إمداد المقاتلين بالملائكة
كيف تم تجنيد الملائكة للقتال مع المؤمنين , وهل كان ذلك صحيحا
لم يكتف محمد بالجنة , بل عمد إلى إمداد المقاتلين بالملائكة , وهو لا يريد بذلك إلا تشجيعهم وتقوية قلوبهم حتى لا يخالجها الخوف ويتطرقها الفزع , كما وقع ذلك في يوم بدر فإنه لما رأى جيشه قليلاً وجيش عدوه كثيراً , أحسّ بهول الموقف وخطر الحالة , فوقف وقفته المعلومة في العريش وأخذ يبتهل إلى الله ويدعوه أن ينصره وينجز له ما وعده ؛ فعن عمر بن الخطاب : أن رسول الله نظر يوم بدر إلى المشركين وهم ألف , وإلى أصحابه وهم ثلثمائة , فاستقبل القبلة , ومد يديه يدعو , اللهم أنجز لي ما وعدتني , اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض , فما زال كذلك حتى سقط رداؤه , فأخذه أبو بكر وألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك (1)
ثم أنه خرج إلى أصحابه فعدل صفوفهم وقال لهم أن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل واستبقوا نبلكم , وقال لهم لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم , وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه (2) , وبشرهم أن الله ممدهم بالملائكة يقاتلون معهم (3) كما جاءت حكاية ذلك في سورة آل عمران : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى لكم ولطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ) (4) 0
وإذا تأملنا ظاهر الآية الأخيرة ( وما جعله الله إلا بشرى ) الخ رأيناه صريحاً في أن الإمداد بالملائكة لم يكن حقيقياً وإنما كان لإزالة خوفهم وتسكين روعهم وتقوية قلوبهم بالملائكة , لأنهم إذا علموا أن الملائكة معهم اطمأنت نفوسهم وزال خوفهم ووثقوا بالنصر وخاضوا غمار الحرب آمنين مطمئنين , وكل من تكون هذه حالته في الحرب كان له النصر لا محالة 0
فإن قلت : كيف يقال أن الملائكة لم يقاتلوا يوم بدر , وفي سورة الأنفال ما يدل على أنهم أمروا بالضرب وذلك في قوله تعالى ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) (4) , قلت : قال الزمخشري عند قوله : ( سألقي فاضربوا) : يجوز أن يكون تفسيراً لقوله : ( إني معكم فثبتوا ) , إذ لا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة , ولا تثبيت ابلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة , أي أنا سألقي الرعب وأنتم فاضربوا , فالضاربون على هذا هم الملائكة , قال : ويجوز أن يكون قوله : ( سألقي ) إلى قوله : ( كل بنان ) عقيب قوله : ( فثبتوا الذين آمنوا ) تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم قولي سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب , وقولهم لهم فاضربوا فوق الأعناق أو كأنهم قالوا : كيف نثبتهم ؟ فقيل : قولوا لهم سألقي قال : فالضاربون على هذا هم المؤمنون (5) اه فبهذا علمت أن الآية ليست نصاً في قتال الملائكة ولذا جاز أن يختلف العلماء في قتالهم , ومما يدل على أن الإمداد بالملائكة لم يكن حقيقة يوم بدر ما ذكروه من عدم إمدادهم بالملائكة يوم أحد , قال الحلبي في سيرته , وقد نزل قبل أن يخرج النبي إلى أحد قوله تعالى : ( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) (6) , قال : فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله بملك واحد يوم أحد (7) 0
فانظر كيف علق إمداد الملائكة بصبرهم في الحرب , لأن الصبر به يكون النصر وبه يتم الظفر , فإذا صبروا فظفروا صح أن يقال لهم : أن الله أمدكم بالملائكة , وإن لم يصبروا فانهزموا , لم يصح أن يقال لهم ذلك , بل صح أن يقال لهم أن الله لم يمدكم بالملائكة لأنكم لم تصبروا في الحرب 0 وكذلك كان الحال يوم أحد , فإن الله لم يمدكم بالملائكة لأنهم انهزموا , فكيف مع الهزيمة يقال لهم أن الله أمدكم بالملائكة , وهذا صريح في أن قصة الإمداد بالملائكة لم تكن إلا لتقوية قلوبهم وحملهم على الصبر والثبات في صدمة الحرب , وإلا فليس في الحقيقة إمداد ولا ملائكة )
يتبع
(1) صحيح البخاري , كتاب الجهاد والسير , الحديث رقم : 2844 0
(2) سورة آل عمران , الآية : 161
(3) سنن الترمذي , كتاب السير , الحديث : 1499 , سنن ابن ماجة , كتاب الجهاد , الحديث : 2839 0
(4) مسند أحمد , مسند العشرة المبشرين بالجنة , الحديث : 198 0
(1) السيرة الحلبية , 2 / 163 0
(2) السيرة الحلبية , 2 / 161 0
(3) السيرة الحلبية , 2/ 163 0
(4) سورة أل عمران , الآيات : 123 – 126 0
(4) سورة الأنفال , الآية : 12 0
(5) تفسير الكشاف , تفسير الآية 12 من سورة الأنفال 0
(6) سورة آل عمران , الآيتان : 124- 125 0
(7) السيرة الحلبية , 2/ 163 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب – معروف الرصافي 0
|