامة حكومة اتّحاد وطنيّ، هشّة وعاجزة إلى الآن عن تحقيق الأمن، كما أظهرت المواجهات الحاليّة، لكن رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس فضّلها على استعادة زمام الأمور بالقوّة.

إنّ غياب الديمقراطية في سائر أنحاء العالم العربي حرم المجتمعات من حيّز للحوار وآليّات للمشاركة؛ وهو ما حمل النخبة المثقّفة على المحاولة بمفردها التفكير بهذه المسألة، في حين كان القادة يحاولون التفاوض حول سلام - سلامهم - والشعب المتروك يبحث عن حلولٍ لمشاكله اليوميّة المقلقة في ظلّ حكومات لم يعد ينتظر منها الكثير. لا مبالٍٍ؟ بالأحرى مستسلم للعجز، لكنّه يبحث عن وسائل بديلة للتنظيم الاجتماعي.

لم يعرف العالم العربي كيف يناقش الماضي، "سمّ العقل" هذا، كما يسمّيه بول فاليري؛ ولا تمكّن من تخطّيه. في غضون أربعين عاماً، غيّرت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة استراتيجياتها وقياداتها وخطابها ومراجعها، لكنّ أربعين عاماً من الاحتلال أثبتتْ أنّه لا يمكن تدميرها. والسيّد هنري كيسنجر، الذي أطلق جملته الشهيرة - "وداعاً منظمة التحرير الفلسطينية bye bye PLO"-، لم يعد هنا لاستقبال حركة حماس. وأما للجيل الذي طبعته الحرب، فتبقى معالجة المسألة الفلسطينيّة هي الشرط الذي لا يمكن تفاديه والعامل المحرِّك للتفكير بالمستقبل بصفاء. وبخلع هذا القفل، يصبح من الممكن مواجهة الأنظمة القائمة ونشر الديمقراطية والحرّيات، دون التعرّض للاتهام بخيانة القضية العظمى؛ وطرح مسألة العبء الذي تضعه الجيوش وأجهزة الأمن على كاهل المجتمعات؛ وإعادة النظر بالفكر الإسلاميّ الموحّد، وإقامة علاقات أكثر ثقةً بالخارج، وبالغرب بوجه خاصّ.





* مديرة مبادرة الإصلاح العربيّة، باريس؛ من مؤلّفاتها: La diaspora palestinienne, PUF, Paris, 1997, The Danger of Political Exclusion. Egypt’s Islamist Problem, Carnegie Endowment for International Peace, Washington, 2006.





[1] تسلّم جمال عبد الناصر (1918-1970) الحكم في مصر في العام 1952، مع الضبّاط الأحرار، وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة. وكان لحزب البعث، الذي أُسّس في العام 1947 تحت شعار "وحدة، حرية، اشتراكية"، نفوذ في صفوف العسكريّين وأوساط الطبقات الوسطى. تمكّن هذا الحزب الذي يتمتّع بـ"فروع" تابعة له في كافة الدول العربية، من الاستئثار بالحكم في سوريا والعراق في مرحلة الستينيات. غير أنّ العلاقات السيئة والخلافات بين دمشق وبغداد ستحول دون أيّ تحقيق لوحدة عربيّة.

[2] Ian S. Lustick, Unsettled States Disputed Lands, Britain and Ireland, France and Algeria and the West Bank-Gaza, Cornell University Press, 1993

[3] إثر الهزيمة، استقال عبد الناصر في 9 حزيران، ثم عاد عن قراره بعد المظاهرات الضخمة التي طالبته بالعدول عن الاستقالة.

[4] عضو في جماعة الإخوان المسلمين، ومنظّر للعنف كاستراتيجية سياسية، استوحت منه الحركات الجهادية. أُعدم بأمر من عبد الناصر في العام 1966.

[5] صفحة مجهولة في طريق الحركة الإسلامية المعاصرة، من النكسة إلى المشنقة، شهادة لطلال الأنصاري، بقلم عبد الله سرور، المحروسة، القاهرة، 2006.

[6] Farouk Mardam-Bey et Elias Sanbar, Etre arabe, entretiens avec Christophe Kantcheff, Actes Sud, Arles, 2006.

[7] Charles Taylor, “ A Different Kind of Courage ”, The New York Review of Books, 26 avril 2007

الصديق العزيز طارق القداح
تحية الحياة وبعد
لانك تعلم - بالتأكيد - مدى احترامي لك ومحبتي فقد عيرت رقم تلفونك في باريس دون ان تخبرني؟؟
بالعل حاولت الاتصل بك من هناك ولكن - للاسف - الخطوط وارقام متغيره
انا سعيد جدا بلقائك الان راجيا ان ترسل لي عنوان بريديك الالكتروني
على عنواني التالي


اما بالنسبه للهزيمه فقد اعجبني المقال وبخاصه
Array"وخلال أربعين عاماً، سيتعمّق الشرخ بين المجتمعات العربية والسلطات القائمة. فلقد أصبحت إدارة الضمائر منوطة بالمؤسّسة الدينية، أمّا إدارة مشاعر الكبت والطموحات السياسيّة فتُركت للحركات الإسلامية التي ستنقسم إلى توجهين أساسيين، أحدهما شرعيّ والآخر "ثوريّ"."[/quote]

ومع ذلك فان ماغاب عنه هو الاهم وقد كشفه حسنين هيكل فيما سماه حلف الايمان الذي قاده شاه ايران والسعوديه والسادات وملكا المغرب والاردن برعاية كسينجر
هذه الحلف اطلق فاعليات دينيه هستيريه ضد الافكار القوميه والاشتراكيه بعد غياب زعامته الاعلاميه والساسيه الناصريه وتشرذم بقاي متناحره في سوريا والعراق والفصائل الفلسطينيه خدرتها الرشاوي الخليجيه
وادت الى تقهقر ناعم مالبث ان انفجر في الثمانينات بعد ثورة الخميني التي تطلبت وماتزال خصما طائفيا سنيا واثارة للنعرات والمخاوف العربيه ضد الفرس
ونحن مانزال في هذه الاجواء
وايظهر من حركات من هذا التيار وعلى مستوى عالمي هو اما ردات فعل يائسه باسه او توجهات تم التخطيط لها مع تطلبات العدو الاسلامي المفيد امريكيا وما يصرف عليه من امريكا -هنا وفي العالم الاسلامي واوروبا - اقل مما يصرف في اسبوع قتال واحد في العراق

هذا العدور الاسلامي هو البيضه الذهبيه التي ترعاها امريكا بشكل يبرر لها تقوية الغرب عامة للتمحور حول هويه مشررع سيطره وتعبئه وتدريب وتصنيع وضبط و غزو سياسي كادت ان تفقد بعد سقوط السوفييت

مرة اخرى الاكلاف زهيده جدا والمنافع هائله
اما المتدينون المتحمسون الذي يققاومن فسطاط الكفر فهو كلهم تحت تصرف متطلبات هذا الفسطاط وعندما يدركون ذلك يزمجرون على طريقة بن لادن


على كل سعدت جدا بلقائك واتمنى لك وللاصدقاء في الموقع دوام التقدم

عزيزي؛

لقد تغير سكني وأرقام تلفوناتي مرتين منذ آخر مرة تحدثنا فيها، ولم يظهر لي عنوانك البريدي في الرد أعلاه.
هذا عنواني البريدي:
tarek@alkadah.com

مع فائق تحياتي
وأتمنى أن نبقى على تواصل

طارق القدّاح

الست بسمة حاولت في مقال واحد أن تعالج أربعين عاماً من السوسيولوجيا والانثربولوجيا والسيكولوجيا والثيولوجيا والهيستوريولوجيا والبوليتيكس والإيكونوميكس العربية فكان أن ضلت وأضلت :10:
أين هو هذا الجيل العربي الـ "موسوم بصدمة الهزيمة" بعد مرور 40 سنة ؟
نظرة سريعة على متوسط الأعمار في العالم العربية ستقول لنا أن أولئك الذين تلقوا صدمة الهزيمة إما قد ترممت عظامهم في القبور أو خرجوا من دائرة الحركة والحيوية في المجتمع بحكم السن .

مقتطفات :

Array ولقد كان للهزيمة تأثير جوهريّ على تصرّفات المجتمعات العربية، بل حتى على نظام قيَمها؛ فبفعلها انخفضت قيمة الحياة الإنسانية. لا شكّ أنّ ذلك لا يخفّف من لوعة عائلة فقدت ولدها، لكنّ المجتمعات تعتبر نفسها في حالة حرب، حربٍ شرعيّة، حيث الألم جزء منها. إذ يعود تمجيد الموت إلى تلك الحقبة، أولاً على يد حركة الفدائيّين الفلسطينيّين الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الأرض إنقاذاً للهويّة الوطنية، ثمّ على يد الحركات الإسلامية التي استعادت هذا التمجيد وأكّدته.[/quote]

الفدائيون والإسلاميون لم يمجدوا الموت بل مجدوا مقاومة الاحتلال والظلم وإن كان ثمنها الموت ، الموت هنا لا يطلب لذاته ولكن لارتباطه بمعنى وقيمة تحملان كل الجدارة وكل الصدقية الأخلاقية والإنسانية : بالنسبة للإسلاميين هو استشهاد واجب ـ أوجبه الله ـ دفاعاً عن أرض إسلامية وبالنسبة لغيرهم هو افتداء للوطن وللسيادة ولحق تقرير المصير .
أما منبع تمجيد الموت بهذا المعنى فلا أظن أن له أي علاقة بهزيمة 67 ، ليس فقط لأن مقاومة الفلسطينيين لإسرائيل سابقة على هذه الهزيمة ولكن لأن "الموت المجيد" دفاعاً عن الأرض والحق هو من البداهات الكونية التي لن يعجز المنطق الحيوي عن تفسيرها ، البشر يقدمون حياتهم دفاعاً عن أوطانهم ، هذه حقيقة بسيطة ملازمة للوجود الإنسان بصفة عامة ، وإذا اعتبرنا موت الفلسطينيين دفاعاً عن أرضهم تعبيراً عن "انخفاض قيمة الحياة الإنسانية " لديهم ، فعن ماذا ـ بحق الجحيم ـ يعبر الموت في سبيل الاستيلاء على اراضي الغير ؟ موت الأميركيين في العراق مثلا ؟


Arrayثانياً، شهدنا منعطفاً في العلاقة بين السياسة والدين، واستمالة مشايخ الإسلام الكبار لشرائح كبيرة من الرأي العام. فلقد التمس جمال عبد الناصر دعم المؤسّسة الدينية، منذ اليوم التالي على الهزيمة والطلب إليه العودة إلى الحكم بعد التظاهرات الكبيرة التي أعقبت استقالته [3]. وقد نجح في ذلك. فغداة الهزيمة، تلا الشيخ محمد متولّي شعراوي، أكثر المسؤولين الدينيّين شعبيةً في البلاد، صلاة علنيّة قال فيها: "أشكر الله على هزيمة مؤلمة ساعدت على توعية الأمّة وجعلتها تدرك بأنها ضلّت الطريق بإقصائها الدين عن القضايا العامة". هكذا وجدت السلطة السياسية في توظيف الدين وسيلة لإعادة بناء شرعيّتها المسلوبة، مُقتنعةً بأنّها ستتوصّل لاحقاً إلى التحكّم في رجال الدين. وقد سمّى عبد الناصر الشيخ شعراوي مسؤولاً عن الإرشاد الديني ضمن الحزب الحاكم الأوحد. غير أنه سيكتشف سريعاً مخاطر ذلك وسيسعى للحدّ من تأثيره.[/quote]

أستطيع بقدر من الاطمئنان أن أنفي هذا الهراء جملةً وتفصيلاً .
لا يوجد أي مؤشر حقيقي في تاريخ هذه الحقبة يدل على أن عبدالناصر "التمس دعم المؤسسة الدينية" ، أما الشيخ الشعراوي فتقول سيرته أنه كان يعمل بالجزائر رئيساً للبعثة الأزهرية هناك عند وقوع الهزيمة ولما عاد إلى مصر بعد سنتين تولى مسئولية دينية في محافظة الغربية .
لكن حدث أن الشيخ ذكر في حديث تلفزيوني (أجري معه في التسعينات ) أنه لما علم بالهزيمة صلّى لله حمداً وشكراً .


Arrayوأما للجيل الذي طبعته الحرب، فتبقى معالجة المسألة الفلسطينيّة هي الشرط الذي لا يمكن تفاديه والعامل المحرِّك للتفكير بالمستقبل بصفاء. وبخلع هذا القفل، يصبح من الممكن مواجهة الأنظمة القائمة ونشر الديمقراطية والحرّيات، دون التعرّض للاتهام بخيانة القضية العظمى؛ وطرح مسألة العبء الذي تضعه الجيوش وأجهزة الأمن على كاهل المجتمعات؛ وإعادة النظر بالفكر الإسلاميّ الموحّد، وإقامة علاقات أكثر ثقةً بالخارج، وبالغرب بوجه خاصّ.[/quote]

أنا لا أرى للقضية الفلسطينية هذا التاثير على المجتمعات العربية وسياسات النظم الحاكمة ، وما يشاع عن أن هذه النظم تستخدم القضية لخدمة استبدادها واستمرارها في الحكم هو مجرد تكرار بليد لفرضية نظرية قديمة رثة إن صحت جزئياً على أوضاع الستينات (وهي لم تصح في رأيي) فهي غير ذات معنى اليوم .

............الخ الخ